نريد ما هو عاديّ ليس أكثر!

لا سماء لنا، نحن الذين تُركنا على هذه الأرض. لا سماء تتّسع للحزن الذي تحويه قلوبنا المتعبة من الحروب. سيمرّ الشهر الأوّل على نزوحنا من البقاع. كلّ الأيّام خارج البيت تتساوى، لا خُطط، لا مواعيد مؤجلة، ولا حتّى آمال جديدة.

وحده الانتظار يحكمنا: انتظار أن نبقى أحياء أو أن نموت.

عندما اتّسع البيت

في أحلامي كلّ ليلة، يوسّع أبي البيت ويزيد الغرف. مولعٌ كعادته بالبناء والمساحات الشاسعة، وهي عادة بقاعيّة نألفها؛ لأنّنا لم نعرف في حياتنا سوى وجه السهول الفسيحة والسماء. الأعمدة التي يبنيها في الحلم ليست صلبة، أقرب إلى أن تكون سائلة، لكنّها تكفينا. أختارُ أمتن الأعمدة وأجلس تحتها، محتمية بصلابتها الخياليّة.

أفكّر في اليوم الأوّل الذي سكنّا فيه البيت، جدرانه البيضاء، وصدى أصوات غنائنا أنا وإخوتي الصغار. ماذا يكون البيت غير هذا كلّه؟

عاداتنا وخفايانا الصغيرة التي تركناها كما هي، أبوابنا المشرّعة على الاحتمالات وأملنا بالعودة، وبأن يعود البيت.

البيت (رسم علي شحرور)

لم يكن بيتنا نموذجًا طوباويًّا للألفة والمحبّة والذكريات فحسب، بل كان كلّ شيء، حتّى خوفنا المدمّر، وصراعاتنا اليوميّة التي لا تنتهي. نطيقه، نهجره، نعود إليه، نحبّه؛ لكنّه يبقى البيت، ثابتًا دائمًا.

كيف تبدّد ملل أيامنا؟

ما الشيء الذي تفكّر فيه عندما تكون وسط الموت، إلّا الموت الآخر؟ أفكّر أنّه يجب علينا المغادرة في أسرع وقت؛ لا طاقة لي على احتمال لحظة أخرى. أذناي لا تحتملان الأصوات العالية في الأيّام العاديّة، فكيف بهما الآن، تحت وطأة قصف متواصل؟

منذ الخامسة عصرًا حتّى الحادية عشرة ليلًا. بضع ساعات كانت أشبه بالجحيم. الموت في كلّ مكان حولنا، والقذائف تتساقط بشكل جنونيّ. كلّ محاولات السيطرة على القلق باءت بالفشل: لا التنفس المنتظم نفع، ولا التأريض. لقد شلّنا الخوف.

لم يكن خوفنا وحدنا؛ الطيور، الكلاب والقطط، جميعها شاركتنا الخوف ذاته. عشرات الكائنات كانت تركض على الطرقات، وكأنّ زلزالًا عظيمًا وقع. كيف نبرّر لكلّ هذه الكائنات أنّنا مثلها، لم نختار الحرب بل فُرضت علينا؟ وبأنّ إسرائيل، لا فرق لديها في دبّ الرعب، سواء في قلب الحجر أو البشر وفي جميع الكائنات.

أيّامنا العاديّة، التي كنّا نقضيها في التململ والضجر، أيامنا جميعها تبخّرت على وقع الصواريخ. وفي قواعد الحرب البقاعيّة، علينا احتمال ثلاثة: صوت الطيران المحلّق، صوت الصواريخ المنطلقة، وآخرها صوت القصف.

لم يكن بيتنا نموذجًا طوباويًّا للألفة والمحبّة والذكريات فحسب، بل كان كلّ شيء، حتّى خوفنا المدمّر، وصراعاتنا اليوميّة التي لا تنتهي. نطيقه، نهجره، نعود إليه، نحبّه؛ لكنّه يبقى البيت، ثابتًا دائمًا

الذاكرة تعيد نفسها

كانت حرب تمّوز (يوليو) 2006 مجرّد نزهة في غمار الحروب، بالنسبة للطفلة التي كنتها. استعدنا في جلساتنا العائليّة على مدار السنين ذكرى اختبائنا في الكروم. لم أذكر الخوف آنذاك، ولا الدمار الذي خلّفته الحرب من حولنا. كنّا أطفالًا، واعتقدنا أنّ الحرب مجرّد نزهة نخوضها بلا أحذية، نركض حفاة القدمين ونلعب فوق الفراش الذي أوكلته أمّي مهمّة حمايتنا. وكأنّ دوالي العنب ستتمكّن من إخفائنا عن أنظار الطائرات الحربيّة، وكأنّ الجبال والسهول ستبسط حمايتها علينا من كلّ خطر.

لم نكن نتوقّع أن نعيش ما هو أسوأ من حرب شَهِدناها، مهزلة أم مأساة أم سوء طالع ومصير. محكومون في هذه البلاد، لسنا سوى أرقام وخسائر جانبيّة في معارك لا نقرّر أن نخوضها، بل نجبر على الموت فيها. وليس علينا التشكيك في طريقة موتنا، سنكون ضحايا، قتلى، وفي أحسن الأحوال شهداء أو أشلاء. لن ننال سوى هذه الألقاب. لا خيارات سياسيّة لنا، ولا سبل للتعبير، علينا أن نكتفي فقط بصمتنا الثقيل.

ما هو عاديّ ليس أكثر

منذ بداية الحرب، ونحن نشعر بالمراقبة، سواء من أفراد نعرفهم لرأي لا يعجبهم، أو من اسرائيل. أغلقت هاتفي في إحدى المرّات، وألغيت وسائل التواصل الاجتماعيّ. كيف يمكننا الاختفاء؟ أفكّر بالأشخاص الذين أحادثهم بشكل يوميّ، بالأشخاص الذين ألتقي بهم.

هل نحن مشتبه بهم؟ أنفض الفكرة عن رأسي، لم أتعامل مع سلاح قطّ.

حتّى عندما اشتدّ القصف، كنت أرفع أصوات الموسيقى الكلاسيكيّة التي اعتدتها لتهدئة القلق. لا أعرف سوى الموسيقى، وإذا ما حدث وقُصف مكانٌ قريب سأموت تحت رفوف الكتب التي جمعتها طوال حياتي، لا أرغب بميتة لا أختارها.

أفتح “تيلغرام”، حيث أجمع الكتب الإلكترونيّة والأفلام، فأصدم بوجود رقم غريب يهدّدنا بالخروج من البقاع “كومة حجار ولا هيك جار”، أشعر بأنّ كلّ شي قريب مني، الخطر والتهديد. لقد اخترقوا أشيائي الجميلة.

نغادر المنزل على عجل، أترك سيّارتي الجديدة التي لم أجد قيادتها بعد، حتّى قطّي الصغير “ميلو”، أترك له الطعام وأقفل الباب ببطء أخاف أن أزعزع أمان يومه بين البساتين.

يرسل لنا أقاربنا أنّ جارنا يطعم القطط كلّ يوم بعد رحيلنا، نريد جيراننا أحياء أيضًا، لا نريد لهم أن يصبحوا كومة من حجارة، نريد أن نعيش، وأن نموت ميتتنا العاديّة.

نريد ما هو عاديّ ليس أكثر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى