“مونة” أمّ عدنان في قصرنبا مشروع أسريّ تجاوز البقاع
من بيت الزوجيّة المبكر وكانت في سنّ الخامسة عشرة بدأت بيان سيّد أحمد الديراني “أمّ عدنان” بتدريب يديها على تحضير “المونة” (المؤونة)، فنخّلت الكشك، وكبست المكدوس، ووقفت ساعات طويلة أمام نار الموقد تنتظر نضوج المربّيات وربّ البندورة وغيرها كثير من أنواع “المونة”.
بعد عشر سنوات لم يذهب تعب أمّ عدنان سُدى إذ سرعان ما ذاع صيت إنتاجها واستطيب الناس مؤونتها، من أقارب وأصدقاء، وازداد الطلب على منتجاتها، بعدما عرفتها بيوتٌ في الشمال والجنوب، “ولطالما نصحوني بامتهان تحضير المؤونة” تقول أمّ عدنان لـ”مناطق نت”.
“أمّ عدنان”، هكذا يعرفها الجميع، هي من بلدة قصرنبا البقاعيّة، تبلغ من العمر نحو 57 عامًا. تنمّ عن وجه بشوش، وتعشق الضيوف، ويُعرف أنّ باب بيتها مفتوح دائمًا للجميع. تواظب أمّ عدنان صيفًا وشتاءً على ارتداء كنزة سوداء قصيرة الأكمام. تبدأ نهاراتها بالاستيقاظ باكرًا كي تصبّح على الناس والحقول، إلى أن غزا اسمها أخيرًا وسائل التواصل الاجتماعيّ.
مؤونة من ثمار الأرض
بعد كلّ هذه السنوات لم تعد مؤونة أمّ عدنان تقتصر على الكشك والمكدوس والمربّيات (التين والمشمش والفراولة واليقطين والورد والتوت) بل تخطّتها إلى المخلّلات على أنواعها واللبنة البلدية، خلّ العنب وخلّ التفاح، ورق العنب، شطّة، حامض الحصرم، دبس الرمّان، بالإضافة إلى ماء الورد وماء الزهر وشراب الورد وشراب التوت الشاميّ، وأخيرًا الفواكه والخضار المجفّفة (بندورة، خوخ، تين)، وهذا العام بدأت بتحضير لبنة الجرّة أو “الأمبريس”.
تقول أمّ عدنان إنّها تعتمد بشكل أساس على نتاج وحصاد أرضها، وإذا لم يتوافر ذلك فتشتريها من حقول وبساتين جيرانها في البلدة. وتتابع في حديثها مع “مناطق نت”: “أحضّر المكدوس والعنب وورق العنب ومربّى المشمش، وبعض المنتجات مثل الرمّان الذي أعدّه سنويًا من الهرمل ومن بزبينا في قضاء عكّار، أمّا من مغدوشة في الجنوب وأميون في الكورة فأحضر زهر أبو صفير (النارينج) لإعداد ماء الزهر”.
تخطف أمّ عدنان الأنظار وهي تنشط في تحضير المؤونة، فتشعر وأنت تراقب سير عملها كأنّها ترسم قطعة فنّيّة أكثر منها إعداد مؤونة، هي التي تتفرّد بطعم ورق العنب ومذاق ماء الورد، وذلك “لأنّني أجهّز كلّ شيء بيديّ، وأقطف الثمار من كرمي وبستاني ومن حقول الأزهار”. لا تهوى أمّ عدنان المعارض ولا المشاركة فيها، ولسان حالها يقول: “أفضّل العمل بحرّيّة وتطوير عملي باستمرار”.
تخطف أمّ عدنان الأنظار وهي تنشط في تحضير المؤونة، فتشعر وأنت تراقب سير عملها كأنّها ترسم قطعة فنّيّة أكثر منها إعداد مؤونة، هي التي تتفرّد بطعم ورق العنب ومذاق ماء الورد
وتشرح: “آخر ما قمت به هو تجفيف الفواكه والخضار أمام المنزل على الطريقة البدائيّة تحت أشعة الشمس، فهي تحتاج مدّة أسبوع كي تجفّ، وأنشر البندورة والخوخ والتين على أخشاب ملفوفة بأوراق الألمنيوم، من أجل تأمين التهوئة من أعلى ومن أسفل، وهذه الطريقة تساعدني في تجفيف كمّيّة أكبر”.
نتاجٌ دقَّ بيوت الخارج
من فكرة بسيطة متواضعة، تطوّرت مؤونة أمّ عدنان البيتيّة، لتصبح مشروعًا متكاملًا، إذ واكبت عائلتها ذلك، وقدّمت لها الدعم والتدليل على منتجاتها التي انتقلت بفضلهم إلى مرحلة جديدة، إلى صفحات إلكترونيّة على مختلف وسائل التواصل الاجتماعيّ.
خلود الديراني ابنة أمّ عدنان هي المسؤولة عن تسويق منتجاتها الكترونيًّا، وتشير في حديث لـ”مناطق نت” إلى أنّها “في العام 2019 بدأت مرحلة الترويج للمنتجات وتعريف الناس بها على نطاق واسع، إذ لم يعد الزبائن يقتصرون على المعارف والأصدقاء، بل انتشرت مؤونة أمّ عدنان في كلّ أنحاء لبنان، وفي العام الماضي أضحت عابرة للحدود، إذ بدأت تُرسل إلى الكويت وتونس”.
انضوت العائلة المؤلّفة من ستة أفراد في المشروع، فانخرط البعض في أعمال التحضير والبعض الآخر في التسويق والترويج، وبهذا التكامل بين أفراد الأسرة أطلقت أمّ عدنان مشروعًا حقيقيًّا ومهمًّا للبلدة.
“في السابق لم تستطع أمّي تأمين مدخول لها من خلال عملها في المؤونة، واقتصر الأمر على توفيرها للمنزل من دون أيّ كلف، لكن بعد العام 2019 ساعد إنتاج المؤونة الأسرة في تأمين مستلزماتها، وتحديدًا في فترة الأزمة الاقتصاديّة، خصوصًا أنّ الوالد عسكريّ متقاعد وراتبه متواضع، فكان مشروع الوالدة بمثابة المنقذ في هذه الفترة الصعبة”، تقول خلود
معدّات بدائية بمواجهة التحدّيات
عن المعدّات المستخدمة في تحضير المؤونة تقول خلود: “على رغم نجاح المشروع من خلال الترويج الاعلاميّ للمنتجات، إلّا أنّ مجموعة من التحدّيات لا تزال تواجهه، ويأتي في طليعتها المعدّات التي نستعملها وهي يدويّة الصنع، مثل كركة التقطير الصغيرة، ومكبس المكدوس الذي نثقله بالحجارة”. وتتابع خلود: “العمل اليدويّ يرهق الوالدة ومن يعمل معها لا سيّما مع زيادة الطلب على المنتجات”.
وفي هذا الإطار، تشير خلود إلى “أنّنا تواصلنا مع عديد من الجمعيّات على أمل تقديم المساعدة بالآلات والمعدّات واليد العاملة ولكن من دون جدوى، والسبب أنّ الجمعيّات تشترط العمل مع مؤسّسات ذات صفة قانونيّة، والمشروع لا يزال في إطار الأسرة، لكنّنا نطمح إلى نقل المشروع نحو إطار مؤسّساتي يستقطب الجمعيّات”.
أبعاد المشروع
تحقيق الربح والبيع بكمّيّات كبيرة ليس الهدف الوحيد الذي تسعى إليه عائلة أمّ عدنان من خلال مشروعها، إذ يحمل هذا المشروع بعدًا تثقيفيًّا حول المؤونة ومعالم قصرنبا الطبيعيّة والأثريّة.
وفي هذا السياق تقول خلود: “الهدف الأساس هو التعريف بالبلدة واستقطاب الزوّار كي تستفيد البلدة بأكملها، لذا، ننظّم سنويًّا مجموعة من الأنشطة في أواخر نيسان (أبريل) وأيّار (مايو) مثل موسم الورد الدمشقيّ حيث ننظّم رحلة من العاصمة بيروت إلى حقل الورد في البلدة، وتتضمّن الرحلة محاضرة حول الورد والقطاف، ثم نزور قلعة قصرنبا الرومانيّة، ومن ثم نأخذ الزوّار إلى المنزل لتقطير الورود، ونختم الرحلة بإفطار تعدّه الوالدة من منتجاتها الطبيعيّة”.
وبحسب خلود يتمّ التحضير لنشاط في 25 آب (أغسطس) الجاري، “وهو نشاط تدريبيّ لتعريف الناس بكيفيّة صناعة المكدوس. والنشاط الأبرز على مدار السنة هو رحلة سير على الأقدام في داخل البلدة، ويتمّ كذلك التحضير لنشاط آخر في موسم قطاف العنب، لكن لم يتمّ تحديد موعده بعد”.
استطاعت أمّ عدنان ببساطة الفكرة أن تترك بصمة لها في عالم المؤونة من جهة، وفي عالم المبادرات النسائيّة من جهة ثانية، تمكّنت من الدخول إلى قلوب الناس، وأدخلت معها مؤونتها إلى منازلهم.
تختم خلود: “الهدف الأكبر من خلال مشروعنا هو الحفاظ على الإرث والتراث وعلى فكرة المؤونة وأهمّيّتها، وتعريف أهل المدن عليها. والأهمّ هو تمكين المرأة، وإثبات أنّها قادرة من خلال ما علّمتها إيّاه الحياة أن تبتكر وتبادر في هذه المجتمعات”.