نساء “جود الأرض” مؤونة عالميّة بصناعة بلدية

قد لا تختلف قصّة السيّدة باسمة زين عن قصص سيّدات أخريات كربّات منزل على الطريقة التقليديّة، لكنّها تختلف برحلة البحث عن الذات بعد أن كبر الأولاد وأصبح الوقت متاحًا لخوض مسارات تعكس طموحها في الحصول على كينونتها الخاصّة، وكفرد تملك من الأهداف والعزيمة ما يجعلها تسعى إلى تحقيقها.

ربّما هي الصدفة قادتها إلى الانخراط بدورة تدريبيّة للتصنيع الغذائيّ مع جمعيّة “أصدقاء البيئة” بمدرّبيها من لبنان وإيطاليا وأساتذة من الجامعة اللبنانيّة، وهو مجال أقلّ ما يقال فيه أنّه مجهول بالنسبة إليها. تنبّهت باسمة لأهمّيّة الجمعيّات التعاونيّة بالنسبة للأمن الغذائيّ، وهو تفكير متقدّم نسبة إلى البعد التجاريّ الذي تقاس به أعمال كهذه؛ وهذا ما جعلها تتقدّم رفقة 11 سيّدة بطلب إلى وزارة الزراعة لإنشاء تعاونيّة زراعيّة “جود الأرض” تمّت الموافقة عليه سنة 2011 بترخيص يحمل سجّلًا تعاونيًّا 1/1621.

جمعيّة للتمكين الاقتصادي والاجتماعي

لم تكن الرحلة سهلة على الإطلاق فالعمل بدأ من بيوت السيّدات بتنفيذ ما تعلّمن من صناعة “المونة البلديّة” وبمواكبة من مدرّبيهم، فبدأ التسويق على نطاق ضيّق من الأقارب والجيران والمعارف ثم كُسر حاجز الخوف فكان التوسّع نحو المعارض. وسمح رأس المال القليل باستئجار مركز صغير بعد مدّة، وبعد سبع سنوات انتقل المركز إلى أحد الأبنية كمنحة من بلديّة العبّاسيّة كون الجمعيّة نسائيّة وتهتمّ بالتمكين الاقتصاديّ والاجتماعيّ لسيّدات أكثرهنّ مسؤولات جزئيًّا أو كلّيًّا عن إعالة عائلاتهنّ.

من أحد الأنشطة لجمعية جود الأرض

تمّ ترميم المركز الجديد من دون دعم من أحد حتّى أصبح مكانًا لائقًا بالعمل. أوّل دعم حصلت عليه الجمعيّة كان من وزارة الزراعة بعد سنتين من افتتاح المركز وكان عبارة عن بعض المعدّات. أمّا التعاون مع الجهات المانحة فكان في الـ 2015 مع هيئة الأمم المتّحدة للمرأة لإنشاء مطبخ وفق معايير عالية الجودة عزّزت طموحات الجمعيّة بالحصول على شهادة الآيزو – وهي شهادة عالميّة تمنح بناء على تطبيق معايير الجودة والمطابقة مع المواصفات العالميّة – سيّما وأنّ الجمعيّة تهتمّ بالتعاون المستمرّ مع مختبرات الجامعة اللبنانيّة لمنتجاتها من حيث القيمة الغذائيّة وسلامة المنتج وبخاصّة الصعتر الذي تشتهر به كمنتج غير تقليديّ، وخاص بالجمعيّة التي تجهد حاليًّا في إعداد منتج ثانٍ خاصّ بالصعتر بخلطة مختلفة، وتريد الجمعيّة بذلك التعبير عن أهمّيّة التخصّص بمجالات التصنيع الغذائيّ.

نحو أسواق محلّيّة وخارجيّة

تضمّ الجمعيّة اليوم 18 سيّدة دائمات العضويّة وأكثر من 25 سيّدة مياومات بحسب المواسم الممتدّة من شهر نيسان (أبريل) إلى كانون الأول (ديسمبر) كإنتاج، ومن شهر آذار (مارس) حتّى أواخر السنة كمشاركة في المعارض، ممّا سمح للجمعيّة بالتوسُّع في أسواقها المحلّيّة وإيجاد أسواق خارجيّة، فوصلت منتجاتها إلى دول أفريقيّة عدّة كساحل العاج والسنغال، كذلك إلى كندا والبرازيل وبعض الدول العربيّة ومنها الكويت ودبيّ وسلطنة عُمان.

كان الطموح والمثابرة والصبر الطويل الدوافع الأولى للسيّدات فأصبحن مدرّبات على التصنيع الغذائيّ وسلامة الغذاء بعد حصولهن على شهادات في تدريب المتدرّبين إضافة إلى التدريب الحرفيّ. وأصبح مركز الجمعيّة يضمّ اليوم مطبخًا بمعايير “الآيزو” ومصنعًا بكامل التجهيزات، إضافة إلى قاعة للاجتماعات التي غالبا ما تكون مركزًا للدورات التثقيفيّة والزراعيّة والتصنيعيّة وبالتعاون مع مختلف الجمعيّات.

تضمّ الجمعيّة اليوم 18 سيّدة دائمات العضويّة وأكثر من 25 سيّدة مياومات بحسب المواسم الممتدّة من شهر نيسان (أبريل) إلى كانون الأول (ديسمبر) كإنتاج، ومن شهر آذار (مارس) حتّى أواخر السنة كمشاركة في المعارض

على رغم كلّ الصعوبات التي واجهت الجمعيّة في بداياتها إلّا أنّ السيّدات بمرونتهنّ وصلابتهنّ وإرادتهنّ لم يتوقفنَ عند أيّ عائق، بل على العكس تمامًا كبُر الطموح، وأصبحت الجمعيّة ومطبخها الوجهة الأولى للسيّاح، فاستقبلت مطابخها سيّاحًا من كندا ووفودًا برازيليّة وأميركيّة من أصل لبنانيّ لتذوّق مائدة “جود الأرض الريفيّة” والتعرّف إلى الجمعيّة والمشاركة في التصنيع والزراعة، وذلك ضمن مخطّط الجمعيّة الذي وضعته للتوجّه نحو السياحتين الريفيّة والزراعيّة، خصوصًا بعد عملها الدؤوب للاكتفاء الذاتيّ بزرع منتجاتها وبخاصّة الصعتر، بالإضافة إلى مشروعها المميّز والفريد في المنطقة الذي رأى النور سنة 2018 لزراعة “البلاك بيري” الذي يدخل ضمن إنتاجها من المربّيات والعصائر. إضافة إلى الدورات التوعويّة لزوّارها من التلامذة، حول خطورة المواد المضافة والملوّنة وسلامة الغذاء.

عودة إلى “البيصارة”

ضمن مشاركة الجمعيّة في معارض غرفة الصناعة والتجارة التي كانت تقام في مدينة صيدا، انتُخبت الجمعيّة من قبل الأستاذ محمّد صالح رئيس الغرفة ولمدّة أربع سنوات لتقديم المأكولات التراثيّة اللبنانيّة من الفراكة والكمّونة وكبّة العدس والمجدرّة الحمرا… وتحوّلت مائدة جود الأرض في إحدى السنوات إلى مائدة من “الفريكة” وهي الحبّة التي تمّ دعمها من قبل “اليو إس آيد” الداعمة للمعرض في ذاك الوقت، فكانت أطباق المحاشي بالفريكة البلديّة وسلطة الفريكة والفريكة بالدجاج واللحم تملأ المائدة المفتوحة للجميع. وأعادت السيّدة باسمة زين في إحدى المرّات إحياء طبخة “البيصارة” التراثيّة عندما طبختها مباشرة أمام الحضور.

تقول رئيسة الجمعيّة “باسمة زين” لـ “مناطق نت”: “نحن الآن في مرحلة الرضى. الطموح أكبر من ذلك بكثير. الجمعيّة كأحد أولادي، العمل فيها متعب جدًّا، كثيرة هي المرّات التي شعرت فيها بالرغبة بالاستسلام ولكن الطموح والشغف كانا أقوى من اليأس بكثير. وبنظرة إلى البدايات ونظرة إلى اليوم أنسى التعب والصعوبات ولا أشعر إلّا بالفخر، نعمل دائمًا على استقطاب دم جديد وسيّدات جديدات من خلال نشر ثقافة العمل التعاونيّ”.

سيدة من جمعية “جود الأرض” تحضّر الصعتر البلدي
“شغف لا يموت”

الشغف تجاه هذا العمل لم يقتصر على باسمة، بل انتقل إلى ابنتها الدكتورة براءة عوض وهي التي كانت رفيقة والدتها في رحلة تأسيس الجمعيّة والعمل في مركزها حتّى أصبحت اليد اليمنى لوالدتها، من قطاف المواسم إلى تأمين المواد الأوّليّة إلى التصنيع والتغليف والتصدير إضافة إلى التسويق الإلكترونيّ. تقول عوض لـ “مناطق نت”: “كبرت في هذه الجمعيّة، قضيت فيها وقتًا أكثر ممّا قضيته في بيتنا، بين سيّداتها أتنشّق روائح الصعتر وعصير البندورة ودبس الرّمان. هنا المكان الأحبّ إلى قلبي فيه أنسى ما يجري في الخارج، هو عالم قائم بحدّ ذاته، مذهلُ عالم التحوّلات هذا، ليس على مستوى المنتجات وإنّما على مستوى الأفراد أيضًا”.

تتابع الدكتورة عوض الحائزة شهادة دكتوراه في العلاج الفيزيائيّ من الجامعة اليسوعيّة “لا أصدّق متى أغلق باب العيادة وجولاتي على المرضى كي ألجأ إلى المركز ناسية تعب النهار وهمومه، هنا عبق من نوع آخر، وشغف لا يموت، هنا رائحة الطعام والخبز الطازج والمؤونة، وأصوات ضحكات السيّدات وثرثراتهنّ وكأن الجميع عائلة واحدة، يساندن بعضهنّ بعضًا، يشاركن في إيجاد المخارج لمشاكل بعضهنّ، وكأنّهنّ من حيث لا يدرين يقمن بجلسات من الدعم النفسيّ عبر التفريغ والتعاطف والمكافآت الجماعيّة، هنا مكان مليء بالحبّ، وهذا ما يميّز “جود الأرض” ومنتجاتها، ويجعلها مركزًا آمنًا للسيّدات”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى