وأخيرًا زرت سوريّا

صبيحة الثامن من كانون الأول (ديسمبر) الجاري، استيقظتُ من نومي، لم يكن الطقس باردًا، كما هو حال بلدتي الجبليَّة النائية في هذه الأيّام من السنة، الحرارة مرتفعة جدًّا وسْطَ موجة ضجيج هستيريّة، إطلاق أعيرة ناريَّة وأبواق سيارات جنونيَّة، مفرقعات كثيفة، أصوات الدرّاجات الناريّة تصمّ الآذان، زحف بشريّ كثيف إلى الشوارع، أبناء بلدتي وساكنو مخيّمات اللاجئين السوريّين فيها، يركضون إلى الساحة وسط البلدة، المشهد كأنّه يوم القيامة، سارعتُ باحثًا عن هاتفي، شغّلت التلفزيون، ووقفت متسمّرًا أمام شاشته، أقرأ ولا أصدّق، أُحَدِّق جيّدًا، رأيت الخبر العاجل “لقد سقط بشّار الأسد”.

بالتأكيد كثيرون مثلي، تَسَمَّروا أمام الشاشات، لا يصدّقون ما يشاهدون، كيف فَرّ؟ إلى أين؟ متى؟ أسئلة تتراكم في البال بسرعة الضوء، أمّا إجاباتها فتزحف بطيئة كسلحفاة.

أولَ ما خطر ببالي، أنّني سأزور سوريّة، أنا الممنوع من دخولها منذ قرابة 20 عامًا، عندما شاركت في تظاهرات “14 أذار” وما تلاها من أنشطة سياسيَّة تطالب بخروج قوَّات بشّار من لبنان، علمًا أنّني لم أزرها سوى مرّةٍ واحدة في رحلة مدرسيّة.

الآن الآن وليس غدًا، سنشارك الشعب السوريّ فرحة الحرّيَّة والتحرّر والإنعتاق من نير الظلم والطغيان، مشاهد لا يمكن وصفها أو كتابتها، مشاهد يستحيل على الإنسان نسيانها ولو عاش عُمْرَ نوح.

في حمص مع طفلة سورية

عند وصولي رفقة صديقٍ إلى مدينة القُصَيْر بدا حجم الدمار مهولًا، كارثيًّا، هل عاد هولاكو من كتاب التاريخ؟ حجم الركام والدمار برهان ساطع على حقيقة هذا النظام المجرم وجنوده وعسسه، وإلّا كيف يمكن لمسؤول أو ضابط أو جنديّ أن يحيل بيوت بلده وأهله إلى أثرٍ بعد عين؟ كيف يستطيع دفن الذكريات في مقابر الحقد والضغينة؟

“هذا مفرق شنشار ومنه إلى حمص” قالها صديقي وقائد رحلتي الأولى إلى حمص العديَّة، مدينة ابن الوليد خالد، المدينة الجميلة الهادئة الرائعة، المدينة التي حاول الطُغَّاة استبدال حمَامِها ويَمَامِها وحساسينها بالغربان والبوم كي تعشعش بين ركامها، لكن هيهات للظلم أن يقتل أصوات الحرّيَّة، غناءها ولحنها الجميل، حتّى لو اقتلع حناجر القاشوش والثوَّار.

في حمص رأيت الفرح يتراقص طفلًا صغيرًا يغنّي للحرّيَّة دون أن يفقه معناها، رأيت الفرح في بسمة صبيّة، تتمايل مع الأغاني الثوريّة تتوق إلى حرّيّة القلب والروح والعينين، رأيت الفرح في دمعة عجوز مُسِنٍّ يذرفها حزنًا على عُمْرٍ ضاع  في خَوفٍ من “الحيطان إلها أدان”، ثمَّ يعود ليكفكفها فرحًا بأبنائه وأحفاده الذين سيعرفون طعم الحرّيَّة، ويكبرون في كنفها.

نستحق الحياة

الجميع يريد سوريّة لكلّ السوريّين، بلا أحقاد، بلا مقابر جماعيَّة، بلا انتقام، بلا خوفٍ ورعب، بلا سجون، بلا تقارير المخبر السرِّيّ، وبلا دم وموت ودموع، الجميع يتوق إلى الحياة والطمأنينة، “نحن نستحقّ الحياة بفرح مثل كُلِّ البشر” قالها لي شابّ عشرينيّ.

ساعات قليلة في شوارع حمص المٌحَرَّرة، تعادل في مشاعرها، كُلّ ما يمكننا قراءته في الكتب، عن كسر أبواب الباستيل، عن لوثر كينغ وثورته لأجل أصحاب البشرة الداكنة، عن مانديلّا وتسامحه مع سجّانه، مشاعر ربّما عشناها بشكل مُصَغّٰر في نيسان (أبريل) العام 2005 حين غادرت القوَّات السوريّة بلدنا لبنان على الجثث والأشلاء والدموع.

الجميع يريد سوريّة لكلّ السوريّين، بلا أحقاد، بلا مقابر جماعيَّة، بلا انتقام، بلا خوفٍ ورعب، بلا سجون، بلا تقارير المخبر السرِّيّ، وبلا دم وموت ودموع، الجميع يتوق إلى الحياة والطمأنينة

رحلة السَّاعات في أجواء الحرّيَّة، لم نعد منها بدون مخزون عاطفيّ “زوّادة”، فقد تخلّلها مشهد هوليوديّ مفاجئ، جميل بصدقه ونبله ورفعة معانيه، في الأُخُوَّة الإنسانيَّة، حين وصلنا إلى حاجز للثوَّار “الهيئة”، سألونا من أين أتيتم؟ عند إجابتنا طلب منّا المسؤول بكلّ لطف “التَّرَجّل قليلًا” وصرخ برفاقه “لعيون عرسال وشباب عرسال” فأطلق الجميع نيران بنادقهم في الهواء إحتفاءً بنا ومساندتنا ثورة الشعب السوريّ، مشهد لم نتخايله للحظة، مشهد يستحيل على المرء حبس دمعته حين حصوله.

عند المغيب اتّجهنا صوب الحدود، لكنّنا سنعود حتمًا إلى سوريّا الحُرَّة، سوريّا التاريخ والحضارة، سوريّا الحضن العربيّ الطبيعيّ لكلّ لبنانيّ، سنعود بلا منع دخول، بلا واسطة، بلا كذبة البطاقة الحزبيّة، وتصريح الخطّ العسكريّ، عند الحدود قلت لصديقي “أخيرًا زرت سوريّا، سنعود إليها حتمًا، حتمًا سنعود، سنعود”.

في إحدى ساحات حمص

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى