موارنة في جبل عامل.. جدل العلاقة بين المركز والأطراف
على غلاف الكتاب وثيقة تظهر ترفيع شمعداني في كل من بلدتيّ عيتا ورميش على يد المطران يوحنا الحلو، من أرشيف البطريركيّة المارونيّة. بين صفحات الكتاب تاريخ لرحلة الموارنة الذين طافت بهم الأرض إلى جبل عامل. بين الصّراعات والمحطّات الشائكة والإجهاد في التّقبّل وأبرز صور التآخي الذي مرّ بصراعات وأحداث دامية على مدى سنوات، يكتب ريمون جوزيف فرحات كتابه “موارنة في جبل عامل” من زمن فخر الدين الثّاني حتّى لبنان الكبير.
يركّز فرحات على أربع بلدات جنوبيّة في عمليّة التّأريخ وهي رميش، عين إبل، دبل والقوزح كونها أهمّ القرى العامليّة الّتي سكنها الموارنة ولا زالوا حتّى اليوم. ويقول مبرّرًا حصر رحلة الموارنة بهذه البلدات أنّ بحث الوجود الماروني في جبل عامل تحديدًا يتطلّب دراسةً تاريخيّة واجتماعيّة، وتسهيلًا للبحث وإفساح المجال للتعمّق والإمساك بكلّ جوانب الحكايا حصرها بهذه المناطق الأربع الّتي شهدت معظم الأحداث.
لم يكن للموارنة عامّة حصّة من جبل عامل فقط، بل تفرّقوا في عدد من المناطق اللّبنانيّة ومنها الجبل، لكن ما جمعهم بالدروز من صدامات أثّر سلبًا في هذا الوجود واستمراريّته على عكس جبل عامل الّذي لا يزال يحتضن الموارنة حتّى اليوم وفي قرى متفرّقة رغم كلّ الكبوات الّتي وصلت إلى حدّ الطّلاق في بعض الأحيان كما يقول فرحات. وقد يكون سبب ذلك هو فرض الوجود الماروني نفسه في جبل عامل بالدّرجة الأولى، وليس أيّ عامل آخر.
لا شكّ أن وجود الموارنة لعب أدوارًا كبيرة ومفصليّة في تاريخ أحداث جبل عامل. كما يرى فرحات بالرّغم من كلّ الكبوات الّتي أدّى معظمها إلى التّشريد والتّقتيل. كان يجتمع الطّرفان مجدّدًا بعد أن أيقنوا نوايا السّلطة الّتي كانت تسعى إلى مصالحها على حساب الطّرفين.
يفكّك فرحات أدق التفاصيل بداية من أصول تسميات المناطق العامليّة متعمّقًا في أصول تسميات المناطق الّتي اعتمد عليها في الكتاب. ثم ينعطف إلى المراحل الزّمنيّة الّتي كان فيها جبل عامل بيد سلطات إداريّة باختلاف السّلطات والحكّام الّتي توالت على إدارة الجبل، بدايةً من جند الأردن وصولًا إلى الحكم المصري ثمّ العثماني ثمّ الفرنسي. في ظلّ الحكم المصري ألغي نظام الإقطاع الّذي كان مسيطرًا على غالبيّة مناطق جبل عامل، لكن ما لبثت المنطقة أن خرجت من النّظام الإقطاعي، ثمّ نظام المقاطعات إبّان الحكم العثماني، إلى نظام المؤسّسات الإداريّة مع بداية الإنتداب الفرنسي.
الموارنة في جبل عامل
بدأ الوجود المسيحي يفرض نفسه وهويّته وكيانه في جبل عامل على وجه الخصوص، مع تأسيس كنيسة مدينة صور من أيّام البشارة الأولى نسبةً إلى الكتاب المقدّس. إبّان تدمير مدينة صور وصيدا وعكّا في عهد الإحتلال المملوكي اضمحلّ الوجود المسيحي ثمّ عاد من جديد في ظلّ الحكم العثماني للبلاد. فتطوّر العمل الكنسي مع نزوح الكثير من العائلات المسيحيّة من حوران إلى لبنان، وبدأ رجال الدّين بالمطالبة بحصصٍ أكبر في العمل السّياسي. بالتّالي بدأ الموارنة بالإنخراط أكثر في الحياة السّياسية وفي صفوف الجيش لأسباب عسكريّة وسياسيّة وإقتصاديّة. يشير فرحات إلى أنّ الهدوء النّسبي الّذي بدأ إبّان الحكم العثماني واعتماد سياسة التّسامح والتّعايش في آن أدّيا إلى انتقال الموارنة إلى مناطق مختلفة من جبل لبنان وصولًا إلى جبل عامل.
بدأ الوجود المسيحي يفرض نفسه وهويّته وكيانه في جبل عامل على وجه الخصوص، مع تأسيس كنيسة مدينة صور من أيّام البشارة الأولى نسبةً إلى الكتاب المقدّس
“امتاز المجتمع الماروني، كباقي المجتمع العاملي بأنه قروي وتقليدي، اعتمد بشكل رئيسي على الزراعة كمصدر أساسي في كسب القوت (…) الروابط العائليّة المتينة صبغت مجتمع هذه القرى، المبنية أساسًا على التحدّر من عائلة واحدة، أي رابطة الدم، أو من خلال التزاوج (…) من هنا فإنّ العادات والتقاليد المتّبعة كانت تعكس الحالة الإجتماعيّة السائدة، وتحاكي المخاوف والأخطار وتعالج الأخطاء والتباينات والمشاكل ومسبباتها، حيث أُبطلت عادات واستُحدثت أخرى بسبب الإختلاط مع الآخر والتأثر بعاداته وتقاليده” يقول ريمون فرحات.
بدأت تختلط الثقافة المسيحية المارونيّة مع الثّقافة الإسلاميّة الشّيعيّة لأبناء جبل عامل مع بداية انخراط الموارنة في الحياة السياسية والإقتصادية والتجارية. مثل باقي السّكان العامليّين. انقسم الموارنة إلى طبقتين إجتماعيتين، طبقة الميسورين وأصحاب الأملاك وطبقة الفقراء الّذين عملوا في الزراعة وأورثوها لأبنائهم. فزرعوا التبغ والزيتون والتين والخرنوب في رميش وعين إبل ودبل وغيرها من المناطق.ارتبط النشاط الصناعي في جبل عامل بالإقتصاد الزّراعي، فبحسب ما يقول فرحات انتشر الحرفيّون الّذين عملوا بحسب حاجات الفلاحين، وبحسب ما يحصدون من الزراعة وبحسب ما تتطلّبه الأسواق المحلية والجوار.
كما “لعبت المدرسة والكنيسة دورًا مهمًّا في نشر الثقافة والتنمية الإجتماعية”، في حين أنّ المدارس في جبل عامل كانت معظمها ذات طابع ديني وقد خرّجت معظم رواد العلم في جبل عامل، بدأت المدارس المارونيّة بالإنتشار. يضيف فرحات: “وقد افتتح هؤلاء (اليسوعيون) أول مدرسة لهم في عين إبل عام 1765 بإدارة الأب أونجيليل، كما افتتحوا مدرسة أخرى في رميش العام 1870”.
الموارنة والشيعة.. صراعٌ وألفة
كيف كانت نظرة الكنيسة إلى موارنة الأطراف والقرى؟ يجيب فرحات عن هذا التّساؤل مشيرًا أنّ “الكنيسة المارونيّة فشلت في حضن وتوجيه رعاياها المنتشرين في الأقضية البعيدة عن مراكز الأسقفيات”، الأمر الذي أدّى إلى خلل ما في انتماء الموارنة في جبل عامل. وبعد أنّ شعروا بتخلّي كنيستهم عنهم مع تفشّي الفقر والمرض والجهل وجور الضرائب. وكبديل لجأ بعض الموارنة إلى الإرساليات الأجنبيّة كبديل عن كنيستهم لمساعدتهم في تخطي مشاكلهم الماديّة والإجتماعيّة وغيرها.
انقسم الموارنة في جبل عامل بين مؤيّد لدعوات المرسلين البروتستانت بينما رفض قسم آخر منهم هذه الدّعوة. يضيف فرحات أنّه في ظلّ هذه الإنقسامات كانت العلاقة الوطيدة الّتي ترسّخت بين الشريك الشيعي والموارنة في جبل عامل تتّجه إلى مزيد من الألفة والتّعاون. فيقول تارةً: “كانت العلاقات المسيحية الإسلامية ممتازة نابعة من الوعي الكامل لدى السكان المتأثرين بقيادتهم الروحيّة والزمنية”. ولكنه يتجه إلى سرد بعض الحوادث والوقائع وأعمال اللّصوصيّة الّتي وقعت بين الشيعة والمكوّن الماروني تارةً أخرى. ويصفها على أنّها “خلافات ارتبطت باختلاف الميول السياسية الّتي عملت السلطات الحاكمة على امتداد الحقب التاريخيّة على تغذيتها وإشعال نارها ليتسنّى لها الحكم الفعلي”. اللافت في الأمر أنّ فرحات اعتمد في نقل معظم الأخبار والوقائع التّاريخيّة على الكنائس والشخصيّات والأصدقاء والدكاترة الموارنة، مع القليل من الإلتفات إلى وجهات النّظر في الجهة الأخرى إلا في الأحداث التاريخيّة الّتي تشارك بها الطرفان مثل مؤتمر وادي الحجير. ما جرف سائر الأحداث ومسارها إلى منظور واحد للرؤية.
يشيد فرحات بهذا التآخي الإستثنائي المشوب ببعض المشاكل والصدامات بين الشيعة والموارنة خاصّة بعد توتّر العلاقات بين الدروز والموارنة في الجبل سابقًا. ويرجعها إلى تزايد عدد الموارنة ديموغرافيًّا نسبة إلى عدد الدروز في الجبل، بالتالي ازدياد عدد الكنائس والأديرة.
مؤتمر وادي الحجير، تهديد مقنّع للموارنة!
لا شكّ أن مؤتمر وادي الحجير هو من المحطات الشائكة والمختلف عليها في تاريخ جبل عامل. فمنهم من انقسم مؤيّدًا الحكم العربي – السوري ومنهم من انجرّ وراء حكم الفرنسيّين. يقول فرحات أنّ هذا المؤتمر كان من أبشع الأحداث الّتي لطخت تاريخ جبل عامل بوصمة جهل”.
يروي ريمون فرحات أحداث مؤتمر وادي الحجير من وجهات نظر مختلفة عند الشيعة، مستندًا على مذكرات الشيخ أحمد رضى، السيد عبدالحسين شرف الدين، محمد البسام، ومنذر جابر..
بينما استند فرحات على تقرير للخوري فرنسيس الخوري وعلى أرشيف البطريركية المارونية فقال أنّه في ٢٢ نيسان اجتمع المئات من المتاولة “فتباحثوا في أمور شتى منها إبادة الأقلية المسيحيين من بينهم فقرروا مهاجمة عين إبل وتدميرها مع جوارها”. ويضيف برأيه الشخصي أنّه لم يكن ممكنًا للمسيحيين حينها إلّا النظر بعين الريبة إلى كل ما يجري من حولهم، بالرّغم من رسائل التطمين التي كانوا يتلقونها من الزعماء المحليين”.
لا شكّ أنّ جبل عامل مرّ بأحداث دامية، ولكن هذا الجبل الذي احتضن طوائف عديدة بانتصاراتها وتآخيها ودمائها استطاع الصمود بها حتى اليوم. الذين كانوا جيرانًا ما زالوا جيرانًا. يختم فرحات كتابه قائلًا: “السياسات المتّبعة من قبل موارنة “القلب” (جبل لبنان) كان لا بد لها أن يتأثر بها موارنة “الأطراف” نظرًا للترابط الذي يجمع القلب بالأطراف، فهذه الأطراف كانت ضرورية لإنشاء شبكة أمان إجتماعيّة حول القلب، من خلال بوتقة العلاقات والعيش المشترك مع الآخر”.