من يعيد للموتى في النبطية قبورهم وشواهدها؟

مرّ شهر ونصف الشهر على وقف إطلاق النار بين لبنان و”إسرائيل” برعاية أميركيّة وفرنسيّة في الـ 27 من تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ولم تزل قبور جبّانتي النبطية القديمة “جبّانة آل جابر” وجارتها الأحدث والتي تليها القريبة من النادي الحسيني مشرّعة على السماء وأمطارها ومناخاتها المتقلّبة من دون أيّ مبادرة للبحث عن الهياكل العظمية ورفات الموتى التي قذفتها انفجارات الصواريخ بعيدًا من مكانها، أو ترميم أكثر من 600 ضريح تحطّمت شواهدها واللوحات الرخاميّة التي تعلوها.

ففي الـ 14 من تشرين الثاني الماضي استهدفت الطائرات الحربيّة الإسرائيليّة جبّانة النبطيّة القديمة التي تقع شمال المدرسة المهنيّة الفنّيّة العالية في النبطية، والتي قامت اصلًا على أنقاض جبّانة أقدم منها تعود إلى نحو 200 عام. وأصاب أحد الصواريخ جارتها الجبّانة “الجديدة” الواقعة جنوبيّ النادي الحسينيّ للمدينة ممّا أدّى إلى اختفاء مجموعة من القبور وتلاشيها وإحداث حفرة كبيرة في مكانها، وتحطّم مئات أخرى بأضرار متفاوتة. تضاف إلى ذلك غارة استهدفت بناية آل شمس شمالي المقبرتين سبّبت هي الأخرى في تضرّر عشرات الأضرحة المجاورة، منها أضرحة عدد من الفلسطينيّين المدفونين هناك.

600 ضريح متضرّر

إلى استهداف الأضرحة في الجبّانتين، دمّر صاروخ من طائرة حربيّة “المصلّى” الواقع عند مدخل الجبّانة القديمة وحوّله إلى ركام. كذلك غطّت أكوام الردم والأتربة عديدًا من القبور إلى مسافة 200 متر مربّع.

أكثر من 600 ضريح متضرر في جبّانة النبطية جرّاء القصف الاسرائيلي (الصور كامل جابر)

ويشير مختار حيّ البياض حسن نزار جابر إلى أنّ “جمعية المواساة في النبطية التي تعنى بشأن دفن الموتى ستقوم فور حصولها على المبالغ المطلوبة بترميم هذه القبور التي دمّرها العدوان بعد الاستعانة بعدد من ذوي الموتى الراحلين لتحديد أمكنة قبور أقربائهم لا سيّما تلك التي أزالتها الغارات من أمكنتها وأحدثت حفرًا عميقة في مكانها، وهي لا تقلّ عن أربعة قبور، وربّما يكون هذا العدد مضاعفًا أو أكثر من المتوقّع، نظرًا إلى تلاصق الأضرحة وبخاصّة في الجبّانة القديمة التي دفنت فيها جثامين أبناء النبطية، ليس من عائلة جابر فحسب، بل من جميع العائلات النبطانيّة على مدى أكثر من ثمانين عامًا”.

ويضيف المختار جابر أنّ “كلفة الترميم وعدنا بدعمها من مؤسّسة جهاد البناء والأخوة في حزب الله، على أن يصار إلى بناء كلّ ضريح مهدّم، إضافة إلى الشواهد التي تحمل الأسماء والتواريخ، ووضع ألواح رخاميّة جديدة بديلة عن تلك التي تحطّمت بفعل قوّة الانفجار، وهي كثيرة تتجاوز 600 ضريح”. ويتوقّع جابر أن “تكون كلف الترميم مرتفعة إذ إنّ اللوحة الرخاميّة المستطيلة التي تغطّي كلّ ضريح يتجاوز سعرها وحدها 120 دولارًا، تضاف إليها رخامات الجوانب وأجرة الخطّاطين وغيرها من أعمال حفر وردم وإزالة، هذا إذا لم نفكّر بإعادة بعض سياجات الحديد التي كانت تطوّق عشرات القبور”.

قبور تراثيّة ومهمّة

فضلًا عن رفات الجدود والآباء والأحفاد في جبّانتي النبطية القديمة التي قدّمها لتكون مقبرة للعائلة الراحل رشيد حيدر جابر (1866- 1962) تنفيذًا لوصيّة والده حيدر يوسف جابر الذي منح وقف النبطية عددًا من الأراضي، والجديدة التي تعود إلى “وقف” النبطية مقدّمة من آل الصبّاح، فإنّ المقبرتين تضمّان بين دفّاتهما مجموعة من القبور التراثيّة والتاريخيّة المبنيّة على طرز هندسيّة مميّزة، تزيّن عديدًا منها خطوط عربيّة متنوّعة بين الثُلث والرقعيّ والفارسيّ والنسخ، نحتت بإتقان على شواهد من رخام أو مقصّبة ومزركشة من أحجار صخريّة، يضاف إلى أنّ عديدًا من القبور جرت إحاطتها بسياجات من حديد فنّيّ. ولو جمعت الأشعار والقصائد التي كانت تنحت على هذه القبور لشكّلت دواوين بحدّ ذاتها، لا سيّما تلك القصائد التي يحدّد بيتها الأخير تاريخ الوفاة بحسب التقويم الهجريّ.

المقبرتين تضمّان بين دفّاتهما مجموعة من القبور التراثيّة والتاريخيّة المبنيّة على طرز هندسيّة مميّزة، تزيّن عديدًا منها خطوط عربيّة متنوّعة بين الثُلث والرقعيّ والفارسيّ والنسخ.

ضريح المؤرّخ جابر آل صفا

وثمّة قبور لعديد من فاعليّات المدينة وأدبائها وفنّانيها وعلمائها ومشايخها وسياسيّيها ومعلّميها من مربّي الأجيال المتعاقبة. وقد طاولت أضرار الغارة على الجبّانة القديمة ضريح المؤرّخ محمّد جابر آل صفا (1875- 1945)، صاحب كتاب “تاريخ جبل عامل” وضريحي ولديه محمّد مفيد محمّد جابر (1913- 1963) ومصطفى معين محمّد جابر (1921- 1995) وأضرحة عدد من المعلّمين و”الشهداء” الذين سقطوا جرّاء الاعتداءات الإسرائيليّة على مدينة النبطية منذ العام 1975 وفي الحرب الأهليّة اللبنانيّة. وغطّت الأتربة والردم وأغصان الأشجار التي تكسّرت عديدًا من الأضرحة المجاورة.

أضرار ضريح المخترع الصبّاح

وليس بعيدًا من جبّانتي النبطية فقد أدّت الغارات الإسرائيليّة على الوسط التجاريّ للنبطية إلى إصابة ضريح المخترع حسن كامل الصبّاح (16 آب/أغسطس 1894- 31 آذار/مارس 1935) بأضرار جسيمة، إذ طاولت البناء الصخريّ وقبّته ونوافذه وأسقف الممرّات والحدائق الجانبيّة والأشجار، فضلًا عن أضرار كثيرة داخل الضريح ومحيطه.

بُني هذا الضريح القريب من ساحة المدينة في أعقاب وفاة الصبّاح بحادث سير في الولايات المتّحدة الأميركيّة سنة 1935، إذ أسّس الدكتور مصطفى الخالدي من بيروت آنذاك لجنة تكريم حسن كامل الصبّاح، وضعت بعض التصاميم لبناء الضريح، كلّها أتت على الطراز الإسلاميّ؛ ونفّذ المعمار سعيد فخرالدين “ماكيت” القبر الداخليّ من الجفصين.

أضرار جسيمة في ضريح المخترع حسن كامل الصباح (الصور كامل جابر)

بعدها تمّ بناء الضريح مع القبّة ونفّذهما آنذاك أشهر البنّائين هو المعلّم مصطفى الجوني. أمّا قطعة الأرض التي بني عليها الضريح فقد تمّ اختيارها بناءً على رغبة والد الصبّاح، الحاج علي الصبّاح، الذي كان قد اشتراها من أموال كان يرسلها ابنه من الخارج لقاء اختراعاته. ويذكر المربّي الراحل مصطفى الحاج علي أنّه بعد إحضار نعش الصبّاح البرونزيّ إلى النبطية، فتحه أسعد القرداحي، وقام الطبيب بهجت الميرزا من النبطية، بمعاينة النصف العلويّ من جثّة الصبّاح التي كانت محنّطة وبائنة، يحوطها قماش مخمليّ رماديّ اللون. وبناءً على فتوى المراجع الدينيّة دُفن الصبّاح مع تابوته في القبر المحدّد، في مكانه الحاليّ.

وبعد مرور أربعين عامًا على رحيل الصبّاح تشكّلت لجنة ترميم بالتعاون بين محمّد الحاج علي ومحمّد صبّاح قامت برسم شكل جديد لقبر الصبّاح الداخليّ، نفّذه المعلّم عبد الحسين ملّي من الرخام والغرانيت. ولاحقًا قامت بلديّة النبطية متعاونة مع “لجنة الصبّاح الوطنيّة” بترميم الضريح أكثر من مرّة وتعديل بعض الممرّات إليه تسهيلًا لدخول الزوّار، لا سيّما تلامذة المدارس. وكان آخر ترميم للضريح قد تمّ العام الماضي (2024) على نفقة عائلة النائب والوزير السابق الراحل أنور الصبّاح وأقيم قبل العدوان الواسع على لبنان احتفال في باحته.

استباحة تدمير المقابر

يشار إلى أنّ قوّات الاحتلال الإسرائيليّ استباحت في خلال قصفها وتجريفها عديدًا من القرى الجنوبيّة الحدوديّة تدمير مقابرها وجبّاناتها في خطّة تُضاف إلى خطوات عديدة قام بها العدو بغية محو الذاكرة الجماعيّة لسكّان الجنوب وأهله ومنها قبور الأقارب والجدود والأعزّاء.

وليس في خلال الحرب الموسّعة على مختلف المناطق اللبنانيّة والعاصمة بيروت منذ الـ 23 من أيلول (سبتمبر) الماضي، بل منذ محاولته التقدّم نحو قرى المواجهة الأماميّة، عمد جيش الاحتلال إلى قصف عديد من المدافن في القرى الحدوديّة، لا سيّما القرى الأماميّة، وجرّف عديدًا من جبابينها بعدما أزال بيوتها وساحاتها ومتاجرها ومزارعها، أو فخّخها ودمّر معظم حاراتها عن بكرة أبيها.

من هذه الجبابين التي استهدفها الإسرائيليّون عن سابق إصرار وتصميم جبّانة بليدا في قضاء بنت جبيل التي جرفتها آليّات العدو الضخمة في الـ 20 من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي. ولم تسلم مقابر العديسة وكفركلا وحولا ومركبا ومحيبيب والطيبة (في قضاء مرجعيون) وعيتا الشعب ويارون ومارون الراس (قضاء بنت جبيل) وجويّا (قضاء صور)، إلى عدد كبير من المقابر في مناطق النبطية وصور ومرجعيون وبنت جبيل ومناطق في البقاع.

ضريح المؤرخ جابر آل صفا (الصور كامل جابر)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى