موسم زيتون واعد شرق صيدا والأمل بوقف النار
تنتظر أم محمّد من بلدة كفرحتى شرق صيدا وصول سائق الأجرة ليأخذ ما جمعته لابنتيها اللتين نزحتا مع أسرتيهنّ إلى بيروت. تُخصّص لكلّ واحدة منهنّ أغراضها على حدة، قليل من اللبنة البلديّة، زيتون أخضر مملّح، زيت زيتون، وبعض أكواز الرمّان الحامض. بعدها تُرسل لابنتها رسالة صوتيّة: “الأغراض في الكيس الأحمر إلك والكيس التاني لأختك”. تقول أم محمّد لـ “مناطق نت: “أنا أعرف ابن الجنوب ما بيقدر ياكل شي بدون زيت زيتون أصلي”.
تنتظر ابنتها وصول سيّارة الأجرة لتدفع له خمسين دولارًا لقاء توصيله الأغراض، تقول لـ “مناطق نت”: “تركنا بيوتنا ولم نحمل معنا شيء، نشتري زيت الزيتون من الدكّان ولكنّه ليس زيت زيتون، هذا زيت لونه أخضر فقط، زيت كفرحتّى طعمه حادّ، رائحته مختلفة، ولونه وكثافته لا يضاهيها زيت في العالم”.
موسم الوفاء للأرض
غادر معظم سكّان بلدات اقليم التفّاح وشرق صيدا بعد الموجة الأولى من القصف المكثّف الذي لم يرحم حجرًا أو بشرًا، انتظروا خيوط الصباح بعد ليلة أجبرتهم على الرحيل مرغمين، حفظًا لأنفسهم وأولادهم. تركوا خلفهم كلّ شيء، لم يأخذوا معهم زيتًا أو زيتونًا، وهم الذين تفيض خزائنهم بمختلف أنواع المؤونة، وتفيض رفوفهم بالزيت والزيتون من عام إلى عام، حتّى إنّ ما يبقي منها يحوّلونه إلى صابون من أجود الأنواع.
بين الغبار السام والقنابل العنقوديّة
يشرح محمود حمدان من بلدة كفرملكي معاناتهم فيقول: “يغامر قلّة من الشباب بقطف الزيتون الملاصق للبيوت تحت مراقبة المسيّرات المستمرّة، أمّا الوصول إلى الكروم على أطراف البلدة فهو بعيد المنال”، يُضيف لـ “مناطق نت”: “بدأت بعض الورش القطاف لكنّها توقفت بانتظار هطول الأمطار إذ سبّب غبار القصف والصواريخ حالات تحسّسٍ في العيون ومشاكل في التنفس”.
أمّا فادي حمّود الذي يعتمد على بيع الزيت كدخل سنويّ له ولعائلته فيتساءل: “أيّهما أهمّ خسارة موسم الزيتون أو حياة الشباب؟ أرفض تعريضهم للخطر خصوصًا بعد رمي القنابل العنقوديّة التي قد تندمل في التربة مع هطول الأمطار، وهذه مشكلة أخرى لم تكن بالحسبان”.
في المقابل لا تهتمّ سامية بلّوط بموسم الزيتون، تتحسّر في حديثها مع “مناطق نت”: “مش سألانة عن زيت أو زيتون، المهمّ نظلّ بخير وتظلّ بيوتنا ونرجع قريبًا”.
العمّال السوريّون
“بيوت بلدة كفرملكي مشرّعة على مصراعيها بسبب القصف الشديد الذي تعرّضت له، الأمر الذي دفع شبّان البلدة إلى منع بقاء العمّال السوريين داخل البلدة ووضع على أصحاب الورش مسؤوليّة حماية أرزاق الناس”، بحسب أبو محمود صاحب ورشة لقطف الزيتون “حتّى أبناء البلدة لا يستطيعون الخروج والدخول كما يشاؤون”.
محمود: يغامر قلّة من الشباب بقطف الزيتون الملاصق للبيوت تحت مراقبة المسيّرات المستمرّة، أمّا الوصول إلى الكروم على أطراف البلدة فهو بعيد المنال
نزحت آمنة إلى حارة صيدا وهي لاجئة سوريّة تعيش منذ 10 سنوات في كفرملكي، تقول لـ “مناطق نت: “عرضنا المساعدة في قطاف الزيتون، نحن 15 فردًا جاهزون للعمل، لكنّهم رفضوا دخولنا قبل انتهاء الحرب، نتمنّى مثل كلّ أهل البلدة العودة قريبًا إلى بيوتنا والعودة إلى أعمالنا”. تضيف آمنة: “سمعت من بعض الأصدقاء أنّ اصحاب الورش يستعينون بعمّال فلسطينيّين لأنّ أجرتهم أقلّ”، بسبب هذا الوضع يُفضّل كثير من النازحين السوريّين العمل في المناطق “المسيحيّة” التي تعتبر آمنة بمقارنة مع بلدات أخرى.
أسعار الزيت مضاعف
لم يكن موسم الزيتون الفائت غزيرًا، ومنذ بداية هذا العام يتوقّع المزارعون محصولًا وفيرًا بوفرة وكرم الأرض التي يعيشون عليها ويأكلون منها، ويرتزقون من خيراتها، وهم ذوو باع طويل في التعامل مع الأشجار العتيقة التي زاد عمرها عن عمر أجدادهم وبيوتهم. تقول أم حسين من بلدة عين قانا: “الزيتون بيحمل موسم منيح وموسم ضعيف، كنّا ناطرين هالموسم، بس ألله بيعوّض”.
منذ خمسين سنة كانت بلدة المجيدل من أكثر البلدات إنتاجًا للزيت، كما يروي بعض كبار المنطقة ولكنّ في السنوات الأخيرة امتدّت زراعة الزيتون إلى البلدات المجاورة: بلدة الحسّانية، وكفرشلال وجرنايا، والقريّة، برتي، كفرملكي ، كفرفيلا عنقون، جباع، كفرا، وأصبح لديها اكتفاء ذاتي من إنتاج الزيت.
لكن بسبب الحرب الحالية تفاوت الإنتاج، معظم البلدات المسيحيّة قطفت محاصيلها بنسبة مئة في المئة، وبلدات أخرى مثل عنقون وكفرملكي وجباع وعين قانا وغيرها لم تتجاوز نسبة القطاف الـ 10 في المئة بسبب القصف المتواصل وتعذّر الوصول إلى البساتين.
يشرح أبو مازن من بلدة كفربيت لـ “مناطق نت” كيف تختلف أسعار الزيت بحسب جودته، فيقول: “هناك نوعيّة تتمتّع بجودة عالية وهي من الأشجار المزروعة في الأراضي الكبريتيّة، أيّ في الأرض الصفراء والتي تقع على ارتفاع يتفاوت ما بين 300 إلى 500 متر عن سطح البحر، ولذلك نجد بعض أصحاب الأرض، يطلبون أسعارًا أغلى لأنّهم واثقون من جودة زيتهم”.
يتابع أبو مازن: “لكنّ الأسعار هذا العام ترتبط بعوامل عديدة، أهمّها تراجع إنتاج الزيت بشكل كبير جدًّا بسبب احتراق عديد من البساتين وصعوبة الوصول إليها في المناطق الحدوديّة وتلوّث مناطق أخرى بسبب قنابل الفوسفور الأبيض، لذلك فإنّ سعر تنكة الزيت سيقارب الـ 200 دولار”
يبرّر أبو حسّان صاحب المعصرة في كفرملكي زيادة الأسعار، فيقول لـ “مناطق نت”: “الطلب على الزيت أكثر من العرض بكثير، بالإضافة إلى ارتفاع كلفة اليد العاملة. من يقطف الزيتون من أبناء البلدات هم الذين بقيوا فيها، يتّفقون مع أصحاب الأرض على تقاسم المحصول بالمناصفة، أمّا العمّال السوريّون فيطلبون 30 دولارًا مقابل أجرة اليوم الواحد، يعرفون مدى الحاجة إليهم بعد نزوح عدد كبير من العمّال إلى صيدا وبيروت، بالإضافة إلى صعوبة فتح المعصرة بشكل دائم، وصعوبة التنقّل بين البلدات، هناك من يخاطر ويأخذ محصوله إلى المعاصر المفتوحة في البلدات المسيحيّة المجاورة ولكنّ هذا ليس بمقدور كلّ الناس”.
زيت الزيتون رفيق دائم
تتمنّى سناء من بلدة كفرحتّى “الاتّفاق على هدنة”. تقول لـ “مناطق نت: “اشتقت إلى رائحة أرضنا، لقمة الزعتر مع زيت الزيتون بتسوى الدنيا عندي”، وتتحسّر مضيفة: “كلّ شيء فينا نشتريه من برّا إلّا زيت الزيتون”. وتؤكّد أنّها تنتظر جيرانها لقطاف موسمهم حتّى تشتري منهم تنكة زيت، تقول: “ما عندي ثقة بأيّ زيت، بأسف أشتري تنكة واحدة وبتبرم معي من مكان لمكان بينما كنت خزّن ستّ تنكات بالسنة”.
في المقابل لم ينسَ أبو محمود غالون زيت الزيتون عندما ترك بيته، يقول لـ “مناطق نت”: “من الصعب أن أتقبّل طعم أيّ زيت آخر، لكن ما حملته معي شارف على الانتهاء، والآن اتّفقت مع أحد جيراني على إرسال تنكة زيت مع سائق الأجرة. يعزّ عليّ كيف تركنا مواسمنا، الرمّان والحامض والأفوكادو وبالتأكيد الزيتون، لكنّ هذا سهل أمام عودتنا إلى بيوتنا بخير وسلامة”.
تنسج أحاديث الناس في هذه الأيام الحرجة قصص حرمانهم من محاصيلهم وأرزاقهم، بعدما كانت “جمعاتهم” تحت أشجار الزيتون تنسيهم الكدّ والتعب. هم مثقلون بما يعيشونه اليوم وينذرون أرزاقهم بانتظار العودة إلى الديار.