نحو العراق وأفريقيا.. هجرة جنوبية جديدة بظروف سيئة ورواتب متدنية
موجة هجرة جديدة، يشهدها الجنوب اللبناني مؤخراً، بفعل الأزمة الإقتصادية والنقدية التي صنفتها المنظمات الدولية على أنها الأسوأ في تاريخه الحديث. فقد دفعت ظروف البلد الراهنة، بعدد كبير من أبناء الجنوب للقبول بعروض عمل في الخارج، بعضها مجحف وغير لائق وبعضها برواتب متدنية جداً.
يسرد محمد إبراهيم (27 عاماً- من سكان قضاء بنت جبيل) يعمل كنادل في مجال المطاعم، كيف غُرّر به من قبل أحد أصحاب المطاعم في العراق، إذ فوجىء فور وصوله بأن ظروف العمل والسكن رديئة جداً وقد تمّ خفض راتبه أيضاً.
يقول لـ”مناطق.نت”: “تواصلوا معي بداية العام الماضي، كي أعمل في أحد المطاعم التي سيتم إفتتاحها في البصرة (العراق)، ورغم أن الراتب متدني جداً، 650 دولار، وافقت على اعتبار أنني سأتقاضى بعد توقيع العقد (أي بعد ثلاثة أشهر) 800 دولار على أن يتمّ تصحيح الراتب (أكثر من ألف دولار) بعد فترة وجيزة، إضافة الى تكاليف المأكل والمسكن، وأن أمنح إجازة سنوية، تبلغ شهر أمضيها في لبنان”.
دفعت ظروف البلد الراهنة، بعدد كبير من أبناء الجنوب للقبول بعروض عمل في الخارج، بعضها مجحف وغير لائق وبعضها برواتب متدنية جداً
ويضيف “وصلت الى البصرة في شهر آذار العام الماضي، يوم إفتتاح المطعم، لأتفاجأ بأن المسكن هو عبارة عن كونتينر وضع فوق سقف مطبخ المطعم، فيه ثماني أسرة بطابقين، من دون (حمّام). كنا نستخدم حمّام الزبائن في المطعم والّذي كان يبعد مسافة طويلة عن مكان النوم”.
هذا إضافة الى أن الكونتينر غير مكيف، فيه ثقوب، ويدخله الغبار من كل جهة، أما درجة الحرارة فكانت تتخطى الخمسين، حسبما يقول إبراهيم.
مرّ الأسبوع الأول في العمل، أُخبر إبراهيم بعدها بأنه لن يتقاضى الراتب المتفق عليه، بحجة أن المطعم جديد، ولن يتمكنوا من دفع سوى 500 دولار شهرياً، “وافقت كون المطعم جديد، ووضع لبنان سيء جداً” يقول إبراهيم.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ لم يتمّ الإلتزام بدوام عمل ثابت أو بساعات عمل مقبولة، ففي بعض الأيام أضطر إبراهيم للعمل من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الثالثة فجراً، وقد أوكلت إليه مهام كثيرة، مثل، المساعدة في إعداد الطعام في المطبخ وكنس ومسح الصالة وجمع النفايات ورميها إضافة الى عمله في خدمة الزبائن.
يقول إبراهيم “يحتاج المطعم آنذاك، الى أكثر من 12 عامل وموظف، ولكننا كنا فقط خمسة عمال. منعنا من الخروج بسبب عدم تجديد إقاماتنا. وحين مرضت دفعت أنا تكاليف العلاج وحتى أجرة التاكسي الّذي ذهبت فيه الى الطبيب، وتم إخفاء باسبوراتنا”.
في شهر آب/ أغسطس 2022، وافق صاحب المطعم على سفر إبراهيم الى لبنان، بعدما فرض عليه، والعمال الآخرين، الّذين أرادوا العودة الى لبنان، دفع ثمن تذكرة الطائرة. يقول محمد “نزلنا لبنان من بعد ما أكل علينا مصاري كتير وضحك علينا وذلنا”.
في بعض الأيام أضطر إبراهيم للعمل من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الثالثة فجراً، وقد أوكلت إليه مهام كثيرة، مثل، المساعدة في إعداد الطعام في المطبخ وكنس ومسح الصالة وجمع النفايات ورميها إضافة الى عمله في خدمة الزبائن
ليست كسابقاتها
وتعد الهجرة من أقدم الظواهر الجنوبية واللبنانية بشكل عام، فقد تسببت الحروب والأوضاع الأمنية والمعيشية المتردية بهجرة عدد كبير من اللبنانيين. وكانت وجهتهم إفريقيا وأميركا وأوروبا وأستراليا ودول الخليج.
وقد توافد عدد كبير من أهل الجنوب الى أفريقيا في منتصف القرن الماضي، وساهمت أموال المهاجرين في تبدل صورة الجنوب العمرانية والثقافية والإجتماعية آنذاك.
ومنذ ذلك الحين، لا يخلو أي بيت جنوبي، من مغترب أو أكثر، ولكن للهجرة الجديدة خصوصية، وهي استثناء، كونها أتت في سياق وظروف مختلفة، وفرضت على المهاجرين بعد تراجع قيمة الليرة الوطنية، وإنهيارها الى مستويات لا مثيل لها في تاريخ الجمهورية. وبعد إنعدام فرص العمل وتدني قيمة الرواتب وفقدان شبان كثر الأمل في تبدل الأحوال قريباً. إذ ليس كل من يهاجر راهناً يبحث عن فرصة عمل جديدة وإنما هو في حالة هروب من الواقع (الكابوس) الى واقع يتمكن فيه من تنفس الحياة والعيش بعيداً عن كم الأزمات الهائل الّذي يعصف بكل تفاصيل هذه البلاد.
“بدي فل”
يقول جاد بداوي (21 سنة) أحد أبناء صور لـ”مناطق.نت”: “بشهر تشرين الأول الماضي سافرت على أبيدجان، مع شركة لتصليح السيارات. هيدي مصلحتي اللي تعلمتها من أنا وزغير”.
وكان بداوي قد استقر في أبيدجان، قبل أن يضطر للعودة الى لبنان بسبب مرض والدته، التي تعاني من فشل كلوي، والتي خضعت لعملية جراحية بداية هذا العام، يقول: “أكيد راجع، شو بدي إبقى أعمل هون؟ ما فيه شغل بلبنان”.
ويتقاضى بداوي 600 دولار كراتب شهري تستلمه والدته عبر شركة تحويل الأموال في لبنان، وتتحمل الشركة تكاليف المسكن والطعام في أبيدجان.
“الراتب قليل. ولكن هل ممكن إقدر ضب بلبنان 600 دولار بالوقت الراهن” يقول بداوي وينفي فوراً “لا. في حال بدي إفتح مصلحة وإدفع أجار محل وشغيلة ما بيبقالي شي، أفضلي إرجع روح بأقرب وقت، ناطر وضع إمي الصحي يتحسن وبدي فل”.
ومثل جاد كثر، وجدوا في السفر مخرجاً أو باباً للهروب من الأزمة. بعضهم كانت ظروفه المعيشية أفضل، ولكن الواضح أن الأزمات المتتالية في البلاد قد أصابتهم بالصميم، ليس في حاضرهم فقط وإنما في مستقبلهم أيضاً، كما أنها غيرت مسار حياتهم وبدلت خططهم المستقبلية.
يختم جاد “ما كنت فكر سافر قبل، أنا وحيد بين ثلاث أخوات وأمي تعاني وضعاً صحياً صعباً، ولكن الظروف حكمت إنو إتركهن وفل، ما فيه خيار تاني، بالنهاية بدي أمن مستقبلي لإقدر أخطب اللي بحبها، وإذا أهلي إحتاجوا شي إقدر ساعدهم”.
مظلة أمان ولكن..
وفي كثير من الأحيان، يصور المغتربون على أنهم مظلة أمان للمقيمين في لبنان، ويتمّ تجاهل أنهم متضررون من الأزمة مثل الغالبية الكبرى من اللبنانيين، لجهة خسارة أموالهم وجنى عمرهم في المصارف وتحمل أعباء عائلاتهم في لبنان أولاً، ولجهة تبدل مسار حياتهم ككل، ثانياً.
يقول عبد (40 عاماً) يعيش في نيجيريا منذ أحد عشر عاماً، لـ”مناطق.نت”: “نحن في الإغتراب نعيش الأزمة الحاصلة في لبنان بكل تفاصيلها، ولسنا منفصلين عن الواقع اللبناني”.
يقول جاد “ما كنت فكر سافر قبل، أنا وحيد بين ثلاث أخوات وأمي تعاني وضعاً صحياً صعباً، ولكن الظروف حكمت إنو إتركهن وفل، ما فيه خيار تاني، بالنهاية بدي أمن مستقبلي لإقدر أخطب اللي بحبها، وإذا أهلي إحتاجوا شي إقدر ساعدهم
ويضيف “معظم الناس في نيجيريا، خسرت بشكل أو بآخر ودائعها في المصارف، ومن ثمّ في حال كان لدى الشخص أموال أم لا، كنا نعتبر أننا هنا لفترة زمنية محددة نعود بعدها الى لبنان وفتح مشروع خاص لنا، هيدا المبدأ العام لأغلب اللي هاجر متلنا وما خلق هون. كلنا كان عنا خطة محددة. ولكن بعد العام 2019، كل هذه الطموحات لم تعد موجودة بفعل الأزمة”.
ويردف قائلاً: “لي صديق كان ينوي العودة والإستقرار في لبنان منذ عامين، لأن كبرو أولاده، وهو مصاب بداء السكري، ولكن لا يمكنه العودة راهناً بسبب الأزمة وخشية من أن يستثمر أمواله في مشروع قد يكون خاسراً”، ويسأل: “كيف بدو يعيش؟ ومن ثمّ هو معيل أساسي لإخوته، بالتأكيد لا يمكنه المخاطرة”.
ويلفت عبد الى أن رواتب اللبنانيين في إفريقيا، وتحديداً على مستوى الشركات في نيجيريا، لا زالت مقبولة، وعادة لا تقل عن 1300 دولار شهرياً، ولكن يبقى هناك بعض الإستثناءات، إذ أن بعض المهاجرين الجدد يسافرون الى أقاربهم في أفريقيا، ويعملون معهم برواتب منخفضة، أفضل من البقاء في لبنان من دون عمل.