نساء خارج الخدمة الإنجابيّة: الأمومة كخيار لا كفرض

مرّت ستّة أعوام، لكنّ رنا لم تنسَ ذاك اليوم حتّى الآن، لا يزال حيًّا مطبوعًا في ذاكرتها. تروي لـ “مناطق نت” تفاصيله وكأنّه حدث أمس، فتقول: “كنت في زيارةٍ روتينيّة إلى طبيبتي النسائيّة، وبعد انتهاء الكشف سألتني ألم تتزوّجي منذ نحو عام؟ أجبتها: نعم. فردّت بلهجةٍ واثقة جدًّا: إذًا بدأتِ التخطيط لحملك بالتأكيد؟ وحين نطقت كلمة كلا، انقلبت من طبيبةٍ يُفترض أن تقدّم لي الرعاية وتحترم رغباتي، إلى شخصٍ تقليديّ يعظني ويحاسبني وبنبرةٍ غاضبة”.

لم تقف عظة الطبيبة عند هذه النقطة، بل تمادت في حديثها وأضافت: “لا أصدّق كيف أصبحتِ في الثانية والثلاثين من عمرك ولم تخطّطي بعد للإنجاب. ألا تعرفين أنّك اقتربتِ من سنّ اليأس؟”.

آنذاك، تجمّدت رنا في مكانها لدقائق معدودات لأنّها لم تستوعب من أين أتت الطبيبة كلّ هذه الجرأة كي تتدخّل في قرار يخصّها وحدها، وأن تملي عليها أفعالها بلهجة آمرة؟ لذلك، لم تشعر بأيّ رغبة في إخبارها بأنّها لاإنجابيّة، ولا في الاعتراض على استخدامها مصطلح “سنّ اليأس” المهين. فأدارت ظهرها ومشت نحو الباب، وخرجت من العيادة وهي تحمل كثيرًا من مشاعر الخيبة والصدمة.

هذا العنف الطبّيّ الذي تعرّضت له رنا، هو أحد أشكال العنف والضغوط التي تعاني منها أيّ فتاة أو امرأة تتّخذ قرارًا واعيًا بعدم الإنجاب. ففي لبنان، حيث تتشابك الأعراف الدينيّة بالضغوط العائليّة والتقاليد المجتمعيّة، تُربط قيمة المرأة بقدرتها على الإنجاب.

اللاإنجابيّات نساء خارج النص

تقف اللاإنجابيّات في مجتمعاتنا في وجه التيّار، يرفضن الأدوار التقليديّة المتوقّعة منهنّ، انطلاقًا من قناعتهنّ الكاملة بأنّ الأمومة ليست قدَرَ كلّ امرأة. ويخضن معارك يوميّة للحفاظ على هويّتهنّ واختياراتهنّ ويتعرّضنَ إلى أشكالٍ مختلفة من العنف. فالدولة تعتمد في ترسيخ سلطتها والحفاظ عليها على تكريس مفاهيم محدّدة، مثل المغايرة الجنسيّة كخيارٍ “طبيعيّ” أو وحيد، والجندر كهويّة ثنائيّة، والأمومة كغريزة فطريّة لدى كلّ امرأة، والزواج كمؤسّسة وحيدة مشروعة لتكوين الأسرة التي يجب أن يرأسها رجل “ربّ العائلة”.

كذلك تربط الثقافة السائدة في لبنان بين المرأة والخصوبة، وبين الزواج والإنجاب، فتُواجَه المرأة اللاإنجابيّة بسلسلةٍ من الافتراضات، وتطاردها نظرات الاتهام والاستغراب واللّوم، التي ترى في الدور الإنجابيّ ذروة الإنجاز والاكتفاء، والمحور الأساسيّ في تشكيل صورة المرأة ومكانتها الاجتماعيّة.

هكذا يصبح جسدها الذي يُعتبر ملكًا عامًّا للعائلة والمجتمع والدولة، جزءًا من منظومة جماعيّة تُقيم له وزنه بمقدار ما ينتجه من أطفال. هذا الواقع لا يعكس فقط وصمًا اجتماعيًّا، بل يكشف عن ضعفٍ بنيويّ في فهم معنى الحرّيّة الفرديّة لكلّ امرأة. فمنذ اللحظة التي تتزوّج فيها أو حتّى قبل ذلك، يبدأ سيل الأسئلة الفضوليّة المغلّفة بابتسامات لكنّها تحمل في طيّاتها حُكمًا عليها: “متى ستُنجبين؟ ألن نرى أطفالكِ؟ ماذا تنتظرين؟ ستموتين وحيدة إن لم تنجبي!”.

مجتمعاتنا لا ترى في المرأة فردًا بل وظيفة: تُنجب، تُرضع، وتُعيد إنتاج النمط. وإذا خرجت عن النصّ، لا يُقال إنّها حرّة بل “ضالّة” أو “ناشز”

النظام الاجتماعيّ للسيطرة على جسدها

حين تُعلن المرأة عن خيارها بعدم الإنجاب، تصبح في موقع المساءلة الدائمة التي لا تقتصر على الأسرة، بل تمتدّ إلى نظرةٍ مجتمعيّة عامّة تُحمّلها شعورًا مبطّنًا بالنقص أو الأنانيّة أو “عدم الاكتمال” والتقليل منها ومن قرارها. وتُوصف بأنّها “متمرّدة” أو “ناكرة للفطرة ولغريزة الأمومة”، أو أنّها تُخالف “قوانين الطبيعة والنظام الاجتماعيّ”.

فمجتمعاتنا لا ترى في المرأة فردًا بل وظيفة: تُنجب، تُرضع، وتُعيد إنتاج النمط. وإذا خرجت عن النصّ، لا يُقال إنّها حرّة بل “ضالّة” أو “ناشز”. ولا تكتفي الأعراف والتقاليد بوضعها ضمن معايير ضيّقة، بل تخلق حولها نظامًا متماسكًا من التوقّعات الجماعيّة، وتتحوّل مفاهيم الخصوبة والأمومة إلى أدوات اجتماعيّة للسيطرة، ويُصبح رحمها وثيقة إثبات وجودها.

هذه النظرة تُثقل كاهل المرأة بعبء تبرير خياراتها الشخصيّة والدفاع عن حقّها في ملكيّة جسدها. فالضغوط لا تأتي فقط من المجتمع الأوسع الذي يمكن أن يعزلها، بل تتسلّل من أقرب الناس. فتعاني من الوصم وتغدو علاقاتها الاجتماعيّة والأسريّة محفوفةً بالحذر، ويتحوّل قرارها الشخصيّ إلى مادّة للنقاش العامّ والتحكّم في خياراتها الإنجابيّة ودفعها إلى تغيير رأيها.

تُستخدم النصوص الدينيّة ضمنيًّا لتأطير “الأنوثة المثاليّة” عبر الأمومة والتضحية. فتُتّهم اللاإنجابيّة بالتخلّي عن “دورها الأساسيّ في الخلق والاستمراريّة”

الإنجاب كـ “رسالة إلهيّة”

في السنوات الأخيرة، بدأت نسبة اللاإنجابيّات في الارتفاع، لكنّها لا تزال تُواجه بالرفض وعدم التقبّل لأسبابٍ عدّة، ما يعرّضهن باستمرار إلى ضغوطٍ هائلة.

ويُشكّل الدين أحد أدوات هذه الضغوط، فيُستخدم كوسيلة لتبرير إجبار المرأة على الإنجاب، لتتحوّل الأمومة من خيارٍ شخصيّ إلى طاعةٍ دينيّة واجبة، ومن علاقة المرأة الحرّة بجسدها إلى اختبار للالتزام و”الفضيلة”. وجرى توظيف وعد النساء بأنّ “الأمومة دربهنّ إلى الجنّة” لخدمة نظام اجتماعيّ يرى في أجسادهنّ مشروعًا للتكاثر. فتصوّر الأديان الأمومة أنّها دور مُقدّس، وتُروّج لمفهوم أنّ قرار أيّ امرأة بعدم الإنجاب يُعبّر عن اعتراض على ما “قدّره الله لها”.

وتُستخدم النصوص الدينيّة ضمنيًّا لتأطير “الأنوثة المثاليّة” عبر الأمومة والتضحية. فتُتّهم اللاإنجابيّة بالتخلّي عن “دورها الأساسيّ في الخلق والاستمراريّة”، ويُعتبر رفضها لهذا الدور التقليديّ نوعًا من العصيان أو الانحراف عن مصيرها “الطبيعيّ” الذي رسمه الخالق لها.

حين يغدو الجسد مساحة حرّيّة

يُعدّ قرار المرأة بعدم الإنجاب تعبيرًا واضحًا عن ممارسة سيادتها على جسدها وعلى القرارات المتعلّقة بحياتها التي يجب أن تنبع من حرّيتها، بعيدًا من الإكراهات الاجتماعيّة أو الدينيّة أو العائليّة، وكسرًا للسلاسل التي قُيِّدت بها الأجيال من قبل.

فالأمومة ليست “قدرًا بيولوجيًّا” ولا “واجبًا أخلاقيًّا” و”لا فريضة دينيّة”. وحين تختار المرأة ألّا تنجب، تمارس نوعًا من المقاومة ضدّ القوالب الاجتماعيّة التقليديّة، وتعلن أنّ قيمتها لا تُختزل في وظيفتها الإنجابيّة التي حدّدتها لها المنظومة الأبويّة، بل في كينونتها الكاملة كإنسان عاقل، حرّ، ويملك حقّ تقرير مصيره. فأجسادنا ليست ممرًّا إجباريًّا لاستمراريّة العائلة، ولا وسيلةً لخدمة سرديّات المجتمع عن الخصوبة والاكتمال.

وفي وجه هذا العالم الذي لا يتوقّف عن محاكمة خيارات النساء، تُعيد اللاإنجابيّات تعريف وجودهنّ بمعاييرهنّ الخاصّة لا بمعايير مَن يريد أن يسكن جسدها بتوقّعاته. وهذه معركة طويلة لم تنتهِ بعد، بل لا تزال في بداياتها، لكنّها تُعيد للمرأة حقّها الأوّل: أن تكون سيّدة مصيرها.

“اللاإنجاب” اختيار إرادي لعدم الإنجاب، أو ما يصفه البعض بـ “عدم إنجاب الأطفال” (Childfree)، هو الاختيار الإراديّ لعدم إنجاب أطفال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى