“نحيبٌ في الجنّة” لمريم كريّم خفّة التمرّد وثقل الوجود

تعبّر الشاعرة اللبنانيّة مريم كريّم في مجموعتها الشعريّة الأولى الصّادرة عن دار النّهضة العربيّة، عن تمرّدٍ عاطفيٍّ إنسانيٍّ ساخن انطلاقًا من العنوان المفارق “نحيبٌ في الجنّة”.

عنوانٌ يشاكسُ الملائم، ويُذكِّرُ على نحوٍ مُلهِم بقصيدة الشاعر اللبناني رشيد سليم الخوري “حضن الأم” التي يحكي فيها قصّةَ شاعرٍ ملأ الجنّةَ نحيبًا على فراق أمّه.

وإذا كان النحيب مشتركًا بين عنوان المجموعة وقصيدة الخوري، فلا أحسب أنّ هناك علاقةً موضوعيّةً أو تأثّرًا بيّنًا بينهما، فمريم هنا على عكس الخوري هناك، تتمرّدُ- في ما تتمرّد- على الصورة الرّصينة/ الأموميّة للمرأة فترجعُ فتاة “قُل للملا إنَّ الفتاة تمرّدت/ قل خيّبت هذي الجميلة ظنّي/ لا فرق عندي بين وأدٍ ليّنٍ/ ودمٍ يُراق ونقمةٍ وتجنِّ”.

تمرّد الشاعرة

تكسر صورة الأمّ لا الأمّ، وترفضُ الحصر لا المفهوم، فهي ليست عدوّة والدتها بل عدوّة الصورة/ السجن التي يريد المجتمع حصرها ووالدتها فيها.

المجموعة الشعرية “نحيبٌ في الجنّة” للشاعرة مريم كريّم

على أنَّ تمرّد الشاعرة ابنة بلدة سحمر في البقاع الغربيّ على القيود الاجتماعيّة المفروضة على النساء، لا ينحو منحىً متعويًّا عابثًا يمجّد الجنسانيّة ورغبات الجسد المساوم:

“جسدٌ يساومُ كي يغيّرَ وجهتي/ ريحٌ تعربد كي تطيح بغنوتي”

يتّخذُ تمرُّدُ مريم مسارًا غنائيًّا صوفيًّا حزينًا وحالمًا،

“ووجدتُني بل/ لستُ أدري/ حالمًا ومسالمًا/ بظلال شعري أحتمي”.

يدعو مذهب مريم للمحبّة الصّافية ويقلِّلُ من شأن الجسد لصالح التجربة الروحيّة التي يتوازى فيها المذكّر والمؤنّث، فتستَدِقُّ الفروقات ويظهرُ الشعر.

“عتمُ الليالي بالشموعِ أضيئهُ

وأنا بحقِّ الشّعرِ كيف أضاءُ؟”

الشعر قضيّة وجوديّة

منطلق الشعر عند مريم إذن ليس متّصلًا بالمؤنّثِ ظاهرًا أو مضمرًا قدر اتّصاله بالذات الخالصة للإنسان، وقضيّتهُ بالتالي وجوديّةٌ أكثر ممّا هي جنسانيّةٌ أو نسويّة، وغير بعيدٍ عن هذا نجدها في قصائد من المجموعة تستخدم للتعبير عن ذاتها ضمير المتكلّم بصيغة المذكّر، فيما تعتمد ضمير المتكلّم بصيغة المؤنّث في قصائد أخرى.

تبدو قصيدةُ “فكرة الحلوى” واحدةً من القصائد القادرة على التعبير عن هذه الذاتيّة الوجوديّة:
“وتمرُّ أيّامي على مهلٍ/ وأبقى واقفًا وحدي/ بلى/ وتشيخُ مئذنتي وأثوابي ونافذتي وألعابي/ وترحلُ جدّتي غصبًا/ وقابلتي بحادثةٍ/ وأبقى واقفًا وحدي/ أقاومُ/ أكتبُ الأشعار كي أنجو/ أزيحُ غموض ما يجري عن النصِّ”.

سبعة وستّون قصيدة

67 قصيدةً في أقلّ من 140 صفحة، هي مجمل ما أنتجته حتّى الآن من شعر في فضاءِ التجربة، نستطيع من هنا أن نستنتج أنّ قصيدةَ مريم كريّم لا تتجاوز الصفحتين إلّا نادرًا، هذا الاتّجاه للاختزال يصبحُ أكثر شيوعًا في الأدبِ المعاصر، النوفيلّا تتقدّم على الرواية الطّويلة، والقصيدة التي لا تستغرق قراءتها أكثر من ثلاث دقائق تتفوّق على المطوّلات الشّعريّة، هذا بالإضافة إلى عولمة الهايكو والق. ق. ج. مقابل القصّة القصيرة.

منطلق الشعر عند مريم إذن ليس متّصلًا بالمؤنّثِ ظاهرًا أو مضمرًا قدر اتّصاله بالذات الخالصة للإنسان، وقضيّتهُ بالتالي وجوديّةٌ أكثر ممّا هي جنسانيّةٌ أو نسويّة

عمومًا فالاختزال هنا لا يعني الاختصار، بل تكثيف العبارة بحيث تحمل المعنى على تعدُّدِ وجوهه بأقصى طاقتها التعبيريّة، واستحضارُ الأسطورة والرمزِ الدينيِّ والنص المقدّس من هذا البابِ يصبحُ مساهمًا في رفد المعنى بأبعادٍ لا يحملُها الكلام العاديّ، وبينما تكادُ الأسطورةُ- باستثناء حضورٍ خجولٍ لعشتار- تغيبُ عن قصيدةِ مريم، فإنّها تفسحُ مكانها للنصِّ والرّمزِ الدينيّين، فتبدو فصاحةُ النّص القرآنيّ مرجعًا بلاغيًّا لها، ويتكرّر ذكر “حواء” و”يوسف” و”نوح” و”يونس” و”المسيح” وشخصيّات دينيّة/ قرآنيّة أخرى، توظّفها بقدرٍ ودونَ فائضِ استعراضٍ ثقافيّ، تحضرُ فيروز أيضًا في قصيدةٍ بعنوان “يا صبح فيروز” وقد تتّخذ بعض القصائد طابع الصلاة أو المناجاة مع حضورٍ مميّزٍ للأب في صورةٍ تتماهى دائمًا مع الصورة المثاليّة للإله العادل الحكيم.

لا بدّ أيضًا من أن نشير إلى حضور “الوطن” أرضًا وناسًا ومفهومًا في عديد من قصائد المجموعة، وكذلك تحضر القضايا الاجتماعيّة بصورةٍ مباشرة أو غير مباشرة.

الإيقاع الشعريّ

على مستوى الإيقاع تلتزمُ مريم كريّم الوزن العروضيّ في كلِّ قصائدِ المجموعة، لا تلتزمُ دائمًا بتصريع المطالع، وتنوّع في اختيار القوافي والبحور بين القصيدة العموديّة وقصيدة التفعيلة مع حضورٍ غالبٍ للبسيط في القصيدة العموديّة، والمتقارب في قصيدة التفعيلة، والكامل والوافر في كلتيهما، ومع حضور مجزوء الوافر في قصيدةٍ عموديّةٍ واحدة، لا بدَّ أن نلحظَ الميل للكتابة على البحور الطويلة والتّامّةِ ابتعادًا عن المجزوءات، تكادُ هذه تكون سمةً عامّةً في القصيدة العموديّة الجديدة.

عمومًا فقد كانت هذه جولةً سريعةً أو قراءةً أوّليّة لمجموعةٍ شعريّة صاخبة، تطغى عليها حرارةُ البدايات ويبدو فيها التجريبُ الذكيّ، ولا أقول جديدًا إذ أقول إنَّ مريم كريّم واحدةٌ من أقدر الأصوات الشعريّة النسائيّة على الابتكار والتطوير واختلاق الدهشة، لما تملكه من أدوات وما تحملهُ من شغفٍ بالشّعر، وليس مفاجئًا مع هذه الانطلاقة اللافتة أن يكون القادمُ أكثر وأجمل.

أخيرًا نختمُ جولتنا بقصيدةٍ من المجموعة تحت عنوان “لا أتقنُ الصَّبر”:

سأقصُّ شعري مرّةً أخرى

لأختصر الطّريق إلى البكاءِ

وأبلغ النّهرا

سأقصّهُ
لأقولَ لي: عُذرا..

إنّي أروّضُني على اللاشيءِ؛

حالٌ تشبه اللاحبَّ

لا أشواقَ

لا ذكرى

سأحيطني علمًا

بكلِّ الاجتياحاتِ التي

قد تقلبُ الأمرا؛

كهبوبكَ المصحوبِ بالعطرِ البليغِ

بمعطفٍ شرب الدّموع بكثرةٍ

حتّى غدا بحرا!

سأحيطني علمًا

بأنّيَ فوقَ كلِّ تمرُّدي

أخشى اعتكافكَ في دمي

أخشى تفشّيكَ المُكنّى في فمي

شعرا

أفهمتني؟

أنا رغم كلِّ فصاحتي

وتعملُقي

وجلادتي

أنا رغم كلِّ شراستي

وتعنُّتي

وقساوتي

لا أتقنُ الصَّبرا!

من حفل توقيع كتاب “نحيب في الجنّة” في مركز معروف سعد الثقافي في صيدا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى