هل تصبح اللامركزيّة واقعًا في عهد الرئيس الجديد؟
“عهدي أن أعمل على إقرار مشروع قانون اللامركزيّة الإداريّة الموسّعة بما يخفّف من معاناة المواطنين ويعزّز الانماء المستدام والشامل”.. قالها الرئيس جوزاف عون في خطاب القسم الذي شكّلت اللامركزيّة الإداريّة إحدى نقاطه، فهل يأخذ ذلك المشروع طريقه إلى التشريع والإقرار، ويكون من ضمن برنامج الإصلاح الذي تعهّد به الرئيس عون في خطابه القسميّ.
قد تكون المركزيّة الشديدة التي يعاني منها لبنان منذ عقود وتحديدًا في الإدارة والخدمات، إحدى الانعكاسات السلبيّة التي جعلت من مناطق الأطراف مهمّشة ينهشها الحرمان والإهمال، بينما تتركّز معظم مؤسّسات الدولة ومواردها في العاصمة بيروت. وعلى رغم أنّ اللامركزيّة الإداريّة ذُكرت كإصلاح أساسيّ في اتّفاق الطائف العام 1989، إلّا أنّ الحكومات المتعاقبة لم تقم بخطوات جدّيّة لتطبيقها.
اللامركزيّة في اتّفاق الطائف
يؤكّد الخبير في الحوكمة والسياسات العامّة وممثّل المنظّمة الدوليّة للتقرير عن الديمقراطيّة في لبنان، الدكتور أندريه سليمان، لـ “مناطق نت”، “أنّ تطبيق اللامركزيّة الإداريّة ضرورة لإصلاح النظام الإداريّ في لبنان، وتطبيقها يساهم في فصل العمل الخدماتيّ والإنمائيّ عن الصراعات السياسيّة والتجاذبات بين الأحزاب والزعماء”. موضحًا “أنَّ اللامركزيّة تعمل على تحديد الأدوار والمسؤوليّات بوضوح للسلطات المحلّيّة، ما يتيح لها إدارة الخدمات وتحقيق التنمية المحلّيّة بمعزل عن التعطيل الحكوميّ أو الأزمات السياسيّة على المستوى الوطنيّ”.
ويشدّد سليمان على أهمّيّة تطبيق اللامركزيّة كونها “وردت في اتّفاق الطائف، كذلك فإنّ هناك إجماعًا شعبيًّا على ضرورتها. إضافة إلى ذلك، هناك قانون متكامل وُضع العام 2014 وامتدّت مناقشته في المجلس النيابيّ حتّى العام 2019، ما يعني وجود تراكم من الدراسات والجهود حول هذا الموضوع”.
تؤدّي المركزيّة إلى حصريّة الثروات وسوق العمل والمشاريع، والإدارات الحكوميّة في العاصمة والمدن الكبرى. أمّا في حال تطبيق اللامركزيّة، فيقول سليمان “إنَّ مراكز القرار تتوزّع، ويصبح لكلّ منطقة إدارتها الخدماتيّة والتنمويّة، ممّا ينعكس إيجابًا على القرى والمناطق النائية، وبخاصة على القطاعات الإنتاجيّة كالزراعة والصناعة والاقتصاد غير المدينيّ”.
تحدّيات تطبيق اللامركزيّة في لبنان
تواجه اللامركزيّة في لبنان تحدّيات عدّة تعرقل تطبيقها، أوّلها غياب الإرادة السياسيّة وهو ما نشهده منذ ثلاثة عقود وحتّى اليوم، ويظهر جليًّا أنّ القوى السياسيّة لا ترغب في تطبيق اللامركزيّة بشكل فعليّ، لأنّ ذلك قد يُفسح في المجال أمام ظهور نخب جديدة ذات كفاءة وأداء متميّز، ممّا يشكّل تهديدًا لمصالح القوى المسيطرة والنفوذ السياسيّ التقليديّ في المناطق، وذلك بحسب سليمان، الذي شدّد على “أهمّيّة مطالب الناس وإصرارها على إقرار اللامركزيّة كحقّ أساس”.
التّحدي الثاني يتعلّق بالتقسيمات الإداريّة، حيث يتطلّب تطبيق اللامركزيّة إنشاء مجالس محلّيّة إداريّة، ممّا يستدعي وضع حدود إداريّة واضحة لهذه المجالس. والمشكلة تكمن في أنّ التقسيمات الحاليّة التي تتوزّع على 24 قضاءً بالإضافة إلى العاصمة بيروت، تُعدّ كثيرة وغير مناسبة لدولة صغيرة كلبنان. لذلك، يعتقد الدكتور سليمان “أنّ العدد الأنسب هو بين 10 إلى 12 دائرة إداريّة، إلّا أنّ هذا الطرح قد يثير جدلًا وخلافات بين الأطراف السياسيّة”.
تواجه اللامركزيّة في لبنان تحدّيات عدّة تعرقل تطبيقها، أوّلها غياب الإرادة السياسيّة وهو ما نشهده منذ ثلاثة عقود وحتّى اليوم، ويظهر جليًّا أنّ القوى السياسيّة لا ترغب في تطبيق اللامركزيّة بشكل فعليّ
أمّا التحدي الثالث فهو اللامركزيّة الماليّة، وفي هذا الإطار يشير د. سليمان إلى “أنّ تطبيق اللامركزيّة الإداريّة لا يمكن أن يتمّ من دون لامركزيّة ماليّة، لأنّهما وجهان لعملة واحدة”. وعلى الرغم من “أنّ الصندوق البلديّ المستقلّ والرسوم البلديّة يُعتبران نوعًا من أنواع اللامركزيّة الماليّة المحدودة، إلّا أنّ إنشاء سلطات لامركزيّة جديدة يتطلّب استقلالًا إداريًّا وماليًّا كاملًا، بالإضافة إلى موارد وإيرادات خاصّة، بعيدًا من الهيمنة المركزيّة لوزارة الماليّة، وهنا يكمن العائق، إذ ربّما تسعى بعض الأطراف السياسيّة للإبقاء على السيطرة الماليّة المركزيّة لضمان استمرار نفوذها”، وفق سليمان.
خطاب القسم و”اللامركزيّة”
تطبيق اللامركزيّة الإداريّة كما ورد في كلمة الرئيس جوزاف عون خلال خطاب القسم ليس الأوّل، فقد ورد هذا المطلب في معظم البيانات الوزاريّة منذ التسعينيّات وحتّى اليوم، لكنّها بقيت مجرّد تصريحات ووعود من دون تنفيذ فعليّ. لذلك يرى د. سليمان “أنّ الأشهر الأولى من عهد الرئيس الجديد وتشكيل الحكومة المرتقبة ستكشف مدى جدّيّة الالتزام بتطبيق اللامركزيّة”.
وفي هذا الإطار، يقدّم د. سليمان مجموعة من النصائح للحكومة الجديدة لضمان تطبيق فعّال للامركزيّة الإداريّة الموسّعة، “أوّلها العمل بجدّيّة على تأمين توافق سياسيّ من أجل إقرار قانون اللامركزيّة الإداريّة بصلاحيّات شاملة وواسعة. ثانيًا، يجب أن تستند عمليّة تطبيق اللامركزيّة إلى تجارب دوليّة ودراسات علميّة معمّقة. ثالثًا، توفير أنظمة شفّافة تتيح الوصول إلى المعلومات، وتضمن النزاهة والمحاسبة. رابعًا، اعتماد أنظمة حديثة وإدارات لامركزيّة رقميّة، بعيدًا من النماذج التقليديّة القديمة”. وأخيرًا، دعا سليمان إلى “ضرورة إشراك الخبراء في النقاش حول ذلك، وتفادي المطوّلات السياسيّة والحزبيّة الّتي تؤدّي إلى نتائج عقيمة”.
اللامركزيّة واقتصاد الأرياف
إذا كانت المركزيّة الإداريّة الشديدة تؤدّي إلى إنماء غير متوازن، وتنعكس على الأطراف تهميشًا وهجرة للشباب وحرمانًا في الخدمات، فإنّ اللامركزيّة الإداريّة ربّما تساهم إلى حدّ بعيد في تصحيح ذلك الخلل. وفي هذا الإطار يعطي الأستاذ أمين خير، المدير السابق لإحدى المدارس في حاصبيا، نموذجًا عن معاناة أبناء الأطراف جرّاء المركزيّة الإداريّة فيقول لـ “مناطق نت”: “إذا احتاج أحد الطلّاب في حاصبيّا إلى ورقة من الجامعة اللبنانيّة، فهو مضطرّ للذهاب إلى بيروت مع كلّ ما يُرافق ذلك من تعطيل نهاره بالكامل”.
يتابع خير “بينما مع تطبيق اللامركزيّة الإداريّة، يمكنه إنجاز الأمر في ساعتين فقط، فالمواطن الذي يحتاج إلى إنجاز معاملات معيّنة لن يكون مضطرًّا إلى التوجّه نحو العاصمة، إذ يتوجّه إلى مركز المحافظة لإنجاز ذلك، وهي تكون بمثابة ولاية شبه مستقلّة بحدّ ذاتها، حيث تتواجد فيها جميع مؤسّسات الدولة”.
“اللامركزيّة الإداريّة تؤدّي بالتأكيد إلى تخفيف الضغط عن المدن الكبرى، وتقلّل الهجرة من الريف إلى المدينة، ممّا يساهم في إعادة إنماء المناطق الريفيّة وتنشيطها اقتصاديًّا واجتماعيًّا”، وذلك وفق خير الذي أضاف: “للأسف، لم يتمّ تطبيق اللامركزيّة الإداريّة في لبنان، بل طُبّقت بما يتماشى مع السياسيّين وأهوائهم ومصالحهم في عمليّة القبض على المناطق وجعلها أسيرة حساباتهم”.
“المركزيّة حرمتنا من التعليم”
تروي روان عسّاف وهي شابّة من بعلبك، معاناتها مع المركزيّة التي أثقلت كاهل منطقتها، مؤكّدة أنّ غياب المؤسّسات الرسميّة والفرص التعليميّة والوظيفيّة أجبرها على النزوح إلى العاصمة. تقول روان لـ “مناطق نت”: “لا توجد جامعة في بعلبك لمتابعة دراستي، مّما اضطرّني للنزول إلى بيروت، وبعد حصولي على شهادتي، لم أجد فرصة عمل في بعلبك، فاضطررت مرّة أخرى للنزوح إلى بيروت للعمل. لماذا يجب أن أعيش بعيدة من أهلي؟”.
تتابع روان تفاصيل معاناتها مع مركزيّة الإدارات الرسميّة “كلّ معاملة رسميّة أحتاج إلى إتمامها تتطلّب منّي الذهاب إلى بيروت، حتّى شهادة الجامعة، أضطرّ لقطع مسافات طويلة للحصول عليها، وإذا أردت تصديق إفادة، لا بدّ من أن أتوجّه إلى وزارة التربية في بيروت، إنّها معاناة كبيرة ومشقّة يوميّة فقط لتسيير أموري الحياتيّة”.
عسّاف: لا توجد جامعة في بعلبك لمتابعة دراستي، مّما اضطرّني للنزول إلى بيروت، وبعد حصولي على شهادتي، لم أجد فرصة عمل في بعلبك، فاضطررت مرّة أخرى للنزوح إلى بيروت للعمل. لماذا يجب أن أعيش بعيدة من أهلي؟
معاناة روان ما هي إلّا عيّنة عن معاناة الشابّات والشباب وهجرتهم من بعلبك. تشير روان إلى أنَّ “معظم من بقي هم من كبار السنّ، لأنّ الشباب الذين يتابعون تعليمهم الجامعيّ وينخرطون في سوق العمل يضطرّون للنزوح إلى المدن الكبرى، ومن يرد البقاء يعمل غالبًا في الزراعة أو المهن الحرّة، وهي مجالات لا يفضّلها الجميع”.
تأمل روان في أن يشهد العهد الجديد خطوات حقيقيّة نحو إلغاء المركزيّة وتحقيق الإنماء المتوازن للمناطق الريفيّة مثل بعلبك، من خلال إنشاء مراكز إداريّة، وجامعات، وفرص عمل للشباب، بما يخفّف معاناتهم ويحقّق العدالة الاجتماعيّة والتنمية الشاملة.
المركزيّة ظلمت عكّار
تشكّل عكّار نموذجًا صارخًا لضحايا المركزيّة الإداريّة، حيث معاناة المناطق الطرفيّة البعيدة عن العاصمة تتجلّى بشكل فاضح هناك. تعبّر الشابة إليانا ساسين عن معاناة أبناء عكّار وتسلّط الضوء على مشاكلهم. تقول لـ “مناطق نت”: “نأمل أن يتمكّن العماد عون من تطبيق اللامركزيّة الإداريّة، لأنّ أهالي عكّار مظلومون في كلّ شيء، سواء في المعاملات الرسميّة أو المؤسّسات التعليميّة والخدمات الأساسيّة.”
ما قاله ابن حاصبيا وما قالته ابنة بعلبك تكرّره إليانا، فتشير إلى أنّ “غياب المؤسّسات الحكوميّة داخل عكّار يلزم الأهالي السفر مسافات طويلة لتسيير أمورهم الإداريّة، ممّا يضيف أعباءً كبيرة عليهم، هذا ولم نتحدّث بعد عن النقص الحادّ في المؤسّسات التعليميّة، إذ تقتصر الجامعة الحكوميّة الوحيدة على تدريس الطبّ للسنة الأولى فقط، بينما يُجبر الطلاب على الانتقال إلى بيروت لإكمال دراستهم. أمّا الجامعات الخاصّة، فهي خيار مكلف جدًّا وغير متاح للكثيرين، ممّا يعمّق معاناة أبناء المنطقة ويحدّ من فرصهم التعليمية”.