نبيه أبو الحسن “أخوَت” حتى الرمق الأخير
النقيض الكلّي للجنون، هو الوعي التام للذات، وعلى ما يبدو أنّ الفنّان نبيه أبو الحسن، استطاع جمع “الأخوَت” والعاقل في شخصيّته، بتطرّف محمود في كلتي الحالتين، فهو وإن استهلك شخصيّة “أخوت شانيه” مسرحيًّا وتلفزيونيًّا، فإنّه مشى تلك الدرب بوعيه اللافت لخطواته، بتعاون إخراجيّ مع أبرز الأسماء التي صنعت هويّة المسرح اللبنانيّ الحديث، مثل جلال خوري وريمون جبارة وبرج فازليان، كما اشترك في أكثر من عمل مع حسن علاء الدين (شوشو)، والأمر عينه مع الكتّاب والملحّنين وصنّاع السينوغرافيا.
هكذا وضع “الأخوت” الوقت كلّه بين أيدٍ أمينة، لتتراكم التجربة، وتترسّخ الصورة، ويصبح أخوت شانيه رمزًا للمجنون الفطن الذي “يجدبها” حينما يريد، ويتعملق بأفكار خلّاقة حينما تقتضي الحاجة. ثنائيّة الحرّ الذي يهرب أو يتهرّب من الخدمة العسكريّة ومشقة الفلاحة والضرورات الاجتماعيّة، فينصرف إلى مزاجه وفلسفته الخاصّة للحياة، مسخّفًا بالقضايا الكبرى، متأمّلًا بأدقّ التفاصيل التي تبدو عابرة من ناحيتنا.
ليّ عنق التاريخ
ربّما “أخوت شانيه” الأوّل لم يكن كذلك، فنحن لا نعرف عنه سوى النزر اليسير من السيرة، حيث أنّ التاريخ ينشغل عمومًا بالملوك والفاتحين ورجال الدين. لكنّ نبيه أبو الحسن مدّ يده إلى ما هو أبعد من مائتي سنة، صوّب تلك البلدة المتربّعة على رابية في جبل لبنان. قطف منها مجنونها حسن حمزة وأعاد تركيبه وترتيبه على المسرح والشاشة، ليكون ندًّا للأمير بشير الثاني الشهابيّ الكبير. وهي واحدة من حسنات الفنّ، قوّته بليّ عنق التاريخ، وظفره بالحقيقة التي يجب أن تكون وليس التي كانت.
المتشعّب المسارات
المتقفّي لبدايات نبيه أبو الحسن (مواليد 16 نيسان/ أبريل 1934)، سيتوه في توقُّع الخطوات التالية التي سيمشيها، والأهداف التي سيحقّقها، فلم يتسلّح هذا الدالف إلى المدينة في عمر السابع عشر سوى بموهبته وشهادته الابتدائيّة “السرتيفيكا”، غير أنّ موهبته لم تكن متّضحة المعالم بعد، إذ طمح ابن بلدة بتخنيه، لأن يكون مطربًا أو عازفًا أو كلاهما معًا. فتعلّم الموسيقى في الكونسرفاتوار، وعمل في الصحافة، وتعمّق باللغة الانكليزيّة، ودرّس الرياضة في المدارس، ليرسوا المخاض على عزف العود، وتقديم الاسكتشات الساخرة الناقدة.
“شعلة من الصحراء”
ظهرت بذور التمثيل عند نبيه أبو الحسن في مواقف عديدة، في البيت وفي حقول قريته بتخنيه، ليكون التجلّي الأوّل في تلك المسرحيّة التي عرضتها المدرسة لفريد مدوّر، وكان نبيه من أبطالها. “شعلة من الصحراء” كان عنوان تلك المسرحيّة التي ولّدت لذّة الوقوف أمام الجموع، وتذوّق صدى التصفيق الذي يغذّي الأنا التي كانت تبحث عن مداها في ذلك العمر المبكر.
شيئًا فشيئًا، راح أبو الحسن يقدّم أدورًا صغيرة مع إحدى فرق الهواة في قريته. وكان يشاهد بعض الأعمال المشابهة هنا وهناك، بانيًا ثقافته الشخصيّة حول التمثيل والمسرح على وجه الخصوص، ولم تكن الفرص مثاليّة، حيث بقي أستاذًا للرياضة في مدرسة من مدارس عاليه، ثمّ يستكمل الدور ذاته في إحدى مدارس طرابلس. بل توظّف مدّة في أحد المصارف.
التدحرج التصاعديّ
من أجواء عالم الصحافة التي غاص في عوالمها بجدّيّة تامّة، قادته الصدفة إلى الإذاعة اللبنانيّة، حيث لفتته استديوهاتها، وبعضها لتسجيل المسلسلات الإذاعيّة، فأخذ فرصته من الباب الضيّق بأدوار صغيرة كانت كافية ليستسيغ حلاوة التمثيل، بالصوت هذه المرّة.
راح أبو الحسن يقدّم أدورًا صغيرة مع إحدى فرق الهواة في قريته. وكان يشاهد بعض الأعمال المشابهة هنا وهناك، بانيًا ثقافته الشخصيّة حول التمثيل والمسرح على وجه الخصوص
بعدها شارك أبو الحسن في عمل مسرحيّ لأحد روّاد المسرح منير أبو دبس، ليستتبعها بفرصة على مسرح الجامعة الأميركيّة مع شكيب خوري ويبدأ التحوّل الأكبر مع “الفرمان” التي كتبتها الشاعرة ناديا تويني (زوجة غسّان تويني، ووالدة جبران) فيتشارك البطولة في هذا العمل مع حسن علاء الدين، أمّا العمل التالي فكان “لعبة الختيار” مع بِرج فازليان وريمون جبارة.
كلّ هذا كان تهيئة وتمهيدًا لدور “الأخوت” الذي أدّاه للمرة الأولى في مسرحيّة “جحا في الخطوط الأماميّة” لجلال خوري، الذي يمتلك تصوّراته الخاصّة عن المسرح، بثقافة غربيّة واتّجاه يساريّ وروح تمرّديّة. استعمل نبيه أبو الحسن اللهجة الجبليّة، الشوفيّة على وجه التحديد، فنجح بها، وزادت تقاسيمه على هذه الشخصيّة بمسرحيّات كثيرة مثل “نابّليون وأخوت شانيه”، و”الشاطر حسن”. ثمّ “أخوت شانيه في الجبهة” من إخراج ريمون جبارة.
كانت شخصيّة “الأخوت” تعويذة نجاحه، التي لم يكن هو منها ولا جمهوره، فوصلت إلى الشاشة الفضّيّة مع كتابة أنطوان غندور لمسلسله الأشهر “أخوت شانيه”، فبطبيعة الحال كانت المسارح تغصّ ببعض النخب وسكّان المدن، بينما الأطراف والأرياف بعيدة عن هذه الاجواء، لذلك كان المسلسل جديدًا على الناس وناضجًا، كون الشخصيّة قد نضجت على مراحل في المختبرات المسرحيّة.
شانيه البلدة
ساهم “الأخوت” الممثّل في شهرة الأخوت القديم، ومن خلاله اشتهرت شانيه القرية الصغيرة في قضاء عاليه، التي يتوسّع عديد سكّانها صيفًا ويضمر شتاءً لحدّ الألف نسمة أو أكثر بقليل. تبعد تلك البلدة الجبلية 27 كيلومترًا عن بيروت، بينما يقارب ارتفاعها عن سطح البحر 1100 متر، وتحدّها رويسات صوفر لناحية الشمال، وبتاتر لناحية الجنوب، ومجدلبعنا من الشرق، وبحمدون الضيعة من الغرب.
يقال إنّ “الأشخاص المتنقّلين” هي الترجمة السريانيّة لاسم “شانيه”، وتكشف بعض نواويسها لمحة من تاريخها القديم، كما النقوش العربيّة عن تاريخها القريب، إذ تبيّن رجوع هذه النصوص إلى ما يقارب 500 سنة، وهي متواجدة تحديدًا ناحية العين الشرقيّة في البلدة. المفارقة أنّ حسن شانيه ينتمي إلى أقدم عائلات البلدة، آل حمزة، ثمّ تتتالى العائلات من بعدها: أبي المنى، عبد الخالق، نصر، حاطوم والــعــصــفــور…
إسدال الستارة على جثّة
بجنونه دخل حسن حمزة التاريخ، وكان اقتراحه جرّ مياه نبع الصفا إلى قصر الأمير بشير في بيت الدين، الحدث المفصليّ لبروزه، إذ نصح الأمير بمدّ عناصر جيشه بشكل عموديّ، على أن يحفر كلّ واحد منهم ما يتناسب وحجمه، فيشكّلوا قناةً طويلة تجري فيها المياه.
الأرجح أن هذه هي الحقيقة الوحيدة من كلّ ما كُتِب عن ذلك الرجل، وقد تصحّ بعض الأقاصيص والنوادر والمفارقات، لكنّها جميعها لا تكفي لصناعة نصف مسرحيّة، أيّ أنّ اكتمال الكاراكتير سمح لسنانير الكتّاب بحبك السيناريوهات والحوارات إلى ما لا نهاية، أو هكذا هو المفترض. وإذ بحادث سير مشؤوم يخترق جميع الخطط، بما فيها المسرحّية التي كان في صدد إطلاقها “أخوت حتّى السلام”، فيرحل نبيه أبو الحسن في الثاني من تشرين الأوّل/ أكتوبر من العام 1993، وتسدل الستارة على جثّة الممثّل، بينما بقي المجنون يحكي ويحكي ويحكي…