نساء رميش يتحدين الحرب ويتابعن زراعة التبغ
لعل كثيرين لا يعلمون أنّه في خضم هدير القصف وما تتعرض له القرى الحدوديّة من دمار، ثمّة مزارعون ما زالوا على وفائهم للأرض، يروونها بالماء وعرق التعب، ينثرون بذار الخير، ويحلمون بوافر المواسم، وقد بدأوا قبل أسابيع بقطف أوراق التبغ وإعدادها في دورة إنتاج طويلة وشاقّة تنتهي بتسليم المحصول إلى “الريجي”.
تبقى رميش البلدة الحدوديّة على وعدها للتبغ، واحدة من أشهر البلدات المعروفة تاريخيًّا بزراعته وإنتاجه، لم تثنِ الاعتداءات الإسرائيليّة أبناءها عن معاملة أرضهم وحراثتها وزرعها، إلى أن باتت هذه الزراعة فعل صمود يمتدّ زمنيًّا تسعين سنة ونيّفًا.
رنا إبراهيم عبدوش
لم تنزح ابنة رميش رنا إبراهيم عبدوش (38 سنة) إلى مناطق أكثر أمانا كما فعل كثيرون، كلّ ما فعلته أنّها أبعدت أولادها الأربعة إلى بيروت ليتابعوا دراستهم، وتواعدت مع أرضها.
تحكي رنا قصّتها مع التبغ فتقول: “نزرع التبغ كعائلة أبًّا عن جد، فوالدي الراحل إبراهيم عبدوش كان رائدًا في مجال زراعة التبغ، والدتي وأشقائي ما زالوا يزرعون وهم كما يعلم الجميع من أكبر مزارعي التبغ في كلّ الجنوب”. وتتابع لـ”مناطق نت”: “تربّينا وكبرنا وتعلّمنا وتزوّجنا وكانت زراعة التبغ مورد رزقنا الأساس، فوالدي الفلّاح، لم يكن يزرع التبغ فحسب، وإنما أنواعًا أخرى من المزروعات”.
وتؤكّد عبدوش أنها “تزوّجتُ وبقيت أزرع التبغ، في مساحة تقارب 15 دونمًا، فيما أهلي يزرعون ما بين 60 و70 دونمًا من التبغ وأحيانًا أكثر من ذلك”.
لن نوقف زراعة أراضينا
لا تنسى عبدوش فضل هذه الشتلة، وكيف ساهمت في تعليم الأبناء والأحفاد، فتقول: “أنا ربّيت أولادي من زراعة التبغ وأعلّمهم، وبناتي يتابعن الدراسة في الجامعات بفضل هذه الشتلة”.
وعن الأوضاع في ظلّ هذه الحرب تشير إلى أنّه “وعلى رغم المخاطر زرعنا أراضينا حتّى أنّنا نقطف المحصول في الليل أحيانًا، ولا أقول إنّنا لا نخاف، ولكن لا يمكننا التوقّف، لأنّه لا يمكننا أن نوفّر معيشة أولادنا إلّا من خلال هذه الزراعة التي تؤمّن لنا الدعم والاستمرار في هذه الحياة، ونحن مكملون في عملنا مع تمنّياتنا أن تنتهي الحرب لنعود ونتابع حياتنا ومواسمنا بشكل أفضل مقارنة مع ما نحن عليه اليوم”.
وتلفت إلى أنّه “على رغم كلّ الظروف والخوف المسيطر على الناس، فإنّ 90 بالمئة من أهالي رميش يزرعون التبغ، ولا أحد منهم توقّف عن زراعة أرضه”.
صامدون في أرضنا
بدورها والدة رنا زينة عبدوش تقول لـ”مناطق نت” ووصلت اسمها باسم زوجها فخرًا لتاريخه المرتبط بزراعة التبغ: “أنا زوجة الراحل ابراهيم عبدوش، كان من بين أهمّ مزارعي الدخّان في الجنوب”، ثم تتابع: “نحن في الأساس مزارعون، وأهلي مزارعون، بدأت العمل في الأرض مذ كان عمري عشر سنوات، تزوّجت وبقيت أزرع التبغ”.
وتؤكّد أنّ “رميش بلدة زراعيّة، صمدت ولم يتخلّف مزارعوها على رغم الحرب عن زراعة أراضيهم”. وتختم: “صامدون في أرضنا وفي أرزاقنا، وبتعبنا سنكمل لأنّ شتلة التبغ تعني لنا كثيرًا، هي الأساس في معيشتنا وبناء عائلاتنا، بفضلها علّمنا أولادنا في أهمّ المدارس والجامعات وعلى الرغم من أنهم أسّسوا لهم مصالح ووظائف وأعمالًا أخرى إلّا أنّهم استمرّوا مزارعين ويكملون مسيرتنا”.
“كان يراقص شتلة تبغ”
تبقى شتلة التبغ تاريخيًّا عنوانًا لصمود أهل الجنوب، وبعضًا من أدبيّاتهم وإرثهم الثقافيّ، حتّى نجد هذه الشتلة ليس في السهوب والحقول فحسب، وإنّما في قصائد الشعراء ونتاج الأدباء وفي أغنيات رصدت يوميّات المزارعين تعبًا وقهرًا وصمودًا، فنقرأ ونسمع من كلمات بطرس روحانا: “يا سعدى خيرا بغيرا/ الحظّ الهيئة معاندنا/ خمَّنا الغلةَّ بتكفي/ تأمّلنا وتواعدنا/ كل ما شكّ بها الدخّان/ قول يالله منحكي بكرة/ صار الموسم يخنق موسم/ لا حكينا ولا تزوجنا…”.
أو من كلمات شوقي بزيع “… وكان يراقص شتلة تبغ/ ويجذبها صوب كفّيه/ لكنّها لا تصل/ فيقطر حزناً وتقطر سحراً/ ويمتدّ/ تمتدّ/ حتّى يلامسها في السماء”. (القصيدتان لحّنهما وأنشدهما الفنّان مارسيل خليفة).
واجه المزارعون الجنوبيّون معاناة كبيرة، وخاضوا مواجهات عديدة، لعلّ أبرزها تظاهرة مزارعي التبغ في النبطية قبل اندلاع الحرب الأهلية 1975، بتاريخ24 كانون الثاني/ يناير 1973 وسقط فيها الشهيدان نعيم درويش (حبوش) وحسن حايك (كفرتبنيت) دفاعًا عن لقمة العيش، في ذروة تنامي الحركة المطلبيّة.
لذلك لا يمكن الحديث عن زراعة التبغ من دون الإشارة إلى ما تمثّل هذه الزراعة في وجدان الجنوبيّين وهم يكابدون المشقّات ويواجهون المخاطر لزراعة حقولهم، خصوصًا وأنّ زراعة التبغ هي مصدر رزق أساس لكثيرين منهم.
بلدة رميش ليست إلّا نموذجًا يمثّل سائر قرى وبلدات الجنوب، إذ في كلّ بلدة حكاية صمود وتحدٍّ، وإن يزرع الجنوبيّون فهم يمارسون فعل نضال يجسّد التصاقهم بالأرض، نضال غالبًا ما تكون المرأة عنوانه الأساس، المرأة التي لا تكتفي بتربية أولادها وأحفادها فحسب، وإنّما تعامل الأرض بكل دفء ومحبّة والتصاق لتفيض خيرًا ومواسم.
لكن يبقى ثمّة سؤال: هل ستلاقي الدولة صمود المزارعين وإنصافهم وتعويضهم بمستوى ما بذلوا من تعب وتحمّل لمخاطر ومشقّات؟