نازحون في خيم اللاجئين

غريبةٌ هي الأقدار، مُتبدِّلة صروف الدهر، لا يثبت لها شأن، ولا يدوم لها حال، ليس لها قواعد ثابتة، لا مفاهيم راسخة، تسير وفق قاعدة الإمام الشافعي الشهيرة “من سًرَّه زمَن ساءته أزمانُ”.

منذ 13 عامًا كنا نرى بالأعين المجردة، وعبر الشاشات ووسائل التواصل، كيف يفرُّ المواطن السوري لاجئًا خارج بلده، يبحث عن سقف يأويه، يقيه نيران الحرب، وأنياب الحقد والموت، وكيف يبتلع موج البحر قوارب المهاجرين ويرمي أجساد الأطفال جثثًا على الشواطئ بعد سلب أرواحها.

خيمنا بتصرفكم

لكن ما لم نكن نَظُنه ولا حتَّى نخالَه، أن تتحَوَّل خيمة اللاجئ السوري في لبنان إلى ملاذ آمن للنازح اللبناني يختبئ خلف رواقها من همجية العدوان الصهيوني القاتل.
أبو مصطفى عُرَابي، مُشرِف على أحد مخيمات اللاجئين السوريين في بلدة عرسال البقاعيّة، تحولت خيمته إلى “مضافة” للأخوة اللبنانيين كما يُخبر “مناطق نت” ويضيف: “لقد عشنا مرارة التشرد، مرارة ترك البيت والبلد، نعرف معنى هذا الشعور، عانينا منه وجربناه، لذلك لم نتردد أبدًا في فتح بيتنا “الخيمة” لأهلنا اللبنانيين، فأهل عرسال استضافونا لاجئين منذ سنوات، أهل القرى المجاورة يعمل أبناؤنا في بساتينهم وفي “وُرَش” البناء عندهم، لذلك قلنا لهم أهلًا وسهلًا، نتشارك ما نملك قدر استطاعتنا، وأنا أقول لكم باسم كل لاجئ سوري: خيمنا مفتوحة لاستقبال الأخوة اللبنانيين حتى تنتهي الحرب”.

مخيمات اللاجئين في عرسال تستقبل نازحين لبنانيين

أبو علي أحد الضيوف من أبناء بلدة اللبوة في البقاع الشمالي، نزح مع عائلته وجيرانه إلى خيمة عُرابي، يقول في حديث وجداني مع “مناطق نت”: “أخر ما كنت أتوقعه بهذا العُمُر، أن أتركَ بيتي وبلدتي وأخرج نازحًا طلبًا للنجاة والسلامة، عدونا مجرم قاتل، لا يُمَيّز بين مدني ومُقاتِل، ولا وسيلة للأمن والأمان إلا بترك الأماكن المعرّضة المهددة بالقصف، للأسف هذا ما حصل معنا”.

حول سبب نزوحه إلى خيمة أبو مصطفى ك”لاجئ” سوري وليس الذهاب إلى أحد مراكز الإيواء المحددّة للنازحين أجابنا أبو علي بغصّة وحسرة والدمعة تملأ عينيه: “زوجتي من ذوي الإعاقة، هي بحاجة إلى رعاية خاصة ومكان يناسب حركتها، المدارس الرسميّة للأسف غير مُجّهزة لذوي الإعاقة، ابن ابو مصطفى يعمل معنا في الزراعة فطلب إلينا مرافقته إلى خيمة والده، هذا ما حصل، وجدنا لديهم كل الترحاب والمودّة، وأملنا ألا تطول هذه الحرب، ويتحول النزوح إلى مأساة للبناني داخل بلده”.

زمالة مدرسة فاستضافة

تشاء الصدف والأقدار، أن تتحول زمالة طالبتين على مقاعدة الدراسة، إلى زمالة في اللجوء والنزوح، تحت سقف خيمة واحدة، لا شكَّ في أنها سترسخ في ذاكرتيهما طويلًا ما بين البسمة والندوب.

أبو مصطفى عرابي: لقد عشنا مرارة التشرد، مرارة ترك البيت والبلد، نعرف معنى هذا الشعور، عانينا منه وجربناه، لذلك لم نتردد أبدًا في فتح بيتنا “الخيمة” لأهلنا اللبنانيين

السيدة أم محمد. ي. ابنة بلدة العين البقاعيّة، حلّت مع بناتها الثلاث ضيفات على عائلة زميلة ابنتها السورية ر. ع. في مخيم “البنيان” في بلدة عرسال، تقول أم محمد ل “مناطق نت”: “بدأ القصف في بلدتنا بشكل عنيف جدًّا، لا يزال يوميًّا بشكل جنوني هستيري، لقد دمروا نصف البلدة، لم يكن لدينا خيار سوى الخروج منها، لكن إلى أين؟ فالوضع المادي صعب، لا قدرة لنا على استئجار بيت، فجأة في لحظة بدت كأنها الفَرَج العظيم، قالت ابنتي “رفيقتي بالصف عم تعزمنا لعندن بس بخيمة” لم نُفَكر مرتين، خصوصًا أنها تعيش مع أمها وأختها فقط، طلبنا سيارة أوصلتنا إلى هنا بالسلامة، “الجَمَاعة الله يَكَتّْر خيرهن” استقبلونا بكل الحب والاحتضان، الصبايا “مسلطنين مع بعضن” يعني نستطيع تأليف رواية بعنوان “صداقات على هامش الحرب”.

معايشة المأساة تجعلنا لا شعوريًّا نبادر إلى محاولة منعها عن غيرنا، وتجنيبه ألامها ومرارتها، أو السعي إلى تخفيف أثارها.

هذا ما حدث فعلًا مع الطالبة السورية ر. ع. التي سارعت إلى استئذان والدتها باستضافة زميلتها وعائلتها، تقول في حديث مع “مناطق نت” : “عندما أسمع أصوات الانفجارات، أتذكر فورًا مشاهد الدمار والخراب، مشاهد عالقة في ذهني قبل هروبنا من أتون الحرب السورية، لذلك اتصلت بزميلتي ودعوتها مع أهلها، فهنا بحسب الأخبار وما أسمع سنبقى بعيدين نوعًا ما عن القصف المباشر، صحيح أنها خيمة متواضعة، لكنها آمنة هادئة بعيدة من مشاهد الموت والدمار”.

بسؤالنا لها حول المدة الزمنية للاستضافة، واحتمال أن تطول ترد بثقة: “لا مشكلة أبدًا، مَرّ أسبوع سويًُا ولتكن أسابيع أو شهورًا، المهم سلامة الناس ونجاتهم، بتنا كأسرة واحدة، أتمنى عودة كل مُهَجَّر إلى بيته وبلده، أمس قبل اليوم، لكن سنعيش الواقع كما هو وليس في عالم الأمنيات”.

على أمل أن ينبلج فجر أمان هذا البلد، تُبَددّ شمسه ظلام الليل الدامس، وتنشر النور في ربوعه، سيبقى اللبناني يُرَددّ متسائلًا: هل باتت الحروب قدرنا في وطننا، نتنقل من حرب إلى حرب، فمتى الخلاص؟

جولة “حلاقة” في مخيمات اللاجئين السوريين في عرسال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى