ندوب نفسيّة لا تُرى تركتها الحرب على اللبنانيّين

“شوفيه كيف بيصير متل البسين لمّا يسمع صوت الطيران الحربيّ”، بهذه الكلمات تصف ميساء طفلها البالغ من العمر عامين، والذي لا يتوقّف عن اللعب والحركة، كأيّ طفل في عمره، لكنّه يتحوّل فجأة إلى جسد مرتعش يلجأ إلى حضن أمه بمجرّد سماعه هدير الطائرات الحربيّة في سماء قريتهم الكفور في قضاء النبطية. تضحك ميساء، لكنّ ضحكتها تحمل مرارةً لا يفهمها سوى من عاش تحت وطأة الحرب: “نحنا تعوّدنا بسّ الصغار ما بيفهموا الوضع”.

لكنّ هذا “التعوّد” الذي تتحدّث عنه ميساء ليس مجرّد تأقلمٍ طبيعيّ، بل هو جرحٌ نفسيّ يختبئ تحت وهن التكيّف القسريّ. فالمرونة في مواجهة الأزمات شيء، والتبلّد العاطفيّ شيءٌ آخر تمامًا. فبحسب علم النفس، قد يكون اعتياد الألم هو آليّة دفاعٍ غير واعية، كالإنكار، يحاول فيها العقل حماية نفسه من صدمة الواقع. لكنّ الثمن يكون باهظًا، ويتمثّل بفقدان القدرة على الشعور وصولًا إلى تقبّل المعاناة وكأنّها قدرٌ محتوم.

يتضّح ذلك أكثر عند الإصغاء إلى وجع الناس، لنكتشف أن المعاناة ليست فردية فكل اللبنانيين يرزحون تحت وطأة صورة نمطية مفادها أنّ اللبنانيّين شعبٌ صامد يتغلّب على المصاعب، يساهم في ذلك خطاب سياسيّ وإعلاميّ يروّج لتلك الفكرة. وعلى رغم ما تحمله هذه السرديّة من قوّة ظاهريّة، إلّا أنّها تتحوّل إلى عبءٍ ثقيل. فهي تُمرّر فكرة أنّ تحمّل الصعوبات اليوميّة وغير العاديّة أمرٌ عاديّ، وأنّ الناس سينهضون دائمًا، بغضّ النظر عن حجم الألم الذي عايشوه أو يعيشونه.

لكنّ الخطورة تكمن في الموضوع، في أنّ التكرار المستمرّ لفكرة أنّ “الحياة صعبة ويجب تقبّل الواقع” يتحوّل إلى فكرة راسخة في اللاوعي الجمعيّ، يصبح معها خضوع الناس إلى قوى الأمر الواقع  لا مفرّ منه.

اعتقاد خاطئ

يرفض البروفّسور رامي بوخليل، مدير قسم الطبّ النفسيّ في مستشفى “أوتيل ديو”، والأستاذ المشارك في جامعة القدّيس يوسف في بيروت، هذه الصورة النمطيّة عن الشعب اللبنانيّ، من أنّه يتمتّع بمرونة نفسيّة عالية. ويؤكد أنّ “هذا الاعتقاد غير دقيق، فالمرونة النفسيّة تعني قدرة الفرد على فهم واستيعاب ما يجري حوله، وتقبّل الواقع والتأقلم معه لمواصلة حياته بشكل طبيعيّ، وهذا ما لم يتحقّق حتّى الآن لدى معظم اللبنانيّين في ظلّ الظروف الراهنة”.

يتابع البروفسور بوخليل لـ “مناطق نت”: “لقد شهدت البلاد بالفعل زيادة ملحوظة في حالات الاضطرابات النفسيّة بعد الحرب الأخيرة. وعلى رغم أنّ هذه الزيادة لا تظهر دائمًا في نسب إحصائيّة دقيقة، إلّا أنّ المؤشّرات واضحة من خلال ارتفاع الطلب على الاستشفاء والمعاينات النفسيّة، وتزايد حالات الطوارئ النفسيّة، بالإضافة إلى كثرة الاتّصالات طلبًا للاستشارات والدعم”.

أرقام مقلقة

ووفقا لبيانات منظّمة Embrace “إمبرايس”، التي تقدّم خدمة الدعم النفسيّ عبر الهاتف (خطّ الحياة)، فإنّ عدد الاتّصالات التي تلقّتها المنظّمة عبر خطّها الساخن “تضاعف خلال العام الحاليّ إلى 1100 اتّصال شهريًّا، 66 في المئة منها حالات اضطراب عاطفيّ، و31 في المئة تضمّنت أفكارًا انتحاريّة”.

وبحسب تقرير مشترك صادر عن منظّمة أطباء بلا حدود ومنظّمة الصحّة العالميّة في شهر آذار (مارس) الماضي، فإنّ  ثلاثة من أصل خمسة أشخاص في لبنان يعانون من الاكتئاب أو القلق أو اضطراب ما بعد الصدمة. وبحسب منظّمة الصحّة العالميّة، فإنّ 49 في المئة  من اللبنانيّين يعانون من تداعيات نفسيّة مرتبطة بالحرب فقط.

الأطفال هم الأكثر عرضة للاضطرابات النفسية بعد الحرب (اليونيسف)

في المقابل تشير نتائج بحث صادر عن قسم الصحة النفسية في الجامعة الأمريكية في بيروت، نُشر عام 2020 تحت عنوان “تداعيات الصحة النفسية بعد كوفيد”، إلى وجود نقص حاد في الكوادر المتخصصة في مجال الصحة النفسية في لبنان. فقد أظهر البحث أن نسبة الأفراد الذين يسعون للحصول على علاج نفسي في لبنان لا تتجاوز 20 في المئة من إجمالي المصابين باضطرابات عقلية، ويرتبط ذلك غالبًا بعوامل اقتصادية أو بسبب الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالاضطرابات النفسية. وتجدر الإشارة إلى أن هذه المؤشرات مرشحة للارتفاع في ظل الظروف المستجدة التي شهدها لبنان، لا سيما بعد الحرب الأخيرة، ما يفاقم من التحديات التي يواجهها قطاع الصحة النفسية في البلاد.

كلفٌ مرتفعة

تتفاوت تعرفة الاستشارة مع الطبيب النفسيّ بشكل كبير، إذ تبدأ من 40 دولارًا كحدّ أدنى، وربّما تصل إلى 100 دولار للجلسة الواحدة، بينما تراوح كلفة العلاج النفسيّ عند المتخصّص النفسيّ بين 30 و50 دولارًا.

تعاني عديد من العائلات هذه الكلف المرتفعة إذ تشكّل عائقًا أمام الحصول على العلاج المناسب. تروي لميا (اسم مستعار) تجربتها، فهي تلجأ إلى طبيب الأعصاب بدلًا من الطبيب النفسيّ، “بسبب انخفاض كلفة المعاينة لدى الأوّل”. وتشكو لميا من “ارتفاع أسعار الأدوية المتعلّقة بالأمراض النفسيّة، بالإضافة إلى عدم تغطية معظمها من الضمان الاجتماعيّ وانقطاعها المتكرّر، ما يُجبر عديدًاّ من المرضى البحث عن أدوية بديلة، ويدفعهم إلى التوقّف عن تناول الدواء، أو اللجوء إلى بدائل قد لا تكون مناسبة لحالتهم الصحّيّة، من دون مراجعة الطبيب ودفع المعاينة مرّة جديدة”.

وتوضح لميا لـ “مناطق نت” أنّ “ما يزيد من ضغط الأعباء هو أنّ انقضاء فترة شهر على تاريخ المعاينة، يلزم المريض الدفع مرّة أخرى للطبيب، لذلك في غالبية الأحيان نقوم بتعديل الجرعات أو تجربة بدائل من خلال البحث على الانترنت، حتّى نوّفّر ثمن المعاينة لشراء الأدوية”.

تشكو لميا من “ارتفاع أسعار الأدوية المتعلّقة بالأمراض النفسيّة، بالإضافة إلى عدم تغطية معظمها من الضمان الاجتماعيّ وانقطاعها المتكرّر

في هذا الإطار، يؤكّد البروفسور بوخليل أنّ “معظم اللبنانيّين لا يستطيعون الحصول على العلاج النفسيّ بسهولة. يعود ذلك إلى غياب التغطية الكافية من قبل الجهات الضامنة وشركات التأمين الخاصّة، التي تغطّي فقط بعض الحالات الاستثنائية”. ويشير بوخليل إلى “وجود تفاوت واضح في مستوى الصحّة النفسيّة بين المناطق التي تأثّرت مباشرة بالحرب وتلك الأبعد منها، حيث تقلّ فرص الوصول إلى العلاج النفسيّ والقدرة على تلقّيه، في المناطق النائية، وتلك الواقعة خارج بيروت”.

مؤسّسات المجتمع المدني

في موازاة ذلك، تلعب مؤسّسات المجتمع المدني دورًا بارزًا في مجال الصحّة النفسيّة. على رأس هذه المؤسّسات تأتي مؤسّسة عامل الدوليّة، التي أطلقت منذ العام 2020 برنامجًا متخصّصًا للصحّة النفسيّة. وذلك بحسب الدكتورة كارولين طرّاف، مديرة قسم الصحّة النفسيّة في المؤسّسة. يقدّم البرنامج خدمات علاج وطبّ نفسيّ، ويوفّر الأدوية والمتابعة الدوريّة، بشكل مجّانيّ عبر عشرة مراكز صحّيّة موزّعة في مختلف المناطق اللبنانيّة.

تؤكّد الدكتورة طرّاف لـ “مناطق نت” أنّ “تداعيات الحرب الأخيرة ظهرت جليّة من خلال ازدياد حالات الاكتئاب والقلق ونوبات الهلع واضطراب ما بعد الصدمة، وهو ما لمسه الأطبّاء والمعالجون بشكل يوميّ في عملهم”.

لم تقتصر جهود مؤسّسة عامل على تقديم العلاج، “بل توسّعت لتشمل برامج وقائيّة، أبرزها برنامج الوقاية من الانتحار، الذي يهدف إلى دعم كلّ من فقد الأمل في الحياة. يشمل هذا البرنامج جلسات توعية حول العلاقة بين الصحّة النفسيّة والجسديّة، ويتمّ من خلالها رصد الحالات التي تحتاج إلى متابعة وتحويلها إلى المراكز المناسبة بحسب نطاق سكنها”.

تجربة الحرب

تشير الدكتورة طرّاف إلى أنّه “خلال الحرب، كانت فرق مؤسّسة عامل حاضرة في جميع مراكز الإيواء، حيث قدّمت جلسات إسعاف نفسيّ أوّليّ، ودعم نفسيّ اجتماعيّ للأفراد والمجموعات، ما ساهم في تخفيف حدّة الصدمات النفسيّة الفوريّة”. وتؤكّد أنّ “المؤسّسة استطاعت، بفضل التزامها وشفافيّتها، أن تكسب ثقة المجتمع بمختلف فئاته وجنسيّاته، لتصبح ملاذًا آمنًا لكلّ محتاج إلى العلاج النفسيّ والدعم الإنسانيّ”.

إنّ ما يمرّ به لبنان يتطلّب أكثر من مجرّد ترميم للمباني وإعادة إعمار المدن؛ إنّه يتطلّب التفاتة جادّة وشاملة إلى جراح النفوس المتعبة وندوبها، وإقرارًا بأنّ الصحّة النفسيّة هي جزء لا يتجزّأ من التعافي الوطنيّ. فليكن صدى هدير الطائرات الذي يرعب أرواح أطفالنا بمثابة دعوة صريحة للمجتمع الدوليّ والحكومة اللبنانيّة، من أجل ضخّ مزيد من الاستثمارات في قطاع الصحّة النفسيّة، وتوسيع نطاق الخدمات، والعمل على بناء مجتمع سليم، قادر على الصمود والنهوض من تحت ركام الأزمات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى