موقوفون وطفار بلا محاكمة فأين العدالة؟
يتخطّى عدد الموقوفين من أبناء بعلبك- الهرمل المئات، يتوزعون على زنازين السجون الرسميّة وأقبية التوقيف الاحتياطيّ “الاعتباطيّ في أحيان كثيرة” لدى الأجهزة الأمنيّة والمخافر، ينتظرون أن تُحدّد لهم مواعيد جلسات محاكمتهم، منهم من ينتظر بصيص فرج مع إشراقة كلِّ صباح، ومنهم من يئس وفقد أيّ أمل بالعدالة، لجهة إقرار حكم أو إخلاء سبيل.
“وعود الوزير كاذبة”
عشرات من المساجين زادت مدد توقيفهم عن عشر سنوات وأكثر، لم يحضروا أيّ جلسة، بعضهم أُحيلت ملفّاتهم إلى المجلس العدليّ، ولا يوجد في ملفاتهم هذه ورقة واحدة، أمّا موعد التئام المجلس العدليّ فبعلم الغيب، هذا إن تَمَّ تعيين شواغره كي يكتمل نصابه.
تتحدّث الناشطة الإعلاميّة الاجتماعيّة هدى الفليطي إلى “مناطق نت” حول ملف الموقوفين فتقول: “موضوع السجون والمساجين له وجهان، الأوّل حقوقيّ بالكامل، والآخر إنسانيّ، نحن نؤمن بالدولة ونريد قيامها، لكن لا دولة بلا عدالة، عندما ينحني قوس العدالة تتقهقر الدول وتتفكّك المجتمعات، لذلك إيمانًا منّا بالعدالة وقرينة البراءة لكلّ موقوف، نسعى مع الجهات المعنيّة، إلى تسريع المحاكمات العادلة فيعاقب المرتكب ويُخلى سبيل البريء”.
تتابع الفليطي: “منذ أسابيع قليلة شاركت في برنامج الإعلاميّ مارسيل غانم “صار الوقت” حيث كان الضيف وزير العدل الأستاذ هنري خوري، فاتحته بالموضوع على الهواء مباشرة، فأبدى تجاوبه فوراً أمام الحاضرين والمشاهدين، طلب إليّ إحضار أسماء المساجين، وكلّف مستشارته مارلين وهبي تحديد موعد لنا كي نسلّمه الأسماء ونشرح له حيثيّات الموضوع، أعددنا لائحة بسجناء كثيرين من بلدتنا عرسال، بينهم 18 سجينًا لم يحضروا أيّ جلسة منذ مدد تراوح بين الـ10 سنوات والـ13 سنة، لكن بعد إعداد لائحة الأسماء بتنا بحاجة إلى واسطة تُحدّد لنا موعدًا مع مستشارة معاليه؛ كيف يمكن للمواطن تصديق مسؤولين كهؤلاء؟ كيف لشعب أن يثق بحكّام من هذا النوع؟”.
السجن مدرسة للجريمة
بدلًا من أن يكون السجن مرحلة لإصلاح السجين، يعاد في خلاله تأهيله نفسيًّا ومعرفيًّا كي يعود إلى الحياة إنسانا سويًّا، فإن العكس تمامًا هو ما يحصل.
يقول رئيس جمعية “سين جيم نون” الناشطة منذ سنوات طويلة في ملف دعم السجين ومساعدته أبو عوض دمّر المقداد في حديث لـ”مناطق نت”: “الهدف من سجن المواطن هو إصلاحه، ردعه عن السير في طريق الخطأ، لكن في لبنان للأسف من يجهل ألف باء الجريمة عند سجنه، يكون متخصّصًا بها بعد خروجه، حيث يتعرّف داخل السجن إلى كلّ أنواع الجريمة، تجارة مخدّرات، سرقة، تشليح بالقوّة، إطلاق نار”.
ويضيف: “كيف يتمّ إصلاح سجين إذا كان السجن المركزيّ في رومية مجهّزًا لاستيعاب 1300 سجين، فإذا به يضمّ حاليًّا 4000 سجين، ويفتقد لأدنى مقوّمات العيش الإنسانيّ، من المياه إلى الطعام، إلى دورات المياه، ومطارح للنوم والجلوس، فهل هذه ظروف إنسانيّة لتأهيل مرتكب؟ السجين الذي يخرج من السجون اللبنانية يستحيل عليه العودة إلى الحياة السويّة، بل يحمل في قلبه وذاكرته الأحقاد والكراهيّة وينتظر أيّ فرصة مناسبة للانتقام”.
أمّا حول ظاهرة انتشار المخدّرات بين صفوف الشباب كثيرًا، وتعرّضهم للملاحقة والتوقيف، يؤكّد المقداد: “نشر المخدّرات وليس انتشارها، إنّها ظاهرة مدروسة وممنهجة للسيطرة على المجتمع، وإبقائه رهينًا للقوى السياسيّة المسيطرة، لأنّ المجتمع الواعي الناضج لا يناسبها، يتراجع تأييده لها ويسعى إلى محاسبتها على تقصيرها، هذا لا تريده ولا يناسبها”.
سجون ليست للبشر
من جهتها تعرض أمينة سرّ الجمعيّة الدكتورة خولة اسماعيل الناشطة في موضوع حقوق السجين في دردشة مع “مناطق نت” لمآسي السجون فتقول: “كوني ابنة بلدة بريتال لا أستطيع البقاء بعيدة من هذا الملف، الظلم الذي أراه بعيوني ويراه الجميع، من طريقة الاعتقال إلى مكان التوقيف إلى أسلوب المعاملة أثناء التحقيق، هذا الظلم يدفعني إلى مواجهته، نحارب الظلم ولا ندافع عن الجريمة”.
وتتابع: “هدفنا إصلاح الإنسان وتأهيله وليس تحويله إلى وحش بشريّ حاقد، هدفنا المثاليّ هو العدالة والعدالة فقط، لكنّ فظاعة المشاهد التي أراها في أثناء زيارة أيّ سجن أو سجين تدفعني إلى البكاء والحزن والحسرة على بلدي وعلى الإنسان في بلدي”.
تتابع اسماعيل: “معالجة الاكتظاظ في السجون هو أولويّة إنسانية، ومباني السجون في لبنان بالكاد تصلح لأن تكون حظائر قياسًا على السجون في دول كثيرة زرتها، إذ لا صيانة ولا ترميم ولا تستوفي أيّة شروط إنسانيّة، في ظل غياب شبه كامل للطبابة والأطبّاء، وعلاج جميع الأمراض هو حبّة “بانادول”. المراحيض والحمّامات بلا أبواب وبلا مياه وبلا ستائر وهذا يؤدّي إلى غياب أيّ خصوصيّة للسجين، ثمّ يتساءلون عن سبب وفاة 34 سجينًا في سجن رومية العام الماضي”.
تختم اسماعيل: “المؤسف أنّ الجمعيّات التي تدّعي العمل على مساعدة السجناء، تعمل بطريقة ربحيّة تجاريّة وليس بطريقة إنسانيّة حقوقيّة، وإلّا كيف يتمّ التحرّش بالأطفال القاصرين في سجن الأحداث من دون اتّخاذ أيّ خطوات قانونيّة رادعة ومن دون توثيقها ومعالجة ضحاياها؟”.
ودعت اسماعيل كلّ المنظّمات العاملة في حقوق الإنسان، حقوق المرأة، حقوق الطفل وذوي الاحتياجات الخاصّة إلى زيارة السجون اللبنانيّة، “والكشف على ما يحصل داخلها من جرائم، بهدف منعها ومحاربتها حفاظًا على حياة السجين وحقوقه الإنسانيّة”.
عشرات من المساجين زادت مدد توقيفهم عن عشر سنوات وأكثر، لم يحضروا أيّ جلسة، بعضهم أُحيلت ملفّاتهم إلى المجلس العدليّ، ولا يوجد في ملفاتهم هذه ورقة واحدة
شغور في القضاء
معاناة السجناء الكبرى تبقى في غياب جلسات المحاكمة وتباعدها أشهرًا طويلة، كثيرون يبقون قيد التوقيف أكثر من فترة حكمهم فمن يُعَوِّض عليهم ذلك؟
يشرح المحامي جهاد واكيم في حديث لـ”مناطق نت” أسباب ذلك فيقول: “القضاء في بعلبك الهرمل ليس بخير، بدءًا من الحجر وصولًا إلى البشر. قصر العدل في بعلبك لا يَصْلُح لأن يكون محكمة من حيث البناء والغرف والمساحة، فهو أولًّا موضوع نزاع بين المالك والدولة حيث صدر أخيرًا حُكْم الإخلاء لمصلحة المالك. وهو هندسيًّا لا يشبه قصور العدل، ومساحته لا تُشَكِّل عشرة بالمئة من حاجة المحاكم والغرف القضائيّة، إذ إنّ الملفات متراكمة في خزائن في ممرّات المبنى، وبعض القضاة يتناوبون على غرفة المكتب نفسه لإتمام أعمالهم، أمّا مكاتب الموظّفين فلا تتسع، ويبقى الأهم عدم وجود غرف صالحة لتكون قوس محكمة”.
يتابع واكيم: “تحتاج بعلبك الهرمل إلى أضعاف عدد القضاة الحاليّين، لتتمكّن من تسيير ملفّات الناس بشكل طبيعيّ. النقص كبير جدًّا، من محكمة الاستئناف إلى القضاة المنفردين، وكذلك الأمر بالنسبة إلى عدد الموظّفين والكتّاب”.
ويعطي واكيم مثالًا على ذلك فيقول: “ملفّات النيابة العامّة تتراكم دون تسجيلها جميعها في سجلّات التأسيس، كي تأخذ طريقها إلى المحاكم المتخصّصة لبتّها، والأمر نفسه في بعض المحاكم المنفردة وعدم قدرة القاضي على بتّها جميعها، لكن الأهم أنّنا في محافظة بعلبك الهرمل، لا نزال نتبع زحلة على رغم أنّنا أصبحنا محافظة مستقلّة، من النيابة العامّة ودوائر التحقيق، إلى الغرفة الابتدائيّة المدنيّة، محكمة الجنايات، جميعها تتبع زحلة، فهل نحن محافظة على الورق فقط؟”.
أمّا عن سبب تأخير الجلسات فيقول واكيم: “كثرة الملفات وكثرة المتداعين، إضافة إلى نقص عدد القضاة، كلّها تُسبب تباعد الجلسات، فقاض واحد لا يمكنه بتّ مئات الملفّات شهريًّا. وأخيرًا تمّ تكليف بعض القضاة العمل بشكل استثنائيّ في بعلبك، في المحاكم المنفردة، وهم يحاولون فعلًا سدّ النقص الموجود، لكن ذلك لا يكفي كون المشكلة كبيرة جدًّا ومزمنة”.
يختم واكيم: “يَعِد وزير العدل دائمًا بإيجاد حلول لهذه المشاكل، لكن جميع الحلول المقترحة لا تلبّي تطلّعاتنا وحاجاتنا بحدّها الأدنى. الوضع أكثر من مأسويّ، الملفات تتراكم، الحقوق تسقط بمرور الزمن، الوعود لا تلبّي حاجاتنا كما ذكرت، مهما تكلّمنا ورفعنا الصوت، لن نصف المشكلة جيّدًا، كأنّ الحرمان سياسة مقصودة، من الوزارات إلى نوّاب المنطقة، وكلّ المرجعيّات الفاعلة المؤثّرة”.
الطفّار والعفو العام
غالبًا ما يتردّد في الإعلام أنّ عدد مذكّرات التوقيف في بعلبك الهرمل تقارب الـ40 ألف مذكّرة، لكن المفارقة أنّ هذه المذكّرات تطال فقط حوالي 1500 مطلوب، بعضهم بحقّه أكثر من ألف مُذَكّرة!
والغريب فعلًا أنّ معظم هذه المذكّرات، يتمّ تسطيرها بطريقة شبه عشوائيّة، فاقدة أدنى معايير العدالة والدقّة، منها على ذمة “المخبرين” ومنها ما بات يعرف أخيرًا بـ”وثيقة اتّصال” ومنها نتيجة تعذيب الموقوفين، إذ يكفي أن يذكر الموقوف أيّ اسم في التحقيق ليصبح هذا الشخص مطلوبًا بشكل تلقائيّ دون التأكّد من كلام الموقوف.
يقول ع. أ. الموقوف في سجن رومية منذ 11 عامًا لـ”مناطق نت”: “العفو العام بات موضة انتخابية تَحْضُر كُلّ أربع سنوات، ثم يغيب عن ألسن المسؤولين وبالهم. كلّنا نعرف أنّه خديعة وبيع كلام للحصول على أصوات أهلنا”.
ويضيف: “نعرف كموقوفين صعوبة العفو العام لاعتبارات سياسيّة مذهبية، جُلَّ ما نريده ونطلبه هو محاكمات عادلة وسريعة. عاقبوا المجرم “انشالله تعدموه” أعطوا كلّ موقوف حكمه القانونيّ العادل، أمّا رمينا هنا في أسوأ ظروف لا تقرّ بها قوانين ولا أعراف ولا أخلاق، فهذا عين الظلم”. يختم ع. أ. “حتّى أنّ موقوفًا حاول الانتحار منذ أيام قليلة، نتيجة يأسه من تحديد جلسة له بعد 13 عامًا على سجنه من دون محاكمة”.
على أمل أن تُشرقَ شمس الدولة، وينطلق سهم العدالة من قوسه، يبقى اللبنانيّ يعيش على طريقة “كلّ يوم بيومه” بعدما اعتاد الأزمات وربّما أدمن آلامه ونزف جراحه.