هل كان اسكوبار في الحمودية؟
حسين حمية
عنونت إحدى الصحف اليوم لتغطية العملية العنيفة في الحمودية أمس ب” مقتل اسكوبار البقاع المطلوب ب3000 مذكرة قضائية”. يُحاكي الإفراط الإعلامي في التوصيف، الإفراط في استخدام القوة بالعملية الأمنية، وهو يؤدي لتعظيم الإنجاز، ودائما تضخيم الشرور هو تبرير لإطلاق يد مكافحتها من دون قيود قانونية وإنسانية، وهذه حرفة قديمة سنّها عنترة بن شداد، فكان يستبق إجهازه على ضحيته، بامتداح قوتها وشدة بأسها قبل أن يحز سيفه عنقها، وهنا سر “بطولته”.
ما بين الثرى والثريا، هو ما بين اسكوبار الكولومبي واسكوبار البقاعي، مسافات فلكية تفصل ما بين ميدلين في أميركا الجنوبية والحمودية في البقاع الشمالي، أوجه الشبه ليست بالشخص، علي زيد اسماعيل، هو سوبر مطلوب، له سجل اسود في الأعمال الإجرامية بالاتجار في الممنوعات والخطف، لكن لا يجعله على سوية مع اسكوبار، مع ذلك استغل الإعلام لأمر ما هذا التصور الشائع والجاهل عن اسكوبار الذي ينتقي مرادفه اللبناني من الطبقات الشعبية وليس من الطبقة السياسية أو الفئة الحاكمة.
لم يتم العثور في حقائب علي زيد إسماعيل على محاضر جلسات مجلس الأمن السرية كما كان في حقائب مهربي كولومبيا، ولم يكن هو نائبا في البرلمان اللبناني كما كان اسكوبار الحقيقي، ولم يُنتخب عضوا في لجنة حقوق الإنسان، ولم يكن لديه منزل يجتمع فيه السياسيون والحكّام والسفراء على مآدبه العامرة، وليس لديه القدرة على تبني مرشح رئاسي للبلاد، أو إقامة دولة خفية في قلب الدولة تتألف من عشرات المسؤولين في الجيش والشرطة والقضاء يتقاضون الرشاوى منه، إنما هو شخص تيتم ابن سنتين بعد مقتل والده إبان ثورة الجياع، ولا يتجاوز تعليمه المرحلة الابتدائية، ويصعب على وعيه تلمس الخيوط التي تصل الجريمة بالسياسة، فكان دخوله عالم الإجرام للكسب المادي وليس لمشروع يسيطر فيه على الدولة كما اسكوبار.
لقد أزاح اسكوبار من طريقه عشرات المسؤولين بينهم سياسيون وإعلاميون ورؤساء تحرير صحف بالتصفية الجسدية، وزرعت فرقه الرعب والموت في الأحياء الشعبية الواسعة، واستقدم أمهر القتلة المأجورين من إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، وبعد سقوطه تمت محاكمة 1600 ضابط شرطة وجيش كانوا قد تورطوا بجرائمه، واعتقال 25 سياسيا كانوا يستفيدون منه، كل هذا لا صلة له بعلي زيد اسماعيل، غير أن هناك وظيفة أخرى لإقامة الشبه بينه وبين اسكوبار، لأن تعظيم النتيجة يؤدي إلى انتاج فائض سياسي من العملية الأمنية الأخيرة.
النهاية المأساوية لأسكوبار الكولومبي، كان سببها أميركا، حينها، كانت واشنطن تستثمر سياسيا على ما أسمته “الحرب على المخدرات”، وكانت هذه الحرب توفر لها الأعذار للعبث في الشؤون الداخلية للدولة الكولومبية، وقد أحبطت أي مسعى لإجراء مصالحة ما بين تجار المخدرات في ذاك البلد والدولة، ولا يستبعد البعض تورطها باغتيال مرشح رئاسي كان قد تبنى مشروع المصالحة.
ردود الفعل العفوية والمنظمة على عملية الحمودية التي تجسدت بالاستنكار على وسائل التواصل وقطع الطرقات الأرض والدعوات إلى فتح تحقيق، تؤكد أن ندوبا إضافية ستزيد من الشرخ في العلاقة ما بين الدولة والمجتمع البعلبكي، وهذا الشرخ لا يمكن جسره بالأمن العنيف أو تبرير الشدة الأمنية بالمبالغات الإجرامية (كما في عنوان الصحيفة المذكور) لبعض الخارجين على القانون، فهذا يغذي الشكوك بوجود أهداف تتجاوز حفظ الأمن والنظام في المنطقة.
كان بالإمكان طي الملف الأمني لمنطقة بعلبك الهرمل، ليس على الطريقة التي اقترحها اسكوبار بالمصالحة بين الدولة الكولومبية والمهربين، إنما بالعفو العام، لكن تطييف هذه الموضوع وتشبيكه مع ملف ما يسمى “الموقوفين الإسلاميين”، وملف آخر هو “ملف العملاء”، أطاح بهذه الفرصة، علما أن تشبيك مثل هذه المواضيع مع بعضها البعض لا ينم عن عقلية رجال دولة والاعتناء بالمصالح العليا للشعب، إنما تنم عن عقلية مسؤولين قبائليين وعشائريين وطائفيين، انحصرت السياسة عندهم بحصحصة القضايا طائفيا ومذهبيا وتحاصص حلولها، وهنا عقدة الخراب الأمني والاقتصادي والسياسي للبلد.
الشعب يعلم مدى الإهانة التي تلحق بدولتهم، بعد اشتراط دول “سيدر” عليها إثبات أهليتها لمدها بديون جديدة ستذهب كما العادة إلى الجيوب المعروفة، وكان الأجدى إثبات هذه الأهلية بتنظيف نفسها من الفساد الذي ينخر عظام مؤسساتها وإداراتها وتمرير استحقاقاتها الدستورية ضمن مهل معقولة وإعادة الثقة بقدرتها على مواجهة المشاكل المزمنة من نفايات وكهرباء وترشيق خدماتها للتخفيف من أوجاع الناس اليومية، فإبراز العضلات الأمنية لن يمنحها مثل هذه الأهلية ولو أنها ستتلقى الإشادات من بعض الدوائر الأمنية الخارجية، فالاستقرار الحقيقي ينعكس بدرجات رضا المواطن عن أداء دولته، وهذا ما تعيره سياسات الدول الأهمية في امتحانها لكفاءة دولتنا، وما حدث بعد عملية الحمودية لا يبشر بالخير.
تشبيه علي زيد اسماعيل بأسكوبار لن يغير شيئا، لقد فات مصطنعيه، أن المعين الذي يفيض بالخارجين على القانون والمهربين والمجرمين، ما زال على حاله في المنقطة، وهو الوضع السياسي الرث للبلد وسوء الأوضاع الاجتماعية في البقاع، ومهما كانت فولاذية القبضة الأمنية فهي لن تردم هذا المعين، بل ستزيد طينه بلة، بتحميل المؤسسات العسكرية والأمنية أوزار العلاقة المشحونة بالاحتقان بين أبناء المنطقة وأحزابهم وممثليهم السياسيين.