هوامش على كلام باسيل في مؤتمر الطاقة الاغترابية في كندا
زهير دبس
مع اختتام أعمال مؤتمر الطاقة الاغترابية بنسخته الكندية لا بد من إعادة طرح السؤال مجدداً عن ماهية تلك المؤتمرات التي بلغ عددها ١٤ مؤتمراً انعقدت على مدى السنوات الخمس المنصرمة في لبنان والمغتربات، وأيضاً عن الجدوى من انعقادها والنتائج التي حققتها والأهم الأهداف والدوافع الحقيقية لانعقادها. حتى الآن ومن خلال متابعة الخطاب السائد واللغة النمطية المتبعة التي وسمت تلك المؤتمرات وخصوصاً لراعيها وزير الخارجية جبران باسيل، نجد أن معظمها ينهل من لغة بائدة عفا عليها الزمن، طوتها الأحداث والمستجدات والمتغيرات الجذرية التي بدّلت من تركيبة لبنان ووظيفته وتكوينه ونظامه السياسي.
هذه اللغة وبالتحديد التي خاطب فيها باسيل المغتربين في كندا لا تجد لها تفاسير في قواميس الأوطان التي تحتضن اللبنانيين هناك، وهم أي (اللبنانيون) ما عادوا كذلك وفق التصنيف اللبناني لهم. فهؤلاء هم مواطنون يحملون جنسيات الدول التي احتضنتهم وأصبحوا أبناءها يعيشون على قدم المساواة مع نظراء لهم لا يفصلهم عنهم دين أو عرق أو مذهب أو قومية. قاسمهم المشترك هو القانون واحترامه، لهم الحقوق نفسها وعليهم الواجبات أيضاً.
ما قاله باسيل في مؤتمر الطاقة الاغترابية في كندا فيه الكثير من المغالاة والتعالي وهو ما نبذته الدول التي تحتضن أولئك المغتربين الذين خاطبهم، وهو قال في افتتاح ذلك المؤتمر ما حرفيته: « لبنانيتنا أعظم من عروبة وعثمانية وفرسنة وصهينة وفرنجة…..، هي شرقٌ ومشرق، هي غربٌ ومغرب، هي شيءٌ من هذا كُلِهِ ولا شيءٌ من هذا، هي الشرقُ والغربُ معاً….هي الفينيقية وأبعد ما في التاريخ، هي المشرقية وأركز ما في الجغرافيا، هي اللبنانية وأعظمُ ما في الإنسان!».
على الأرجح أن ما جاهر به باسيل في المحافل الكندية لا ينطبق والمنابر اللبنانية، فهنا الحسابات مختلفة وجزء كبير من ذلك الكلام يتناقض مع تحالفات تيار الوزير وأدائه السياسي، والتناقض ينسحب على مجمل خطاب الوزير الذي نزع فيه حق الدولة في أبوتها لأبنائها المغتربين عندما قال: « تحول المؤتمر الى مؤسسة جامعة للبنانيين، هي ملك للطاقات اللبنانية أي ملككم أنتم المنتشرين، وليست ملكاً لأحد من الأحزاب أو الطوائف أو حتى الدولة اللبنانية، حيث لا وصاية لها على الإنتشار بل رعاية».
الوصاية وشقيقتها الرعاية اللتان تبقيان عصيتين على التفسير في خطاب باسيل، تبقيان عصيتين أيضاً على تلمس الطريق إلى المغتربين الذين يعيشون أوضاعاً مختلفة كلياً عمّا جاء في خطاب الوزير الذي يبقى أيضاً كلامه عصياً عن ملامستها. وهو ما ترجمته صناديق الاقتراع في مشاركة المغتربين في الانتخابات النيابية والتي جاءت هزيلة نسبة إلى أرقام المغتربين التي يتغنى بها الوزير وفريقه السياسي.
لم يُوضح الوزير كلامه في المؤتمر الكندي عندما قال: « فكأن في لبنان من يسعى لجعله أكثر لبنانية، ومن فيه لجعله أقل لبنانية وأكثر سورية وسعودية وإيرانية وفلسطينية وأمريكية وإسرائيلية…. ».
وتبقى المفارقة الطريفة التي تعكس هشاشة لبنان دولة ومسؤولين في التعامل مع اللبنانيين الموزعين في مختلف أرجاء المعمورة هي خلاف أهل الحكم فيه حول تسمية اللبنانيين في الخارج، فالبعض يريد إطلاق صفة «مغتربين» عليهم والبعض الآخر ومنهم باسيل يريد إطلاق صفة أخرى هي «المنتشرين» وهو ما عبر عنه في خطابه عندما قال: «أسميناكم المنتشرين وليس المغتربين لأنكم وإن كنتم غائبين بالجسد فإنما حاضرين بالروح!».
تبقى العبارة الأشد غرابة والأكثر التباساً والتي غالباً ما يتم التوجه بها إلى المغتربين وهي بأنهم «رفعوا إسم لبنان عالياً». وهنا لا بد من التوقف عند هذا الكلام المجوّف الذي يحمل في طياته الكثير من التعمية، فالانجازات التي يحققها اللبنانيون في العالم هي ملك الدول التي احتضنتهم وأفسحت في المجال لكي يكونوا مواطنين فيها، وهذه الدول وحدها من يحق له أن يرفع رأسه عالياً ويفتخر بتلك الانجازات، ومن كان السبب في هجرة أبنائه وأدمغتهم الخلاقة ليس أمامه إلا أن يطأطئ رأسه خجلاً واستحياءً.
فالجذور التي يتحدّر منها هؤلاء اللبنانيون ليست قيمة مضافة في الدول التي يحلّون بها بقدر ما تبقى «المواطنة» التي منحتهم إياها تلك الدول هي تلك القيمة المضافة، فالمواطنة تعلو ولا يعلوها شيء، والأوطان ليست حفنة من تراب بقدر ما هي منظومة قيم وحزمة قوانين وحقوق وواجبات وأسلوب عيش وفلسفة حياة.
وعليه فإن «الكبة النية» و«التبولة» والتي يُروج لها لكي تكون سفيراً للبنان في الخارج لا تعيد مغترباً أو منتشراً إلى وطنه ولا تستطيع أن تشكل بوابة عبور إلى عقول اللبنانيين بل تبقى قاصرة ولا تستطيع الوصول سوى إلى بطونهم فقط. وهنا لا بد من لفت النظر من أن المطبخ اللبناني التي تسعى مؤتمرات الطاقة الاغترابية لترويجه كسفير للبنان في العالم يعود بمعظمه إلى المطبخ العثماني الذي يحتل حيزاً أساسياً فيه.
يبقى مطلب منح الجنسية للمتحدرين من أصل لبناني بيت القصيد في مؤتمرات الطاقة الاغترابية، والتي تتمحور حوله تلك المؤتمرات
وفي هذا الإطار يخاطب باسيل المغتربين قائلاً: «أصبح لزاماً عليكم أن تراجعوا للتأكد من ورود أسماء آبائكم وأجدادكم، ومحو عذابات الرعيل الأول من مواليد 1890 و1900» وأولادهم من مواليد العشرينات من القرن الماضي». يضيف: «سنبحث عنكم واحداً واحداً، ونُجنسّكم لنحافظ على لبنان».
ويبقى السؤال كيف يستقيم منح الجنسية الذي يطالب فيه الوزير لأبناء المرأة المتزوجة من أجنبي «كذلك خطونا بإتجاه تمكين الأم اللبنانية المتزوجة من أجنبي، من منح جنسيتها لأطفالها ومساواتها بالرجل عبر مشروع القانون الذي تقدمنا به، من دون تعريض لبنان لخطر التوطين عبر الإستثناءات التي وضعناها فيه». وهنا كيف نعطي الحق لأهله من خلال إعطاء المرأة اللبنانية المتزوجة من فرنسي وحرمان نظيرتها المتزوجة من سوري أو فلسطيني وأين وجه العدالة في ذلك! وهل هذا يسمى قانونا عادلا؟!.
عبثاً يفتش معالي الوزير عن المتحدرين اللبنانيين في العالم لمحو عذاباتهم وإعادتهم إلى لبنان، لكن تبقى الطريقة الأجدى والأمثل لإعادة هؤلاء هي بتثبيت المقيمين في لبنان وتوفير الحد الأدنى من مقومات العيش الذي يفتقدونه في وطنهم فيهيمون في أرجاء المعمورة بحثاً عن أوطان بديلة تحفظ كرامتهم وتؤمن لهم العيش الكريم.
مفارقة أخرى في الخطاب الاغترابي تتكرر في معظم المناسبات الاغترابية وأتى على ذكرها باسيل في كلمته بنسختها الكندية عندما خاطب المغتربين قائلاً: «أنتم من تربَّيتُم على حب وطنكم الأم، وإندمجتم في الوطنِ الذي إحتضنكم دون أن تتنكروا لأصولكم، بل حافظتم على خصائصكم وأغنيتم بلدَكُم الأصيل والمضيف.» وهل يصح اعتبار اللبنانيين الذين اكتسبوا جنسية الدول التي حلوا فيها «ضيوفاً» وهل تلك الدول تذيل في الوثائق الشخصية التي تمنحها لمواطنيها عبارة «كندي منذ أكثر من عشر سنوات» وهنا نتساءل عن معنى كلمة «البلد المضيف».
تبقى مؤتمرات الطاقة الاغترابية المتنقلة بين لبنان والمغتربات والانتشار صوت بلا صدى، ولا تؤدي النتيجة المرجوة منها قبل ترميم البيت الداخلي المصدع المنكوب بالبطالة والنفايات وغياب الكهرباء والفساد والفقر والعطش والتلوّث والهجرة والفوضى، وهي لن تستطيع إعادة المغتربين أو المنتشرين إليه بل سيؤدي الخطاب السائد فيها إلى المزيد من موجات الهجرة التي يفتش المقيمون في لبنان عن أقرب الطرق وأصعبها لبلوغها.