نساء بلا دروع حبّ وانتظار وحروب لا تنتهي

في الحروب، تُكتب الملاحم غالبًا من زاوية الرجال، أولئك الذين حملوا السلاح، ووقفوا في خطوط النار، كثيرات خضنَ الحرب بصمت، لم يذهبن إلى الجبهات، لم يكتبن أسماءهنّ في البيانات، ولم يحملن بندقيّة، لكنّهنّ واجهنَ كلّ انفجار، كلّ غياب، وكلّ خبر عاجل بقلب عارٍ تمامًا من الحماية، لكن خلف كلّ بندقيّة قصّة أنثى حملت عبئًا آخر: أمٌّ تُطفئ الخوف في عيون أبنائها، زوجة تنتظر في صمت، حبيبة تعشق من خلف جدران الخوف، وابنة غاب سندها عن عالمها، وتركتها الحرب تواجه الريح وحدها.

نساء بلا دروع ، لا خوذة تحمي رؤوسهنّ، ولا قانون يشرّع خوفهنّ، لكنّهن كنّ هناك… في قلب المعركة، حتّى لو لم يُذكرن في التقارير أو يُحتسبن في أرقام الضحايا. في كلّ حرب، هناك من يحمل السلاح، وهناك من يحمل الانتظار. هنّ الأمهات، الزوجات، الحبيبات، والبنات…

أمّ تخبّئ الخوف في عينيها

الأمّ بطبيعتها مرآة الوطن، هي التي تُغطّي عيون أطفالها وقت القصف وتهمس: “ما تخافوا… أنا حدكن”، لكن من يُطمئنها هي؟ من يُمسك يدها حين يرتجّ البيت من أصوات الطائرات ودويّ قنابلها؟

الأمّهات في الحرب يربّين الخوف بصمت، لا ينهرن، لا يبكين أمام أولادهنّ، لكنّ عيونهنّ تقول كلّ شيء، يشعلن الشموع في القلوب، لا على الطاولات، يخفين الرعب كي لا يكبر في عيون الصغار؟

يقفن خلف جنود الجيش اللبناني بانتظار الدخول إلى قراهن بعد انتهاء مدة الستون يومًا (الصورة نبيل اسماعيل)

تقول أمّ محمد (اسم مستعار) من إحدى بلدات البقاع الأوسط وهي والدة ثلاثة شبّان: “كنت أطبخ كأنّنا راجعين بعد ساعة، ورتّب البيت كأن ما في حرب، كان قلبي يركض قبل كلّ صاروخ، كان الموت يمرق من فوق بيتي، وأنا واقفة على الشبّاك، كأن بدّي إحميهون بنظرتي”.

تخاف، لكنّها لا تُظهر الخوف، تتألّم، إنّما لا تئنّ، الأمّ في الحرب تقاتل وحدها، كي تبقى العائلة صامدة.

زوجة تنتظر خلف الأبواب المقفلة

كانت تجهّز حقيبة الطوارئ، تضع الصور، الوثائق، والخبز، تنتظر اسمه في نشرات الأخبار، تخاف أن يرنّ الهاتف في منتصف الليل.

تقول سمر، زوجة أحد المقاومين: “كان يختفي عدّة أيام، أحيانًا أسابيع، وما كنت أعرف شي، كنت اسمع عن معارك، عن اجتياحات، وأنا ما عندي غير الانتظار والدعاء، كنت وحدي، حتّى ولادي ما كنت أقدر جاوبهم إذا سألوا وين بابا؟”.

الزوجات يحملن مسؤوليّة البيت والغياب، يغلقن النوافذ على الخوف، ويحاولن الحفاظ على الحياة بكلّ تفاصيلها، لعلّ الغائب يعود ولا يشعر بأنّ الزمن انهار.

في الحروب، يُسمَح للأمّ بالبكاء، وللزوجة بالصبر، لكنّ الحبيبة؟ هي كائن غير مرئيّ، لا تملك الحقّ في الحزن، وهي لا تملك صورة رسميّة تُعلّقها، ولا خاتمًا يربطها به

الزوجة لا تنتظر خبر استشهاد زوجها، بل تنتظر خبرًا صغيرًا يؤكّد أنّه ما زال يتنفّس، لا تعرف متى يعود، أو إن كان سيعود، لكنّها تحضّر له طعامه في كلّ ليلة، وتُعيد ترتيب الحياة كأنّ عودته ممكنة.

تقول: “كنت كلّما أسمع طيّارة، أركض وأضمّ ولادي، وأفتح باب البيت شويّ… يمكن يرجع فجأة، يمكن يختار الليل ليرجع وما يلقاني نايمة”.

هي لا تبكي كثيرًا، إذ إنّ عليها البقاء واقفة، لكن الوحدة تكسرها ببطء، مثل رطوبة تتسرّب إلى جدران البيت.

الحبيبات أكثرهنّ وجعًا…

في الحروب، يُسمَح للأمّ بالبكاء، وللزوجة بالصبر، لكنّ الحبيبة؟ هي كائن غير مرئيّ، لا تملك الحقّ في الحزن، وهي لا تملك صورة رسميّة تُعلّقها، ولا خاتمًا يربطها به، ولا لقبًا اجتماعيًّا يُبرّر ألمها أمام الآخرين. تختبئ خلف صمتها، تبتلع دموعها أمام الناس، وتعود إلى سريرها لتقابل صوته في ذاكرتها، تقرأ رسائله القديمة، وتخاف… أن يكون قد اختفى.

في الحروب، تموت بعض القصص بصمت، وتعيش الحبيبات في عزاءٍ دائم، من دون عزاء، تعيش الحرب في ظلّين اثنين: ظلّ الغياب، وظلّ السر.

تقول إحداهن: “هو ما كان منتمي، ولا صاحب شعارات، بس كان ابن الأرض… وكان بدّو يحميها… وأنا بقيت عدّ الأيّام، وما كنت بعرف اذا بعدو حيّ؟ إذا بخير؟ إذا بعدو إلي؟”.

تضيف “مرّة بعد إصراري، بعتلي صورة، شفت فيها تعب سنين، قلق ما بيشبه قلق العشّاق، متل اللّي حامل قلبه بين إيديه وخايف يوقع، وجّو شاحب، والانتفاخ تحت عيونو الغرقانة بسواد ما بيظهر إلّا بالشخص اللي واجه الموت، وقتها بكيت، مش بسّ عليه، على كلّ شي ما بقدر قولوا، ولا أبكيه قدّام حدا”.

لم يُرِد أن يُريها وجعه، لكنّه لم يستطع إخفاءه، لم يكن الغياب وحده ما يؤلمها، بل تلك المسافة بين الحبّ والصمت… بين الخوف الذي لا يُقال، والحنين الذي لا يُعاش، كانت تموت كلّ يوم مرّتين، مرّة من أجل الوطن، ومرّة من أجل من تحبّ، كانت تحبّ… وهذا وحده كان كافيًا كي تنهار كلّ الجبهات في داخلها.

ابنة الغياب…

ليست طفلة، لكنّها لم تعرف الأمان مذ فقدت أباها، واجهت الحرب وحدها، بلا سند، بلا ظهر. “ما كنت عم دوّر على النصر، كنت عم دوّر على وجهه… على صوته يقلّي: بنتي ما بتخاف”. هي لم تتعلّم كيف تُخفي خوفها، لكنّها أخفته، تعلّمت كيف تُقفل الباب في وجه الفقد، بيد أنّها كانت ترتجف كلّما انفجرت قذيفة.

كانت “ابنة الغياب”، وحيدة في كلّ شيء: في البيت، في الشارع وفي الحرب، لكنّها قاومت… بصمت لا يُحتمل، وبقلبٍ يضخّ الحياة في غياب الحياة.

الحبّ كدرع غير مرئيّ

نساء الحرب في لبنان – من الجنوب إلى البقاع – لم يكنّ على الجبهات، لكنّ قلوبهنّ كانت جبهات، حبّهن وحزنهن وصبرهنّ، كانت هي الدروع التي تحمي ما تبقّى من هذا الوطن. هؤلاء النساء لم يحملن السلاح، لكنّهنّ خضن حربًا يوميّة من نوعٍ آخر؛ انتظرن، خفن، صلّين، وأحببن بصمت، هنّ اللواتي علّمتهنّ الحرب كيف يربّين القوّة من تحت الركام.

الحبيبة التي انتظرت في صمت.

الأمّ التي دفنت الخوف تحت وسادة.

الزوجة التي أنجبت الأمل من قلقها.

وابنة الغياب التي كبُرت بلا يد تُمسكها، علّمت نفسها النجاة وألّا أحدًا يعلّم البنات كيف يواجهن الحرب وحدهن. هؤلاء لم يُدرجن في لوائح التوثيق، لكنّهنّ كُنّ هناك، في قلب المعركة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى