ناحية بعلبك قبل 500 عام ازدهار اقتصاديّ وفائض إنتاج (3)

تربية المواشي والنحل، الطواحين ودواليب الحرير

يتناول الدكتور عبدالله سعيد في القسم الثالث من تحقيق “ناحية بعلبك قبل 500 عام ازدهار اقتصاديّ وفائض إنتاج” قيمة الضرائب على قطاع المواشي والنحل والطواحين ودواليب الحرير، التي كانت تجبيها السلطنة العثمانيّة، ومن خلال أرقام تلك الضرائب، يتبيّن حجم هذه القطاعات التي كانت تشكّل عصب الاقتصاد المحلّيّ حينذاك. ويلحظ د. سعيد في تحقيقه أيضًا تطوّر تلك القطاعات ونموّها خلال سنوات محدّدة، ممّا يتيح للقارئ معرفة الواقع الاقتصاديّ لناحية من نواحي لبنان قبل 500 عام، حين كانت تلك النواحي تتمتّع بازدهار اقتصاديّ وفائض إنتاج قبل أن تنقلب الصورة ويصبح الاستيراد في زمننا الحاضر هو السائد حيث نأكل ممّا لا نجني.

المحرّر

تطوّر الإنتاج الحيوانيّ

1- تربية الماعز والنحل: كانت السلطنة العثمانيّة تستوفي أقجة واحدة عن كلّ خليّة نحل ومثلها على كلّ رأسين من الماعز أو الغنم. لذا بلغ عدد رؤوس الماعز في إحصاء 1525، حوالي 49410 رأسًا، وخلايا النحل نحو 2929 خليّة؛ وكانت قرى راس ويونين وعاقورة في المرتبة الأولى في تربية الماعز مع 2600 رأس في كلّ منها، وقرية خريبة التين في المرتبة الأخيرة مع 300 رأسٍ؛ وواردين الأولى في تربية النحل مع 500 خليّة وسرعين في المرتبة الأخيرة مع 30 خليّة. وفي سنة 1535، انخفض عدد رؤوس الماعز إلى نحو 45074 رأسًا، والنحل إلى 2606 خليّات، وفي هذا الإحصاء احتلّت قرى عرسال ورعيان ونحلة المرتبة الأولى في تربية الماعز مع 3000 رأس في كلّ منها، وسلوقيّة المرتبة الأخيرة مع 120 رأسًا.

في تربية النحل كانت عاقوره في المرتبة الأولى مع 1200 خليّة، ومجدلون الأخيرة مع 10 خلايا فقط. ولكن في إحصاءي 1552 و1569، لم يفصل الكاتب بين رسوم الماعز والنحل إلّا في قرية عاقوره/ عاقورا حيث بلغ عدد خلايا النحل فيها 1500 خليّة مقابل 3200 رأسٍ من الماعز.

لذا بلغت رسوم النحل والماعز مجتمعة للعام 1552، حوالي 34530 أقجة، واحتلّت قرية يونين المرتبة الأولى بقيمة الرسوم على الماعز والنحل معًا فيها والتي بلغت نحو 3150 أقجة، بينما احتلّت قرية القاع المرتبة الأخيرة مع رسمٍ بلغت قيمته فقط 20 أقجة. وأخيرًا في إحصاء 1569، ارتفعت قيمة رسوم الماعز والنحل مجتمعةً إلى نحو 42259 أقجة، وذلك كدليل على تنامي تربية الماعز والنحل وازدهارهما بحيث نمت بنسبة 168 في المئة عمّا كانت عليه في سنة 1535. وكانت قرية عمشكا الأولى في تربية النحل والماعز مجتمين للعام 1569، بقيمة الرسوم المفروضة على الماعز والنحل والبالغة آنذاك حوالي 3400 أقجة، وفهيلة الأخيرة مع 20 أقجة.

وهكذا، بسبب النهضة الكبيرة في تربية النحل والماعز والتي تمتدّ إلى أزمانٍ بعيدة على شرقي البحر المتوسّط، يمكن تفسير دعوة البابا أوربان الثاني، في أثناء التحضير للحملة الصليبيّة الأولى العام 1095، الفرسان وقاطعي الطرق في أوروبّا إلى الإشتراك بالحملة للإستيلاء على ثروات الأعداء الأتراك (السلاجقة) وأراضي القدس التي يسيل فيها العسل واللبن أنهارًا.

تربية الأبقار: إنّ السلطنة العثمانيّة لم تفرض رسومًا على أبقار التربية المنزليّة العاملة أو الحلوبة والمخصّص إنتاج حليبها ولحمها للاستهلاك المنزليّ، إلّا في حالات بيعها للقصّابين من أجل ذبحها، فعندئذ يدفع البائع عنها في المناطق الجبليّة الوعرة والقليلة الأراضي الصالحة للرعي أقجتين على كلّ رأس بقر، أو ثلاث أقجات في المراعي السهليّة الخصبة وتبعًا لنوع الأبقار وأعمارها.

لذا ابتداءً من إحصاء 1535، تضمّنت دفاتر الميري رسومًا على الأبقار في بعض قرى ومزارع بعلبك الشرقي تحت رسم الجاموس، ولكن على نطاق ضيّق مقارنةً بتربية الماعز والنحل؛ بحيث بلغت رسومها في تلك السنة، نحو 1660 أقجة، تًستوفى عن 830 رأسًا توزّعت على 650 رأسًا في إيعاث، و130 رأسًا في وردين و50 رأسًا في مجدلون. ولكن في إحصاء 1552، انخفضت الرسوم إلى 289 أقجة (17 في المئة)، أيّ إلى أقلّ من 150 رأسًا، منها 109 رؤوس في إيعات، و30 رأسًا في وردين، وستّة رؤوس في مجدلون. وكما في الإحصاء السابق حافظت تربية الأبقار على انخفاضها بحيث بلغت رسومها مجتمعةً، في إحصاء 1569، نحو 307 أقجات أيّ بزيادة 16 أقجة فقط، أو ثمانية رؤوس، وهكذا، حافظ العدد على نفسه في كلّ من إيعاث ووردين مقابل ارتفاعه إلى 15 رأسًا في مجدلون.

لقراءة القسم الأول:ناحية بعلبك قبل 500 عام ازدهار اقتصاديّ وفائض إنتاج (1) ملكية الأراضي وتقسيمها، الإنتاج والضرائب

حق المرعى والمشتى: كانت السلطنة العثمانيّة تتقاضى رسومًا عن المناطق الصالحة للرعي والمشتى في المغاور والكهوف عن كلّ مائة رأس ماعز أو غنم مقدار قيمة ثمن رأسٍ واحدٍ. فلذا لم تخلُ مزرعة إلًا وكان يُستوفى منها حقّ المرعى، ولكن بدون فصله عن الخراج أو الديموس (خراج مقطوع مع حقّ المرعى). وبما أنّ أراضي ناحية بعلبك الشرقيّ كانت واسعة وفيها فسحات سليخيّة وموات وأحراج تصلح لرعي الماعز، فلقد بلغت رسوم المرعى المُسجّلة بشكلٍ مستقلٍّ في العام 1525، نحو 600 أقجة، وارتفعت في إحصاء 1535، إلى 1200 أقجة، ثمّ في العام 1552، إلى 3860 أقجة، وفي العام 1569، إلى 2284 أقجة. أمّا القرى التي كانت بعض أراضيها مراع فهي: رعيان وعاقوره ووردين ومجدلون ودير طرفه وخربة التين.

السلطنة العثمانيّة لم تفرض رسومًا على أبقار التربية المنزليّة العاملة أو الحلوبة والمخصّص إنتاج حليبها ولحمها للاستهلاك المنزليّ، إلّا في حالات بيعها للقصّابين من أجل ذبحها

المغالق الحرفيّة

أ‌- الطواحين: منذ أن استقرّ الإنسان في مجموعات قرويّة وأخذ يُنتج الحبوب بكمّيّات تكفيه لصناعة الطحين والبرغل على أنواعه، لجأ في البداية إلى الجاروشة، ومع نشوء القرى بجوار الينابيع والمجاري المائيّة أقام الطواحين وطوّرها من طاحون بحجر رحى واحدٍ، إلى طاحون بحجرين ثمّ بثلاثة.

من هنا تشير تسجيلات دفاتر الميري العثمانيّة، إلى أنّه حتّى الربع الأول من القرن التاسع عشر لم يكن في ناحية بعلبك من مراكز إنتاجيّة سوى الطواحين المائيّة التي بلغ عددها في إحصاء 1525، نحو 26 طاحونًا تعمل على 29 حجرًا، توزّعت بمعدل خمس طواحين في مزرعة حدث النحاليّة/ النهاليه، وثلاث طواحين في كلّ من: يحفوفة ولبوة ولفيكي/ الفاكهة حاليًّا، وطاحونتين اثنتين في كلّ من نحلة وقنا، وطاحون واحد في كلّ من يماسه/يماسا وجنتا وطلية الشرقيّة ومقنّة ومرعبود وعين وراس ومزرعة عين أصنان.

ارتفع هذا العدد في إحصاء 1535، إلى 62 طاحونة (238 في المئة) مع 87 حجرًا (300 في المئة)، وذلك أن بعد ظهر 36 طاحونة جديدة، توزّعت على النحو الآتي: ثماني طواحين تعمل على 16 حجرًا في قرية عاقوره، وأربع طواحين في كلّ من يونين وراس؛ وثلاث طواحين في رعيان، وطاحونتان في عين وقاعه/قاع وطلية الشرقيّة؛ وطاحونة واحدة في كلّ من إيعاث ومعربون ولبوة ولفيكي/ الفاكهة، ومزارع: شحيميّة ومران وعين بك وصير/سير الحرف وبكناس/ مكناس وبايدمور على نهر لبوة.

لقراءة القسم الثاني: ناحية بعلبك قبل 500 عام ازدهار اقتصاديّ وفائض إنتاج (2) حصص الأوقاف من الضرائب وإنتاج الحبوب

وفي إحصاء 1552، ارتفع العدد، أيضًا، إلى 66 طاحونًا (254 في المئة) وإلى 90 حجرًا (314 في المئة) بعد أن نشأت طواحين جديدة في كلّ من قرية فهيلي ومزارع: جزين/حزين وعين تين وكنيسة. ثمّ تراجع العدد في إحصاء 1569، إلى 62 طاحونًا (238 في المئة) مع 88 حجرًا (303 في المئة)، مثلما كان عليه في العام 1535. (ملاحظة: لقد تراوح رسم الطاحون، في الحقبة المدروسة، ما بين 30 و60 أقجة على الحجر الواحد، وكان هذا الرسم عادةً من حصّة الخاص الشاهي أو المير ميران).

من هنا، يعكس ارتفاع عدد أحجار الطواحين هذا مدى تطوّر إنتاج الحنطة بكمّيّات كبيرة في ناحية بعلبك الشرقي. مع العلم أنّ جميع هذه الطواحين كانت ملكيّات خاصّة للأفراد أو لبعض القضاة، أو وقفيّة على المساجد والمدارس.

ب‌- المعاصر: بعكس المطاحن لم يرد في إحصاء العام 1525، أيّ ذكرٍ للمعاصر، ليُسجّل في إحصاء 1535، نحو 131 معصرة دفعة واحدة، توزّعت على القرى الآتية: في قنا (20 معصرة)، وعاقورة 10 معاصر، وفي كلّ من يونين وعرسال وفضّية ثماني معاصر، وفي كلّ من مقنّة وطلية الشرقيّة ستّ معاصر، وفي كلّ من عمشكا وبغدانه وخريبة الرواديف خمس معاصر، وفي كلّ من حورتعلا ويحفوفة وبليتار (بريتال) ومعربون وحربتا ولبوة وشعت ولفيكي أربع معاصر، وفي كلّ من مجدلون وقرحا ثلاث معاصر، وفي كلّ من طبشار ويماسة معصرتان اثنتان، وفي كلّ من فهيلي والمزارع: مغراق وصحصاح وحورة معصرة واحدة.

وفي إحصاء 1552، ارتفع العدد إلى نحو 168 معصرة (128 في المئة)، أيّ بزيادة 37 معصرة (28 في المئة)، وذلك بعد أن دخل طور الإنتاج 75 معصرة جديدة مقابل 38 معصرة تعطّلت. ولقد توزّعت المعاصر الجديدة على قرى الناحية كالآتي: 25 معصرة في نحلة، و14 معصرة في دورس، وستّ معاصر في نبحا؛ وأربع معاصر في كلّ من سرعين وايعاث (إيعات) وخربة الرواديف؛ وثلاث معاصر في كلّ من بليتار ورعيان وعين؛ ومعصرتان في كلّ من راس وطبشار؛ ومعصرة واحدة في كلّ من طلية الشرقيّة ومقنّة وشعت ودير مطرفة ومزرعة صير (سير) الحرف. أمّا المعاصر التي خرجت من الخدمة فكانت: 20 معصرة في قرية قنا، بدون معرفة السبب، و7 معاصر في العاقوره، ومعصرتان في كلّ من يحفوفة وعمشكا وفضّية، ومعصرة واحدة في كلّ من حورتعلا ويونين ومجدلون ولبوة ومزرعة صحصاح.

أمّا في إحصاء 1569، فتراجع عدد معاصر ناحية بعلبك الشرقيّ إلى 166 معصرة، أيّ بنقص معصرتين فقط عن إحصاء 1552، ولكن بقيت بزيادة 35 معصرة (26.7 في االمئة) عن العام 1535، وكان لافتًا في هذا الإحصاء الأخير تراجع عدد معاصر قرية العين من ثلاث معاصر إلى واحدة فقط، مع العلم أنّه في إحصاء 1535، لم يُسجّل فيها أيّ معصرة.

وإنْ دلّ العدد الكبير للمعاصر، آنذاك، فإنّه يدلّ على تطوّر نموّ وازدهار زراعة أشجار العنب (الكرمة) في ناحية بعلبك الشرقيّ على نطاق واسع بما يفيض الإنتاج عن حاجات السكّان للأكل، فصنعوا الدبس الذي كانوا يستعملونه بديلًا عن السكّر في حلويّاتهم ومشروباتهم المحلّيّة.

وإنْ دلّ العدد الكبير للمعاصر، آنذاك، فإنّه يدلّ على تطوّر نموّ وازدهار زراعة أشجار العنب (الكرمة) في ناحية بعلبك الشرقيّ على نطاق واسع بما يفيض الإنتاج عن حاجات السكّان للأكل

أ‌- دواليب الحرير: كالمعاصر لم تعرف قرى بعلبك تواجد دواليب الحرير، أيّ الحلّالات العربيّة التقليديّة، قبل العام 1535، حيث بلغ عددها في ذلك العام خمسة دواليب فقط، كانت في كلّ من يحفوفة (2 دولابان)، ودولاب واحد في كلّ من جنتا وعاقورة ومعربون؛ ثمّ ارتفع هذا العدد إلى تسعة دواليب في إحصاءي 1552، و1569، بعد أن نشأت الدواليب الإضافيّة: في قرية راس (2 دولاب)، ودولاب واحد في كلّ من يماسه وقنا ولبوة، في حين تراجعت في يحفوفة إلى دولابٍ واحدٍ فقط.

لكن في العام 1569، أصبح عدد دواليب الحرير في قرية عاقوره وحدها أربعة دواليب، نسبةً إلى موقعها على السفح الغربيّ لسلسلة جبال لبنان الغربيّة الغنيّة بالمتساقطات، وإلى طبيعة أراضيها الزراعيّة الملائمة لشجرة التوت، أكثر من الزيتون. وذلك يعني بلغة الاقتصاد، أنّ هذه الدواليب التسعة كان بإمكانها أن تصبح نواةً لتسعة معامل حلّ حرير حديثة، لو تسنّى لناحية بعلبك الشرقيّ أصحاب رساميل متنوّرة صرفوا اهتماهم على تنمية مناطقهم الريفيّة، بدلًا من أن يبنوا القصور الفارعة، وينافسوا بعضهم البعض على تجميع الثروات النقديّة للمضاربة في التزام عائدات الرسوم والضرائب الشرعيّة الرسميّة التي لم تكن في يوم من الأيام، إبّان الحكم تتعدّى الـ 15 في المئة، إلاّ بعد أن دخل أصحاب الرساميل المحليّة هؤلاء، في منافسة أصحاب التعاقد الوظيفيّ العثمانيّ، فرفعوا العائدات الضريبيّة إلى نحو 40 في المئة وأكثر من قيمة الإنتاج الزراعيّ والحرفيّ، وغالوا باستغلال كدح وعرق الفلّاحين والمالكين الصغار وتسخيرهم في بناء قصورهم واستصلاح الأراضي الخاصّة بهم، حتّى افقروهم، وعطّلوا طواحينهم ومعاصرهم وخرّبوا حلاّلاتهم التقليديّة ومنعوها من التطوّر.

كذلك قطعوا أشجار بساتينهم المزروعة توتًا وتينًا وجوزًا وعنبًا وفاكهة متنوّعة بلصًا أو بحروبهم التنافسيّة التي لم تنتهِ حتّى في وقتنا الحاضر. وبذلك قطعوا أيّ أمل في التقدّم والإنماء، ممّا دفع بجموع الزرّاع والمالكين إلى النزوح والهجرة. وما زلنا حتّى اليوم نعيش في الدوامة الاقتصاديّة نفسها، أناسٌ يؤسّسون المشاغل والمصانع والمشاريع الزراعيّة الواعدة، وطفيليّون يعمدون إلى تخريبها وارهاقها بالضرائب والرسوم والديون، أو بإغراق الأسواق المحلّيّة بمنتوجات مشابهة، إن لم تكن نفسها، ولكن بأسعار رخيصة وبضائع رثّة متدنّية الجودة.

(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى