“مُغر الطحين”.. موقع أثري “بعلبكي” ممنوع من الإهتمام!
“مُغر الطحين” يجهله كثيرون أو لا يعلمون عنه ما يجب. يُعتبر أسطورة من أساطير بعلبك الأثريّة والمنسيّة في الوقت نفسه، كما أنّه جزء لا يتجزّأ من آثار المدينة، إذ يتردّد أنّ عمره من عمرها، أيّ نحو ستة آلاف سنة، ويصنّف من أكبر المغاور المتداخلة بعضها ببعض.
تعتبر مدينة بعلبك من المدن الغنيّة بالآثار، لا سيّما المغاور. في هذا الصّدد يقول الكاتب الأستاذ حسين عثمان “أبو أيمن”: “إنّ بعلبك تكتنز بين طيّاتها ما يقارب 300 مغارة، أهمّها مُغر الطحين في منطقة الشراونة، بالإضافة إلى مغاور في حي شميس، ناهيك عن أنّ السلسلة الشرقيّة في بعلبك تحتوي على كثير من المغاور غير المكتشفة، ولا أحد يأتي على ذكرها برغم أهمّيّتها”. مضيفاً: “إنّ هذا الدور ملقى على عاتق كلّ من بلديّة بعلبك ووزارتي الثقافة والسياحة”.
اكتشافه وموقعه
عُرف مُغر الطحين كموقع أثريّ مميّز منذ مطلع القرن العشرين، من خلال صور عالم الآثار الألمانيّ “تودور فيغان” ومنشوراته، حيث يظهر “المقلع” في بعض الصور خال من أيّ بناء. يقع مُغر الطحين في شمال مدينة بعلبك، في تكوينة جيولوجّية صخريّة تحوي العديد من المعالم الأثريّة، وأكثرها مقالع حجريّة تعود الى جميع الحقب التاريخيّة التي عرفتها مدينة بعلبك.
مُغر الطحين حكاية تاريخيّة
مُغر الطحين، مقلع رومانيّ أُعيد استخدامه في نهاية الفترة الرومانيّة كمدافن كهفيّة نحتت في صخر المقلع. لكن وبسبب تربته الكلسيّة الهشّة، تأثّر الموقع بعوامل طبيعيّة ومن تسرّب المياه، ما جعل سطحه حجراً مفتّتاً.
هندسيّاً، يتألّف المُغر من عشرات المغاور والكهوف المتداخلة في ما بينها بسرادب وأبواب لا تخلو من الزخارف الهندسيّة، (كما كان منذ آلاف السنين). تتّخذ بعض كهوفه أشكالاً مستطيلة أو مربّعة. ويتميز بعضها الآخر بهندسته الدائريّة، ناهيك عن مجموعة من الرسوم الهندسيّة في الأبواب، كنصف دائرة أو مستطيل.
مُغر الطحين، مقلع رومانيّ أُعيد استخدامه في نهاية الفترة الرومانيّة كمدافن كهفيّة نحتت في صخر المقلع. لكن وبسبب تربته الكلسيّة الهشّة، تأثّر الموقع بعوامل طبيعيّة ومن تسرّب المياه، ما جعل سطحه حجراً مفتّتاً
وهنا يشير عثمان في حديث لـ “مناطق نت” إلى “أنّه من حيث الشكل الهندسيّ كان مختلفاً ومتميّزاً، ومنذ فترة ليست بعيدة قامت بعض الجمعيّات الأهليّة وبالتعاون مع بلديّة بعلبك بحملة تنظيف وترميم وإزالة الشوائب التي تخفي جمال هذا المعلم التاريخيّ والأثريّ كافة، لهذا يعتبر مُغر الطحين مقصداً للزوّار اللبنانيّين والأجانب على مختلف أطيافهم ومشاربهم”.
مدافن بيزنطية ورومانية
تتميّز كهوف المقلع بنمط مدفنيّ يعود للفترة الرومانيّة، وهو “الأركسوليا”، أيّ الدفن تحت أقواس منحوتة في الصّخر داخل نواويس صخريّة محفورة، أو توابيت من مواد قابلة للتلف.
ويتميز المقلع بالعديد من المعالم الخاصّة بتقنيّات قلع الحجر، ومن ضمن الاحتمالات استعمال البكار أو البيكارليت في نحت الصخر لا سيما الاشكال الدائرية أو غيرها، ويتميّز أيضاً بوجود بقايا بعض قنوات الإستخراج. كذلك هناك بعض الثقوب المحفورة في الصخر، والتي استخدمت في تسهيل عمليّة نقل القطع الحجريّة.
يحظى “المُغر” بمنافذ تتّصل بسرادب محفورة في الصخّر، ضمن أنفاق، يتردّد أنّها تمتّد نحو مسافة كيلومترين، متجاوزة القلعة باتّجاه تلّة “الشيخ عبد الله” المشرفة على معابد قلعة بعلبك الأثريّة، التي تضمّ عند منحدرها مقلعاً رومانيًّا، وكذلك في محلّة “تلّ الكيال” غرب بعلبك حيث يقبع مكانه “مكب الكيال”، إضافة الى مقلع آخر عند شرق المدينة، في وادي الشعب مباشرة، استخدم في بناء القلعة.
الرواية التاريخيّة
يحاكي المُغر حيّزاً من التاريخ، إذ يشهد على مراحل وحقبات تاريخيّة، إنْ على أيام الرومان أو البيزنطيّين أو الأتراك والفرنسيّين، ويؤكّد عثمان أنّه استعمل تاريخيّاً كمخزن للحنطة والحبوب، وكزرائب للماشية. وفي فترة لاحقة استعمل كملجأ من الحروب المختلفة التي توالت على المدينة.
ويلفت عثمان إلى أنّ “الثوّار الذين دافعوا عن المدينة كانوا يستعملونه كملجأ للحماية. وفي مراحل لاحقة استخدمت المغاور كمدافن، وخاصة في العهد البيزنطيّ والرومانيّ، وارتبط اسم مُغر الطّحين بتربته البيضاء الكلسيّة، التي تشبه الطحين، لذلك أطلقت عليه تسمية مُغر الطحين”.
مبادرات للتعريف على أهمّيّة الموقع
بالرغم من أهمّيّة هذا المعلم الأثريّ، إلّا أنّ وزارة الثقافة لم تصنّفه ضمن المعالم الاثريّة الثابتة في بعلبك ولم تضعه ضمن الأولويّات، إذ تقتصر عمليّات التنقيب على محيط قلعة بعلبك حصراً.
ومن جهة ثانية، فإنّ السلطات المحلّيّة المتمثّلة ببلديّة بعلبك، تمعن هي الأخرى في إهماله، غير مكترثة لهذا المعلم الاثريّ وخصوصاً لجهة حمايته، من خلال تثبيت عدد من عناصر الشرطة، لمنع الأهالي القاطنين بجواره من رمي نفاياتهم فيه.
بالرغم من أهمّيّة هذا المعلم الأثريّ، إلّا أنّ وزارة الثقافة لم تصنّفه ضمن المعالم الاثريّة الثابتة في بعلبك ولم تضعه ضمن الأولويّات، إذ تقتصر عمليّات التنقيب على محيط قلعة بعلبك حصراً.
هذا ويتولّى أحد المواطنين “البعلبكيّين” مهمّة تعريف بعض زوار القلعة ولفت انتباههم إلى هذا المعلم الأثريّ الرائع، وإلى عدد من الأماكن التاريخيّة الأخرى في المدينة. لأنّه يعتبر أنّ بعلبك ليست الهياكل فحسب، بل هي المواقع الاثريّة والتاريخيّة المنتشرة في مختلف أرجاء المدينة.
وبحسب أحد المرشدين ممّن يصطحبون السيّاح إلى مُغر الطحين، “فإنّ الأجانب يستغربون وجود هذا المعلم، وإنّهم لم يسمعوا به من ذي قبل، لذا يُبدون الكثير من الإعجاب به، وقد تواصل أحدهم عن طريق مكالمة الفيديو مع أبنائه ليُريهم هذا المعلم. وهم يشدّدون دائماً على أنّه موقع مهمّ ويستحقّ الإهتمام والتقدير من قبل الدولة اللبنانيّة”.
“لا تقتصر الآثار في المدينة على هذا المعلم، فكثيرة هي المواقع الأثريّة المهملة” على حدّ تعبير الكاتب عثمان، “إذ تحتوي المدينة على سرداب يمتدّ من محلّة الشيخ عبدالله، حي شميس، نزولاً حتّى هياكل بعلبك التاريخيّة. وثمّة موقع آخر في حجر الحبلى الذي يبعد عن القلعة نحو ثلاثة كيلومترات، ويتميّز محيطه بوجود المغاور والأحجار الكبيرة، التي تعتبر الأكبر في العالم، ومن أهمّ المقالع الرومانيّة. ولا تخلو منطقة الشراونة الكيال من المغاور المهملة التي تحوّلت إلى مكبّات للنفايات”.
لطالما ناشد أهالي بعلبك المعنيّين الإهتمام بهذا المعلم على نحو ما يستحقّ، وعبر “مناطق نت” يرفع عثمان الصوت عالياً باسم أهالي المدينة “إلى كلّ من وزارة السياحة، ووزارة الثقافة، وبلدية بعلبك، لوضع هذا المعلم ضمن أولوياتهم والتعريف به والاهتمام به”.