هياكل بعلبك وحجارتها بين الزلازل وعهود النهب (1)

من يزر هياكل بعلبك في الوقت الحالي، سائحًا، مستطلعًا، أو مستكشفًا، لن يرى سوى ما بقي منها، بعدما تعرضت إلى كثير من الأهوال. من الصعب أن نتخيّل ما كانت عليه المعابد في ماضي الزمن. عند النظر إلى المخطّط الأصليّ والمنظور الذي رسمه علماء الآثار من زاوية مرتفعة، كما يراه عصفور طائر، لا مناص من أن نُفاجأ، وربّما لا تصدّق أعيننا أنّ “شيئًا” كهذا كان قائمًا ذات يوم.
كي نرى بالفعل ما كانت عليه تلك المعابد العملاقة، علينا أن نعود إلى أكثر من 1600 عام نحو الوراء، حين كانت المجموعة المعماريّة في أبهى حالاتها، وقبل أن تهاجمها الهزّات والزلازل التي أصابت المدينة. يذكر المؤرّخون أنّ إحدى أولى الهزّات المدمّرة حدثت في العام 369، أيّ بعد نحو 100 عام من انتهاء بناء الهياكل.
زلازل قوّضت العظَمة
ثمّ تعاقبت تلك الزلازل خلال الأعوام الفاصلة بين 494 و555. أمّا الزلزال الأخير الذي ضرب البلاد من ضمن تلك السلسلة المذكورة، أيّ في العام 555، فقد هدم بعض مدن الساحل اللبنانيّ، وقوّض أجزاءً مهمّة من المعابد ومن جدرانها، إلى أن جاء زلزال العام 1759 المدمّر، فأطاح بثلاثة أعمدة من تسعة بقيت من معبد جوبّيتير، ليصبح عددها ستّة، وهي التي نراها في الوقت الحاضر.

وإذ شئنا أن نغرق في الخيال، ونتصوّر الهياكل قائمة كما كانت عليه بعد إنجاز جميع مكوّناتها، إثر عمليّة بناء استغرقت ما يربو على 200 عام، منذ منتصف القرن الأوّل الميلاديّ، وحتّى منتصف القرن الثالث بعد الميلاد، نقول لو شئنا ذلك لوقعنا على مشاهد ونسب تفوق الخيال.
كان معبد جوبّيتير يتألّف من 54 عمودًا، بارتفاع إجماليّ مع القواعد وسقفه الهرميّ، ليبلغ 30 مترًا وربّما أكثر، إذا ما احتسبنا السقف الهرميّ. لو وقف الرائي عند عتبة الدرج الرئيس المؤدّي إلى المعبد من جهة الشرق، موليًا ظهره للمذبح، الذي يبعد عدّة أمتار عن الدرج، لوجب عليه أن يلوي رقبته إلى الوراء بزاوية حادّة، ضمن منظور مخروطيّ فريد من نوعه، كي يتمكّن من رؤية النقطة الأعلى من السقف. هذا التفصيل، إضافة إلى تفاصيل أخرى لا مجال لذكرها، نظرًا إلى كثرتها، أضفى على هياكل بعلبك صفة رافقتها منذ زمن طويل: العظمة، هذا في حال أردنا اختصار الصفات كلّها بكلمة واحدة.
حظّ عاثر بقوّة الطبيعة
لكنّ حظّ المعابد كان سيّئًا، كما ذكرنا، ويعود سوء الحظ الذي لحق بها إلى قوّة الطبيعة التي لا تضاهيها قوّة. كانت أجزاء المعابد تتهاوى خلال فترات زمنيّة طويلة، ولا من يكلّف نفسه صيانتها، لما تتطلّبه هذه المهمّة من خبرة وتقنيّات لم تكن متوافرة، إضافة إلى انعدام النيّة في القيام بشيء من هذا القبيل.
عمد المتعاقبون على حكم المدينة إلى نقل الحجارة من المنطقة الأثريّة من أجل استعمالها في مشاريع بناء في المنطقة المجاورة
أكثر من ذلك، فقد عمد المتعاقبون على حكم المدينة إلى نقل الحجارة من المنطقة الأثريّة من أجل استعمالها في مشاريع بناء في المنطقة المجاورة، أو في بلاد أخرى. إذ تفيد بعض المصادر أنّ العثمانيّين، وإبّان سيطرتهم على منطقتنا، منذ العام 1516 وحتّى نهاية الحرب العالميّة الأولى العام 1918، قاموا بنقل حجارة من الهياكل المتداعية إلى اسطنبول من أجل استعمالها في بناء قصور وأماكن دينيّة. أكثر تلك الحجارة كان من الغرانيت الثمين، الذي استورده الرومان من من مصر بهدف استعماله في أعمدة المعابد الصغيرة.
سرقات على مدى قرون
بناء على ما تقدّم ذكره، يمكن القيام بعمليّة حسابيّة بسيطة، من أجل تبيان حجم “السرقات” التي تمّت على مدى مئات السنين، أو، أيضًا، البحث عن جذور ذاك اللغز الذي طالما راودنا. إذ، وعلى سبيل المثال، كان معبد جوبّيتير، الذي تألّف من 54 عمودًا، كما ذكرنا، وكلّ واحد من هذه الأعمدة يتألّف من ثلاث قطع، فسيكون عدد القطع التي استعملت في إقامة المعبد (54 x 3) ما يساوي 162 قطعة، يضاف إلى ذلك الكورنيش الذي توّج الأعمدة من الجهة العليا.
أمّا ما نراه في الوقت الحاضر فهي الأعمدة الستّة، وبعض قطع الأعمدة القليلة الموجودة على أرض المعبد أو تحت قاعدته، إلى جزء أو جزئين من الكورنيش، يرتاح أحدها عند قدم الأعمدة الستّة، وهو الذي يضمّ رأس أسد فاغرًا فاهه، ينزع السيّاح إلى التقاط صور بالقرب منه، من دون أن يعلم كثيرون منهم أنّ فم الأسد ما هو إلاّ عبارة عن فتحة مزراب كانت تتسرّب منها المياه المتساقطة، ذات يوم، من سقف المعبد. دليل آخر على العظمة، وعلى كيفية تجيير عنصر زخرفيّ من أجل مهمّة وظيفيّة.
أمّا في ما يخصّ البهو الكبير، القائم أمام معبد جوبّيتير لجهة الشرق، فقد ضمّ ما لا يقل عن 150 عمودًا من الغرانيت، بارتفاع نحو ستّة أمتار لكلّ عمود. ما بقي من هذه الأعمدة لا يتعدّى الـ 10. إلى هذا كلّه، لا بدّ من أنْ نضيف أنّ عشرات التماثيل التي انتشرت في جميع أنحاء الهياكل، لم يبقَ منها سوى عدد قليل متضرر بفعل الزمن، وهي محفوظة في المتحف، الذي أقيم في العام 1988، في القبو الذي تقع فوقه ممرّات البهو الكبير.
معجزات العمارة الرومانيّة
حين زار إمبراطور ألمانيا غليوم (فيلهلم) الثاني بعلبك، خريف العام 1898، وهو في طريقه إلى القدس (هذا حديث آخر لن نطيل الكتابة عنه) أعجب بما بقي من الهياكل، وكانت آنذاك في حال مزرية نظرًا إلى الإهمال الطويل، فأوفد بعثة علميّة بعد عودته إلى ألمانيا من أجل القيام بأبحاث ودراسات تهدف إلى وضع رسوم ومخطّطات لترميم المعابد ومحيطها.
ويعود الفضل إلى عمليّات الترميم هذه التي بدأها الألمان وأكملها الفرنسيّون، واستمرّت طوال النصف الأوّل من القرن العشرين، أو حتّى أربعينيّاته على الأقلّ، نقول إنّ عمليّات الترميم هذه تتيح لنا رؤية أجزاء من المعابد على النحو التي هي عليه في الوقت الحاضر.
بدأ بعدها تدفّق السيّاح من أنحاء المعمورة، من أجل الإطّلاع على إحدى معجزات الهندسة المعماريّة الرومانيّة، وقد اتّخذت المعابد شهرة واسعة، جرى استعمال دلالاتها، من تحف معماريّة مادّيّة في الأدب والشعر والتاريخ، وحتّى في بعض الأمثال الشعبيّة البعلبكيّة، وهذا أمر سنتحدث عنه في الجزء التالي من هذه المقالة.