مهرجانات بعلبك الدولية.. ميزانية شحيحة وأمن “مهزوز”
تعود مهرجانات بعلبك الدوليّة للمرة الثانيّة بعد انقطاع دام ثلاث سنوات (نتيجة جائحة كوفيد -19). فمنذ حوالي الأسبوع ونيف، ومن حرم قلعة بعلبك، أطلقت رئيسة لجنة مهرجانات بعلبك الدوليّة نايلة دو فريج، برنامج المهرجانات لصيف 2023, بحضور وزير السياحة وليد نصار وممثل وزير الثقافة حيان حيدر، ومحافظ بعلبك الهرمل بشير خضر، ورئيس بلدية بعلبك بالتكليف مصطفى الشل، ووسط وجود بارز للسياح الأجانب.
برنامج المهرجانات اقتصر على خمس حفلات تنطلق من مطلع تموز المقبل حتّى منتصفه. والحفلات الخمس ستضّم ثُلّة من الفنانين والمغنيين والموسيقيين والراقصين الأوروبيين ومن مختلف أصقاع العالم، تتنوع بين عروض الباليه والرقص المعاصر إلى العزف على التشيللو، مروراً بالموسيقى الصوفية والفلامنكو والأغنيات اللبنانية. وقد خصصت اللجنة حفلة لسكان بعلبك سُميت بحفلة “أهل البلد” يُغني فيها الفنان ملحم زين. وقد تراوحت أسعار التذاكر ما بين 20 حتّى 60 دولارًا أميركيًا.
برنامج المهرجانات اقتصر على خمس حفلات تنطلق من مطلع تموز المقبل حتّى منتصفه. والحفلات الخمس ستضّم ثُلّة من الفنانين والمغنيين والموسيقيين والراقصين الأوروبيين ومن مختلف أصقاع العالم
ميزانية ضعيفة
إلا أن برنامج المهرجانات بنسخته الحاليّة، اتسم باغترابه عن سابقاته من المهرجانات. بميزانية ضعيفة وتمويلٍ شحيح، وبرنامجٍ موجز، خلافًا لتاريخه الحافل، ناهيك باقتصار الدعاية على المحطات والمؤسسات المحليّة. فالميزانية التّي كانت سابقًا تتجاوز المائتي ألف دولار أميركي على أقلّ تقدير (بعد تخفيض المخصصات التّي كانت تعود للأعمال الخيرية والمهرجانات عام 2011)، لا تتجاوز اليوم بضعة آلاف من الدولارات وهي مساهمات من القطاع الخاص وشركة الشحن الفرنسية “سي أم أي، سي جي أم”، بمؤازرة كل من شركتي “ألمازا” و”كسارة” فقط، بينما كانت سابقًا تعتمد على تمويل وزارة السياحة والمصارف اللبنانية، والجهتين قد امتنعتا عن التمويل والمساهمة في العاميين السّابقين، بحجة الأزمة الماليّة والخلّل في الميزانية. بينما وعلى خلاف العام المنصرم، لا يزال الجدال مستمرًا عن الجهة التي ستمول وتغطي تكاليف الإضاءة بين المحافظة والبلدية التي تعاني من شحّ الموارد وعجز في الميزانية (السنة الماضية تولتها جميعة الدراسات) بحسب ما أشارت مصادر المطلعة.
ولعلّه من النافل ذكر جدوى مهرجانات بعلبك الدوليّة، كإرث ثقافيّ ومحطة فلكلورية ينتظرها السكان في شرق لبنان المتأزم منذ عقود، من عامٍ إلى عام منذ سنة 1956. فهذه المهرجانات وما تحمله من انتعاشة ماديّة وانشراحة معنويّة واستقطاب للسياحة الأجنبية والعربية وتحريكها لعجلة الاقتصاد المحلي البقاعي، قد أسهمت في تكريس مدينة بعلبك ووضعها على خارطة السّياحة اللبنانية رغمًا عن التهميش والإنماء المجحف والسّمعة التاريخية المفسودة بأخبار الجريمة والتفلت الأمنيّ.
فإن شئنا الغوص في تاريخ هذه المهرجانات وأثرها على المجتمع البقاعي واحتفائها السّنوي بالثقافات العالميّة على اختلافها وتمايزها الحضاري/ التاريخي، فإننا حتمًا سندرك أن كل المحاولات لاستعادة الزخم السّابق لهذه المهرجانات اليوم وفي خضّم الانهيار اللبناني المستفحل ما هو سوى محاولة لطمس وتجميل الواقع المُعاش.
تأزم أمنيّ
فالمدينة التي احتضنت 65 مهرجانًا على التّوالي، مأزومةٌ بصورة لم تشهدها من قبل، حتّى وفي ظلّ الاحتلالات والاجتياحات والخطر “الإرهابي”: تفلت أمنيّ، أزمات معيشية، طوابير “الذلّ” المزمنة، حوادث الخطف والقتل، محاولة أحزاب المنظومة السياسيّة وعلى رأسها “حزب الله” فرض ثقافته الأحادية في كل مناسبة وخاصةً في المهرجانات كما حدث العام الماضي للتشويش عليها (عبر إقامة مهرجان الذكرى الأربعين له على بعد كيلومترات قليلة من القلعة, ثمّ الدعوة لمهرجان في القلعة ذاتها)، راهنًا سكان بعلبك وجوارها في حلقة مفرغة من البؤس العمومي والتخلف الثقافي، عبر تكريسه العلنيّ والقسريّ لثقافة هجينة على هذا المجتمع. وأخيرًا تجسد هذا الانهيار الطرديّ في الانحدار المزمن في نوعيّة وتمايز هذه المهرجانات التّي تُعدّ الأقدم في تاريخ لبنان الحديث.
المهرجانات بما تحمله من انتعاشة ماديّة وانشراحة معنويّة واستقطاب للسياحة الأجنبية والعربية وتحريكها لعجلة الاقتصاد المحلي البقاعي، قد أسهمت في تكريس مدينة بعلبك ووضعها على خارطة السّياحة اللبنانية
فمن جهة فإن شحّ الميزانيّة والضرائب المفروضة على مثل هذه المهرجانات أسهمتا في ترديّ أوضاعها وانحدار رمزيتها والاستفادة المرجوّة منها، ومن جهة أخرى فإن محاولة السّلطات اللبنانيّة المستميتة للاستفادة قدر الإمكان من الموسم السّياحي المُقبل من دون القيام بأي إصلاحات حقيقيّة وجديّة، مثل ضبط الأمن فعليًّا للحؤول دون تكرار سيناريو العام الماضي الذي تخلله حوادث أمنيّة جرميّة خلال المهرجان من سرقة سيارات ونشل وغيرها.. بل إقناع السّكان بأن الموسم واعد حتّى ولو كان على حسابهم الخاص. إذ أن توافد السّياح الأجانب بصورة غير مسبوقة لا يشي بالضرورة بتحسن المستوى السّياحي للدولة وخاصةً في مدينة بعلبك، بل هو مؤشر قد يحمل في طياته فداحة الأزمة الماليّة التي جعلت لبنان دولة سياحية رخيصة يوفر فيها السيّاح المال، بينما تستفيد المؤسسات التجارية والخدماتية وحدها من الدولار الفريش والتي بدورها عمدت طيلة سنوات الأزمة لاستغلال هذه الفوارق ومراكمة ثرواتها على حساب المقيمين والسياح، وغياب أجهزة الرقابة عمومًا.
يستبشر البعلبكيين من هذه المهرجانات خيرًا، وهذا من حقهم المُطلق والبديهي، فبعد سنوات من نكبتهم الموصولة والممتدة منذ عقود، انتعاشة معنويّة مثل هذه المهرجانات ولو كانت على قدرٍ من الانحدار والتراجع المزمن. ولعلّ السلطات تـأخذ بعين الاعتبار مسؤوليتها تجاه هؤلاء وتقوم بواجباتها المنوطة بها حصرًا، لا التعويل على السّكان في تدبير الأمور اللوجستية وحماية محيط القلعة خلال المهرجانات متنصلةً من واجبها في الحماية الأمنيّة وإرساء الاستقرار.