موسيقى فيلم Pulp Fiction …”آه يا أمال”

إنّ الجلوس لمشاهدة أحد أفلام المخرج الأميركيّ كوينتن تارانتينو ليس أمرًا ممتعًا فحسب، بل إنّه في بعض النواحي يعني حضور بضع ساعات من الخلق والإبداع في مدرسة السينما. جميع عناصر الفيلم من الإخراج والكتابة إلى المونتاج وتصميم الرقصات، كلّ شيء يعدّ درسًا قيّمًا في فنّ صناعة الأفلام.

لقد أتقن ترانتينو استخدام جميع أدواته في جعل أفلامه من التحف الفنّيّة في صناعة السينما، ومن أدواته التي أولاها الاهتمام، وأخرجها كونها عناصر متمّمة أو تابعة لصورة الفيلم، كانت الموسيقى التي ارتقى باستخدامها لتكون هويّة الفيلم وروحه. في أحاديثه الصحفيّة يقول: “أحد أول الأشياء التي أقوم بها حين أشرع بكتابة مشروع فيلم جديد، أعود إلى مكتبتي الموسيقيّة وأغوص في الاستماع محاولًا العثور على شخصيّة الفيلم”.

لعلّ أفضل الأمثلة على خياراته موسيقى هويّة أفلامه كانت موسيقى فيلم “Pulp Fiction” الذي حصد الجوائز العالميّة، وأعلن لنا بالموسيقى منذ اللقطة الأولى عن انطلاقة فيلم ملحميّ، ودعانا إلى الدخول بعالم من الصخب والجمال البصريّ، فالموسيقى التي ترافقنا ما هي إلّا رسائل من المشاعر ترسل بدقّة وحرفة إلى دواخل الجمهور المتفرّج. لقد اختار تارانتينو في هذا الفيلم الذي أنجزه العام 1994، عملًا موسيقيًّا من ستينيات القرن الماضي لعازف الغيتار الأميركيّ ديك دايل الذي بدوره أخذ هذه الموسيقى من غناء المهاجرين اليونانيّين إلى القارّة الأميركيّة، وعمل على تسريع إيقاعها لتتناسب مع موسيقاه التي ابتدعها وعرفت بالستينيات بموسيقى الركمجة (Surf Rock).

فيلم pulp fiction

اللافت في محاولة تتبّعنا لأصل هذه الموسيقى التي استعادت حضورها في فيلم Pulp Fiction، أنّ صاحب العمل الموسيقيّ الأميركيّ ديك دايل (مواليد 1937) متحدّر من أصول لبنانيّة، وصرّح في غير مناسبة أنّ هذا اللحن سمعه من أعمامه المهاجرين وكانوا يغنّون له حين كان طفلًا ويعزفون على آلة العود.

لحنٌ عابر للثقافات

يعود أصل هذه الموسيقى إلى الحقبة العثمانيّة، “Misirlou” وتعني الفتاة المصريّة، إلى عشرينيات القرن الماضي، تزعم الرواية التركيّة أنّ مؤلّف الأغنية هو عازف العود إبراهيم أفندي المصري (1879-1948)، أو أفرام ليفي، الحلبيّ المولد، والذي عاش قبل وصوله إلى اسطنبول سنوات في القاهرة فلقّب بالمصري. أمّا المصادر اليونانيّة فتؤكد أنّ مصرلو هي أغنية مجهولة المؤلّف من مدينة سميرنا، المرفأ العثمانيّ الكوسموبوليتيّ (إزمير حاليًّا) وقد سجّلها للمرّة الأولى اليونانيّ الإسطنبوليّ المولد تيتوس ديميتريادس العام 1927 في أثينا.

انتقلت هذه الموسيقى مع المهاجرين اليونان والأرمن إلى الولايات المتّحدة  الأميركيّة، وظهرت نسخ منها هناك على البيانو حيث اكتسبت شهرة سنة 1946، إلّا أنّ الشهرة الأكبر لها على نطاق العالم كان سنة 1962 عندما قام ديك دايل بتحويل اللحن إلى موسيقى روك الركمجة، ليعود هذا اللحن إلى الأضواء مرّة أخرى في فيلم Pulp Fiction العام 1994. إلّا أنّ هذه الرحلة الطويلة لهذا اللحن لم تفصح عن صاحبه، ليبقى اللحن الأصليّ سرًّا متنازعًا عليه بين الأتراك واليونان، لكنّ الثابت في الأغنية أنّ مؤلّفها كان مفتونًا بفتاة مصريّة ذات جمال ساحر وجملة “آخ خبيبي آخ يا للالي” ستزيد هذا اللحن سرًّا اكزوتيكيًّا واستشراقًا.

“آه يا أمال”

في رحلة هذا اللحن بين مرافئ إزمير وإسطنبول إلى القارّة الأميركيّة عرّج هذا اللحن على بيروت، وتعرّبت أغنيته بصوت المايسترو كلوفيس الحاج (1923-2012) ملحّن ومغنٍّ وقائد فرقة، وهو واحد من أبرز المطربين الذين أطلقتهم الإذاعة اللبنانيّة اعتبارًا من منتصف القرن العشرين وقد ذكره الموسيقيّ حليم الرومي في مذكّراته التي نشرتها مجلّة “الشبكة” الفنّيّة. غنّى في لغات عديدة ولعلّ أبرز أعماله المجهولة ما ذكرته بيانات الإذاعة اللبنانيّة بأنّه شارك السيّدة فيروز في الخمسينيّات غناء “تانغو أين حبيبي”.

ولد كلوفيس الحاج في دير القمر (الشوف). درس في معهد مدرسة المخلّص في بيروت وبدأ مشواره الفنّيّ في عمر الـرابع عشر. تتلمذ موسيقيًّا على يد وديع صبرا وحاز دبلومًا في العلوم الموسيقيّة وتخرّج من المعهد الموسيقيّ والأكاديميّة اللبنانيّة.

يروي الحاج في إحدى مقابلاته الصحافيّة الآتي: “بدأنا العمل في إذاعة الشرق الأدنى سنة 1948. كنّا نسجّل على سطح المبنى الكائن عند آخر خطّ القطار في الحمرا، فكان “الهوا” فوق السطوح، وكان الفنّانان حليم الرومي وتوفيق الباشا يديران الفرقة الموسيقيّة”.

في رحلة هذا اللحن بين مرافئ إزمير وإسطنبول إلى القارّة الأميركيّة عرّج هذا اللحن على بيروت، وتعرّبت أغنيته بصوت المايسترو كلوفيس الحاج (1923-2012) ملحّن ومغنٍّ وقائد فرقة

كان اللبنانيّ الوحيد في الأوركسترا الفرنسيّة التي كانت تحيي ذكرى 14 تموز، خلال هذه الاحتفالات التي كان يحضرها الجنرال الفرنسيّ شارل ديغول، تطوّع في الجيش برتبة رقيب ثمّ تمّ تشكيله إلى لواء الحرس الجمهوريّ فموسيقى الجيش حيث تقاعد العام 1969 لينصرف بشكل تامّ إلى ممارسة الفنّ والغناء في أماكن عدّة على شاطئ جبيل قبل أن يرحل في العام 2012. حوّل كلوفيس الحاج “Misirlou” إلى “آه يا أمال” قبل أن تصل إلى عالميّة المخرج تارانتينو، وأضاف صوته إلى هذا اللحن العابر للقارّات والثقافات.

يقول مطلع أغنية “أه يا أمال”:

“عندما تكسو القفار الظلال

تسكن البيد والربى والرمال

وهواكِ ليس يغفو والجمال

هما في الروح شعر وخيال

آه يا أمال”…

أين لي ذكر الليالي الطوال…

كلوفيس الحاج وفرقته

روابط موسيقيّة:

موسيقى فيلم “Pulp Fiction”:

https://www.youtube.com/watch?v=1hLIXrlpRe8

موسيقى ” Misirlou” اللحن الأصلي:

https://www.youtube.com/watch?v=LW6qGy3RtwY

أغنية ” آه يا أمال ” – كلوفيس الحاج

https://www.youtube.com/watch?v=AHhGZAtdwWU

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى