هل ما زالت متاحة لي الكتابة عن زياد أمّ أنّني تأخّرت؟

إنّها الثانية بعد منتصف الليل، نهضت لتوّي من سريري كي أكتب هذا النصّ. أفكاري تسيل من دماغي نحو أصابعي دون توقّف. منذ أن توفّي زياد الرحباني، أشغّل أغانيه وفيروز في أوقاتٍ متأخّرة قبل النوم. أشعر بثقلٍ وعجزٍ لا أستطيع تفسيرهما. الجديد أنّني لم أستطع تقبُّل اسمه كاملًا، الأوّل والثاني “زياد الرحباني”، لأنّه لطالما كان زياد فقط. هكذا يناديانه أمّي وأخي الكبير، بهذا القرب منّا، وكأنّ لا زياد غيره في العالم.
لا أدري إن كنت أكتب هذا النصّ بسبب حاجة في داخلي أريد تلبيتها، أو هو شعور بالذنب لأنّي لم أبكهِ كما يجب، لكنّني في جميع الأحوال، أكتب.
قبل أن تكملوا القراءة، أودّ أن ألفت انتباهكم إلى تفصيل، هو أنّني أتبجّح في هذا النصّ، وذلك باكتشافي عنصرًا مهمًّا جدًّا ساهم في صقل شخصيّتي التي ما زلت أحاول فهمها بكلّ تبدّلاتها، ولا أظنّ أنّ هذا يهمّ أحدًا. لا عناوين فرعيّة في هذا النصّ ولا أدوات ربط، ولا اتّصال بين فقراته. أشير إلى ذلك انطلاقًا من كوني أحدًا يحترم وقت الناس وحسب.
(العناوين المدرجة في النصّ هي من إضافة المحرّر)
سحاسيح وشتائم
مات زياد، الخبر كان صادمًا، ومشهد فيروز مهيبًا. تصنّع بعض المعزّين كان مزعجًا. ولو أنّ زياد حضر مأتمه لانهال عليهم بالسحاسيح والشتائم. كتب الجميع عن كلّ ذلك. أنا لم يعلّمني زياد الرحباني كيف أفكّر، ولا أن أكون نقديّة، ولا الـ “دارك هيومر”. ما انكسر بالنسبة لي بعد موته لا يشبه ما انكسر عند بقيّة الناس. لا أقول إنّه أعمق، أو أهمّ، لكنّه مختلف بالتأكيد، ولم يكن ظاهرًا لي يوم وقعت الواقعة، بل بعد مرور بعض الوقت عليها.
حرصت على إعلان موقفي السلبيّ تجاه ألعاب الفتيات والمواضيع التي تهمهنّ باستمرار، حتّى جاء يومٌ سمعت فيه “بلا ولا شي”
نشأت في بيتٍ ملتزمٍ دينيًّا، ولم نكن نسمع الأغاني، بل الأناشيد. كنّا نستمع ونحن على طريق الخيام (مرجعيون) إلى الشيخ إمام، وفرقة الطريق، ومارسيل خليفة، وبعض أعمال أحمد قعبور وخالد الهبر، إلى بعض الأناشيد الدينيّة، وطبعًا، زياد؛ أيّ ما غنّى أو لحّن عن النضال والبلد. لم يمضِ وقتٌ طويل حتّى تحوّل الرجل إلى شبّاكٍ أُطلّ منه لأعبر إلى الأغنية من خلال النشيد، وأستمع إليه يترحّم مع ختام اللحّام “عاللّي سوّاك”. كانت أمّي تضحك عندما يصل إلى هذا المقطع وتتمتم “استغفر الله”. كان الأمل بتغييرٍ محتملٍ في المستقبل يملأ قلبي عند رؤية أمّي تضحك على جملة كهذه بدلًا من الانزعاج منها.
ثمّ سمعته يغنّي عن النساء، والرجال الذين لا يعرفون كيف يعاملون النساء، ثمّ تابعت تصفيق الجمهور المنتشي يفتتح مقطوعاته وينهيها. كنت أردّد أغانيه وحدي، لأنّ موضوعًا كهذا سيهزّ صورة الفتاة الجامدة التي حاولت بناءها في البيت الذي كنت البنت الوحيدة فيه. كلّما قلّلت من مشاعري الظاهرة، أبدو أقوى. هكذا كنت أظنّ، ولهذا قصصت شعري حتّى آخره، وانغمست بألعاب الفيديو العنيفة، وحرصت على إعلان موقفي السلبيّ تجاه ألعاب الفتيات والمواضيع التي تهمهنّ باستمرار، حتّى جاء يومٌ سمعت فيه “بلا ولا شي”. ثلاث دقائق وثلاثون ثانية ربّتني من جديد، وأقنعتني ألّا حياءَ ولا ضعف في الحبّ، بل جرأةٌ وفرح. حتّى زياد الذي يسخر من كلّ شيء، بما فيها ذاته، يبحث عنه ويغنّي له. فمن أنا لأكون أجرأ وأنضج من زياد؟
ركعة لله واثنتان لشعرها
لم تكن الأغنية سلطانًا فاتحًا لقسطنطينيّة المشاعر التي حُبست وقُمعت على مدى سنواتٍ من المكابرة والتعنّت، إذ رافقتها تغيّراتٌ كان منها التحاقي بمدرسة البنات، حيث رأيت الواحدة منهنّ تصلّي ركعة لله واثنتين لشعرها، وتكثر من ماء الورد على خدّيها ومرطّب الشفاه ذي اللون الخفيف للالتفاف على قرار منع أحمر الشفاه الصارم. كانت هذه المرّة الأولى التي أرى فيها فتياتٍ يمارسن أنوثتهنّ التقليديّة خارج التلفزيون.
بعد أن كان غريبًا وعجيبًا وصامتًا، بدا الحبّ غريبًا وعجيبًا بوقاحةٍ مغرية للمرّة الأولى، وتنقّى من شوائبه كما يُنقّى العدس من الأحجار الصغيرة في حرارة الجنوب.
صرت إذًا من سامعي الأغاني رسميًّا، وللمفارقة، لم أجد نفسي إلّا أكثر قربًا وحبًّا إلى الأناشيد التي تمجّد المقاومة وتسمّي الأمور بمسمّياتها من دون خوف. ومع تعرّفي إلى الجانب المنتج للـ “منكر” من زياد، تغيّرت نظرتي إلى أعماله الوطنيّة. صارت أغنى، وأصدق، وأقرب إلى النّاس، وكأنّه خلق رابطًا بين القطبين، وفلسفة رائعةً على بساطتها وتكرّرها وكليشّيهاتها: قاوموا من أجل الحبّ.
تلفن عيّاش
خلال فترة مراهقتي، كان شائعًا بين الناس تخصيص نغمة اتّصال خاصّة لكلّ شخص على الهاتف؛ ربّما تكون أغنية رومنسيّة، أو مضحكة، الخ… فشاءت أمّي، ولأنّني كنت أكذّب أحيانًا، أن تخصّص لي أغنية “تلفن عيّاش” على هاتفها. وهكذا صار عيّاش واحدًا من ألقابي، بخاصّة بعد أن فُضح كذبي المتكرّر بشأن الوضوء والصلاة اللذين كنت أدّعي تأديتهما كذبًا.
تغيّرت كثيرًا. شكلي وأفكاري ودائرتي الصغيرة، إلّا وحدتي، رافقتني منذ طفولتي حتّى اليوم، واحتدّت أكثر في ثانويّة البنات الرسميّة، حيث بدا لي كلّ شيءٍ سطحيًّا وفارغًا ومخجلًا. لم أستوعب كيف لفتاة في السادسة عشرة من عمرها أن تجد صعوبة في لفظ اسم تشايكوفسكي، وأن تتنمّر عليّ لأنّني لا أحفظ أيّ أغنية لإليسّا عن ظهر قلب.
بكيت وبكيت حتّى غفوت غارقة بالدموع والمخاط، وكأنّ أحدًا كان ينتزع قلبي ثمّ يعيده، ينتزعه ثمّ يعيده، ينتزعه ثمّ يعيده
أذكر أنّنا كنّا مرّة في طريقنا إلى تعنايل، في حافلةٍ كبيرة، وكنت قد بدأت وقتذاك أكوّن صداقاتٍ لطيفة. كان الجميع يرقص على وقع الأغاني التي يختارونها من “يوتيوب” على هاتفي الموصول على مكبّرات الصوت لأنّه كان معي كثير من “الجيغابايتس”. فجأة، جاءني اتّصال، وكان “نشيد الثورة” نغمة الرنين. صمت الجميع، وقالت إحداهنّ فجأة: “من وضع النشيد الوطني دقّة تلفون؟ ههههههههههههههه”. ضحك الجميع، وضحكت معهم، وحاولت أن أِشرح لهم، مصعوقةً، كم هو محزن ألّا يعلمن من هو زياد، وهذا النشيد بالذات؟ كان هذا الموقف قرصة كتف، أكّدت لي أنّ الوحدة لطيفة أحيانًا، أو أنّ الصداقات البعيدة لا تشكو من شيء.
غارقة بالدموع والمخاط
منذ نحو سنتين، توفّيت خالتان لي خلال فترةٍ قصيرة جدًّا، وكان الأمر صادمًا إلى درجة أنّني لم أستطع البكاء عليهما يوم صار الذي صار. واكتشفت لاحقًا أنّ هذا واحدٌ من أحد أوجه الغرابة الكثيرة التي تسكنني؛ أثبت بينما ينهار الجميع، لأتداعى تدريجًا عندما يبدأون بتمالك أنفسهم. كانت يسرا ضحوكةً جميلةً حُلوة، وكانت ساخرةً ومختلفةً عن أخوتها وأخواتها، لكنّ الأهمّ من كلّ ذلك هو أنّني كنت أخاف من أُصاب لئلّا تنزف. يوم رحَلَت، استحال الهواء مخدّرًا شلّ عضلاتي ومشاعري، ولم أستعد قدرتي على البكاء الحقيقيّ إلّا بعد أيّام. “البكوة” الحقيقيّة والرسميّة لهذه الفاجعة كانت عندما سمعت صوت زياد صدفةً يغنّي:
«أخدوا الحلوين قلبي وعينييّ
أخدوا الليالي اللي عشناها سوا
هجروا الحلوين وما سألوا عليّي
يا مين يرجّع إيام الهوى»
بكيت وبكيت حتّى غفوت غارقة بالدموع والمخاط، وكأنّ أحدًا كان ينتزع قلبي ثمّ يعيده، ينتزعه ثمّ يعيده، ينتزعه ثمّ يعيده. أخذت يسرا قلبي وعيني معها، لكنّها نزعت الخوف من صدري أيضًا، لأنّ ما خفت منه طوال حياتي حدث، وكلّ ما سيأتي لاحقًا مقدورٌ عليه. وبقدر ما أحبّ الأغنية، إلّا أنّني لا أقوى على سماعها بعد الآن، بخاصّة عندما تكون عيناي مثقلتين بالـ “مسكرا”.
كيف أعتذر من زياد؟
تصرّ أمّ كلثوم، في هذه اللحظة بالذات بينما أكتب، على أنّ هذه ليلتها. تصرخ عبر الفونوغراف في غرفة الجلوس وكأنّها تتحدّاني بنيّة طيّبة. فلتسمحي لي اليوم يا أمّ كلثوم، فهذه ليلتي أنا، وليلة عودة أفكاري وقدرتي على التعبير إليّ، وليلة انقشاع طبقةٍ جديدة من القتامة التي أحاول تقشير روحي منها.
هذه ليلتي
وحلم حياتي
أكتب فيها عن الطفلة
والشيخ الذي حاول وضع أصابعه في أذنيها
قبل أن يركله زياد
ويسقيها
قطرة قطرة
من بداعته
ودبلوماسيّته مع الله
قبل أن أكمل، أودّ أن أشكر كلّ من وصل إلى هنا في القراءة، مع أنّني ما زلت لا أدري لمَ قد يهتمّ أحدٌ بمعرفة تأثير شخصيّةٍ عظيمة كزياد على شخصٍ مثلي.
مات البطل، لم أبكِ يوم سمعت خبر وفاته، ولا عندما خرج النعش من مرآب المستشفى، لكنّني بكيت في اللحظة التي لمحت فيها منديل فيروز
مات البطل
بعد سنوات، ابتعدت قليلًا عن زياد لأنّني نفرت من جمهوره الذي بدا لي ثقيل الدمّ، وهو السبب نفسه الذي حال دون رأب الصدع بيني وبين أمّه فيروز أيضًا. بعد كلّ ما مررت به، آخر ما وددت فعله في تلك الفترة كان تقديس الأفراد، ومعاملتهم معاملة الإله الذي تتحوّل كلماته إلى آياتٍ تُرتّل: لا يخطئ، لا يزلّ لسانه، ولا يُنتج إلّا كلَّ جميل. ولكنّني لم أنفر من شخص زياد يومًا، ولطالما شعرت بفضلٍ له عليّ دون أن يخطر لي واحدٌ في المئة من كلّ ما ورد في هذا النص.
مات البطل، لم أبكِ يوم سمعت خبر وفاته، ولا عندما خرج النعش من مرآب المستشفى، ولا عندما عُرض تابوته في الكنيسة عكس قناعاته، لكنّني بكيت في اللحظة التي لمحت فيها منديل فيروز يبرز من السيّارة. كانت سورة الفاتحة تُقرأ من حولي، لكنّ اسطوانة كانت تدور في رأسي من دون توقّف، ترجو وتتحسّر بلسان الأمّ الحزينة:
«يا ريتك مش رايح يا ريت بتبقى، بتبقى ع طول
وأكتب لك ع ورقة حتّى ما قول ما بقدر قول
يا ريتك مش رايح يا ريت بتبقى، بتبقى ع طول…».
تدور وتدور وتدور وتشعرني بالذنب تجاه كلّ الصباحات التي لم أسمع فيها فيروز كلبنانيٍّ “سميك” يدّعي عدم قدرته على بدء يومه قبل أن يسمع صوتها بينما يسكب القهوة في حلقه.
كيف أعتذر لفيروز؟
هذا المقطع الأخير، أكتبه بينما أستمع إلى “هدوء نسبيّ”، الخفيفة والماكرة بشرفٍ كزياد. مع كلّ ضغطة على زرّ بيانو تُفرز دمعة في عيني وأبتسم أكثر. صوت الهدوء مزعجٌ جدًّا وعالٍ، ولم أكن أعرف بصراحة كيف أنهي هذا النصّ، لأنّ لديّ كثير لأقوله، حتّى وقعت عيني على تعليقٍ تُرك على هذه المقطوعة عبر “يوتيوب”، أشاركه معكم، وأسكت أخيرًا:
«استمع للقطعة من الساحل السوريّ الآن في وقت هدوء الرصاص والقذائف،
أشعر بالموسيقى أكثر،
أفهم سبب التسمية أكثر».