وادي الحجير ذاكرة الجنوب محفورة في الماء والحجر

في الجنوب اللبنانيّ، بين أقضية بنت جبيل، مرجعيون والنبطية، يمتدّ وادي الحجير كجُرح أخضر عتيق، يسيل من ينابيع الذاكرة والماء، ويتفرّع بين تاريخ من المحطّات، وتراث من السهَر والمطر والقمح. حين يُذكر اسم “وادي الحجير”، تقفز إلى الذهن صورتان: مؤتمر وادي الحجير (1920) برعاية السيّد عبدالحسين شرف الدين في لحظة مصيريّة ترافقت مع إعلان ولادة دولة لبنان الكبير، وحرب تمّوز (يوليو) 2006 حين تحوّل الوادي إلى مصيدة لدبابات الميركافا. لكن، ما بين هذين الحدثين، وما بعدهما، هناك ما هو شديد الأهمّيّة: إرث مائيّ، تراث معماريّ، ذاكرة زراعيّة، وجمال بيئيّ طبيعيّ عصيّ على التكرار.
مسرح من صخر وماء
يتدفّق وادي الحجير من “رأس النبع” في وادي السلوقي، ويصبّ في نهر الليطاني عند جسر القعقعيّة. وهو ليس مجرّد أخدود طبيعيّ، بل مسرح مفتوح لأشكال الحياة. الأشجار فيه تكاد أن تكون شخوصًا في مشهديّة متواصلة منذ قرون: سنديان شامخ، زيتون معمّر يتجاوز عمره الـ 300 سنة، خرّوب، كينا، صنوبر… تنبت كلّها في حضن الصخور، وتختبئ بينها نباتات طبّيّة وعطريّة نادرة، لا تزال تُجترح من تربتها وصفات البقاء.

الوصول إلى قلب هذا الوادي يتطلّب مغامرة، فطبيعته الوعرة وقنابله العنقوديّة غير المنفجرة جعلت مساحات واسعة منه محميّة حذرة ومحظورة، عذراء في الجغرافيا والتاريخ. هكذا حافظ الوادي على تنوّعه البيولوجيّ، بما فيه من حيوانات برّيّة مثل الثعلب والنيص ، والخنزير البرّيّ، وكأنّ الأرض قرّرت أن تصون نفسها بنفسها.
حين كانت الرحى تغنّي
في قلب الوادي، وعلى ضفاف ينابيعه، تنتشر مجموعة طواحين حجريّة قديمة، بعضها لا يزال يقاوم الزمن، والبعض الآخر تحوّل إلى ركام حجريّ تغمره الذكريات. لم تكن هذه الطواحين آلات وحسب، بل كانت مراكز حياة، أماكن تطحن القمح وتجمع الناس، تغزل القصص مع البرّاك الذي يتقاضى أجره حصصًا من القمح.
أمّا الطاحونة القديمة، التي كانت تديرها الماء وليس الكهرباء، فكانت تتكوّن من حجرَي رحى، أحدهما ثابت والآخر يدور بفعل ضغط الماء المنساب من “البئر” إلى “الكوّة”، كي يدير العمود المتّصل بالرحى العلويّة، فتتحوّل الحبوب إلى طحين، أو برغل بحسب الطلب. كان القادمون من القرى المجاورة – بل وحتّى من شمال فلسطين– يأتون بالبغال المحمّلة بالحبوب، ويمكثون أيّامًا وربّما أسابيع، حيث توافرت شروط الإقامة الطبيعيّة: ماء وغذاء وظلال وقصص لا تنتهي.
في كلّ طاحونة “برّاك”، هو مسؤول التشغيل، يعاونه “نديش” يأخذ “كمشة” من القمح دون اعتراض. الصبايا والنساء يشاركن في زراعة “الصحرا” وجمعها، في الخَبز والضيافة، في الغسيل عند مجرى النبع، في رواية القصص، وربّما في صنع الحكاية نفسها.
الطاحونة مسرح خيال
كانت طاحونة “الرمّانة”، الواقعة ضمن نطاق بلدة القنطرة، الأكبر، وتحوّلت منذ سنوات إلى متنزّه تُقام فيه مهرجانات فنّيّة وسياحيّة تستقطب مئات الزوّار، في محاولة لردّ الاعتبار إلى التراث، دون أن يُحوَّل إلى سلعة مبتذلة. طواحين “العين”، “الجديدة”، “أبو شامي”، “السمحاتيّة”، و”الصفرا” وغيرها كانت تشكّل معالم طريق لمجموعات بشريّة تسير كلٌّ وفق طريق “قادوميّة” خاصّة بها. الطاحونة لم تكن ملكًا لساكنيها، بل في الغالب لأحد الإقطاعيّين، وكان على القرويّين أن يخدموا فيها مقابل الطحين، دون أن تنطفئ روح الألفة والمشاركة.
في قلب الوادي، وعلى ضفاف ينابيعه، تنتشر مجموعة طواحين حجريّة قديمة، بعضها لا يزال يقاوم الزمن، والبعض الآخر تحوّل إلى ركام حجريّ تغمره الذكريات.
لم تكن الطواحين أماكن إنتاج وحسب، بل محطّات أسطوريةّ أيضًا. فقد راجت قصص الجنّ، والكنوز المدفونة، والأفاعي التي تحرس الذهب، خصوصًا بعد هجرتها وخرابها في بعض الفترات. وكان الصوت المنبعث ليلًا من بين الجدران المهجورة يُنذر بشيء غامض. فالطواحين كانت تبنى عند اطراف القرى قريبة من عيون الماء، وتفاديًا للاصوات العالية التي تحدثها، لذلك كان يسهل على الناس نسج الحكايات مع سماع أيّ أصوات ليليّة، وغالبًا هي أصداء أعراس من قرى بعيدة.
توأمة الماء والحجر
في العام 2010، تمّ إعلان وادي الحجير محميّة طبيعيّة. من مجرى نهر الليطاني في قعقعيّة الجسر شمالًا، إلى بلدة عيترون جنوبًا، ينسج الوادي جسده الأخضر على مساحة شاسعة تضمّ تنوّعًا طبيعيًّا، بيئيًّا وأثريًّا استثنائيًّا. إلى جانب الطواحين، يتسرب الوادي نحو قلعة “دوبيه” الصليبيّة في بلدة شقراء، بأبراجها وغرفها وخزّاناتها المائيّة، وكلّها شواهد صخريّة على أنّ الجنوب لم يكن أرض مقاومة فقط، بل أرض حضارة متجذّرة في أعماق التاريخ.

هذا الوادي يحتاج اليوم إلى أكثر من إعلان “محميّة طبيعيّة”؛ يحتاج إلى عناية حقيقيّة بطواحينه، ترميمها وإدخالها في لائحة الجرد الأثريّ، حماية أشجاره من القطع، ومياهه من التلوّث، وتاريخه من الطمس. لأنّ وادي الحجير، ببساطة، هو مرآة جبل عامل، مرآة تنعكس فيها صورة الجنوبيّ: عنيد كالصخر، نقيّ كماء النبع، ودافئ كقهوة البرّاك عند مدخل الطاحونة.
على دروب المحميّة
ضمن دروب الجنوب المكلّلة بذاكرة الطبيعة والمقاومة، تأسّست محميّة وادي الحجير بوصفها مساحة حرّة للبيئة، وللجمال البرّيّ الذي لم يُفسده العمران بعد. وجاء هذا التأسيس بموجب قرار تشريعيّ يُنظّم وجودها على أراضٍ مملوكة للدولة وأخرى من مشاعات القرى المحيطة، تمتدّ من مجرى نهر الليطاني عند قعقعيّة الجسر أسفل مدينة النبطية، حتّى تخوم بلدة عيترون في قضاء بنت جبيل، وعلى تماس مع حدود القرى الريفيّة العتيقة: القنطرة وعلمان والغندوريّة ومجدل سلم وقبرّيّخا وتولين والطيبة.
هدف هذا الإعلان لم تكن غايته فقط الحفاظ على رقعة خضراء، إنّما جاء تأسيس المحميّة دفاعًا بيئيًّا متقدّمًا عن النظام الطبيعيّ في المنطقة، في محاولة لإحياء التوازن الإيكولوجيّ، وصون الأشجار والنباتات والطيور والحيوانات المهدّدة، والموارد الطبيعيّة من تربة ومياه عذبة. هي إلى كونها حرزًا للطبيعة من الانقراض والتلوث، حقل مفتوحٌ للبحث العلميّ، ومتنفّسٌ للسياحة البيئيّة الهادئة التي تحترم روح المكان.
لائحة القوانين والوصايا
لتحقيق هذا الهدف، تنصّ القوانين على جملة من المحظورات والإجراءات الصارمة: يُمنع قطع الأشجار أو استغلالها صناعيًّا، كذلك يُمنع دخول المواشي حفاظًا على التربة والنباتات. ويُحظر أيضًا نزع أيّ من عناصر المحميّة، من الحجارة إلى الزهور، مرورًا بالبذور والأسمدة الطبيعيّة، باستثناء ما يخدم البحث العلميّ. كذلك، يُمنع إشعال النار، أو التخييم، أو الصيد، أو رمي النفايات، أو الإتيان بأيّ فعل يخرّب التوازن الطبيعيّ أو يشوّه المشهد.
وفي حال المخالفة، يُصار إلى مصادرة الأخشاب والأعشاب المستخرجة، وتُفرض غرامات وحبس ربّما يصل إلى سنتين، بحسب نوع المخالفة وخطورتها. ويُعاقب من يُدخل ماشيةً بغرامة على كلّ رأس وحبس يمكن أن يمتدّ إلى ستّة أشهر، ويُشدّد العقاب في حال إشعال النار أو الإضرار بالبنية الطبيعيّة للمحميّة.
ولضمان تنفيذ هذه البنود، أنشئت لجنة من سبعة متطوّعين بقرار من وزير البيئة، خمسة منهم من أبناء القرى المجاورة، واثنان يمثّلان الجمعيّات البيئيّة والمجتمع المدنيّ والمتخصّصين. تُعنى اللجنة بحماية المحميّة، وتُعيّن فريق عمل ونواطير، وتُشرف على أعمال الصيانة والعلاج البيئيّ، وتمثّل المحميّة قانونيًّا وإداريًّا أمام الجهات الرسميّة. كذلك يمكنها، بعد إعلام الوزارة، قبول الهبات والمساعدات المخصّصة للحماية البيئيّة.