واقع النحل المرير في البقاع الشماليّ.. تحدّيات لأجل البقاء
مع إطلالة شهر أيلول (سبتمبر) من كلّ عام، يتحضّر النحّالون في البقاع الشماليّ إلى قطاف عسلهم الخريفيّ، قبل أن يشرعوا بنقل قُفْران نحلهم، نحو أماكن أكثر دفئًا، هربًا من صقيع الشتاء وخُلُوِّ الجرود من النباتات والزهور التي تُشَكّل الغذاء الطبيعيّ للنحل.
مشاكل وحلول وتقديمات
حول واقع قطاع النحل في منطقة شرق بعلبك يقول رئيس المركز الزراعيّ في عرسال الطبيب البيطريّ علي الفليطي في حديث لـ “مناطق نت”: “للأسف واقع النحل في مجمل محافظة بعلبك الهرمل ليس كما يجب، التقصير مشترك من الدولة والمواطن، نحن منطقة زراعيّة بالكامل، تعاني غياب الرؤى والخطط الإنمائيّة الفعليّة على صعيد الدولة، لكن بالمقابل ماذا يفعل المواطنون والبلديات؟ لا شيء، لا يكفي لوم الآخرين دائمًا دون أخذ زمام المبادرة”.
ويعطي الفليطي مثلًا عن بلدته، فيشير إلى أنّ “بلدة عرسال كبيرة، يقارب عدد سّكانها الـ40 ألف نسمة، غالبيتهم مزارعون، فيها حوالي 65 نحّالًا بشكل ثابت، لديهم قرابة 1200 قفير نحل، يُضاف إليهم ما بين 15 و20 نحّالًا موسميّين، عندهم نحو 150 قفيرًا، فهل هذا الأمر صحيّ زراعيًّا؟”، يسأل الفليطي ويجيب “بالطبع لا”، فالرقم متواضع.
حول تقديمات وزارة الزراعة ومساعدتها النحّالين بما يؤمّن استمراريّتهم يقول الفليطي: “واقع الدولة نعرفه جميعًا، حتّى قبل الأزمة التي بدأت العام 2019 لم يكن الاهتمام بالمنطقة كافٍ فعليًّا، فما بالك الآن والأزمة تتفاقم؟ الدعم الرسمي غير متوافر، لكن بالتعاون مع بعض الجهات المانحة والمنظّمات نستطيع بين الفينة والأخرى تأمين دعم للمزارعين ومُرَبّي المواشي، ومن ضمنهم مُرَبّو النحل، كما حصل مع منظّمة الـ”فاو” منذ سنتين، حيث تمَّت مساعدة 600 شخص بمبلغ 300 دولار لكلّ منهم بدل دواء وأعلاف”. ويقول الفليطي: “بالطبع هذا الدعم غير كافٍ، لكن بغياب خطّة متكاملة مشتركة بين الوزارة والبلديّات يبقى الكحل أشفى من العمى”.
مقترحات تحسين القطاع
عن مشاكل قطاع النحل والحلول المقترحة لتحسينه يشرح الفليطي إلى أنّ “المشاكل متعدّدة وكثيرة، تبدأ من الأمراض، خصوصًا مرض “الفاروا” الذي يَفتك بالنحل، ومن ثمّ الرشّ العشوائيّ للمبيدات الزراعيّة وهو الخطر الأكبر فعليًّا، والرعي الجائر وضمور المراعي الطبيعيّة، إضافة إلى غياب زراعة النباتات العطريّة التي تُشَكِّل مصدر غذاءٍ أساسيّ للنحل، وأيضًا غياب المعرفة العلميّة والكفاءة العمليّة لمعظم النحّالين، وصولًا إلى التغيير المناخيّ وما يشكّله من تبعات مُضِرَّة على النحل”.
أمّا عن الحلول المقترحة لرفع مستوى القطاع وتأمين استمراريّته وتطوّره يقترح الفليطي عديدًا منها “التواصل بين المزارع والنحّال قبل الرشّ، واستعمال المبيدات المُوصى بها علميًّا، ومن ثمّ إقامة دورات تعليم وتدريب تهدف إلى توعية النحّالين حول العمل السليم في العلاج والغذاء وانتقاء المراعي، ومنها كذلك فتح أسواق خارجيّة لتصدير العسل اللبنانيّ، ومنع دخول العسل الخارجيّ خصوصًا وأنّ معظمه مغشوش وزهيد الثمن”.
علي الفليطي: المشاكل متعدّدة وكثيرة، تبدأ من الأمراض، خصوصًا مرض “الفاروا” الذي يَفتك بالنحل، ومن ثمّ الرشّ العشوائيّ للمبيدات الزراعيّة وهو الخطر الأكبر فعليًّا
النقابة المرشدة
“نقابة النحّالين في محافظة بعلبك الهرمل تسعى جاهدة لإبقاء هذا القطاع صامدًا على رغم الظروف الصعبة، فهي لم تستسلم أو تتوقّف عن العمل”. بحسب نقيب النحّالين محمّد العوطة لـ “مناطق نت”، ويضيف: “تربية النحل في محافظة بعلبك الهرمل تمرّ بظروف صعبة لأسباب عدّة، أوّلها الواقع الاقتصاديّ السيّء الذي يمرّ به الوطن، ما يؤثّر سلبًا في الوضع الزراعيّ بالعموم وخصوصًا تربية النحل، إذ توقّفت وزارة الزراعة عن الدعم وتقديم المساعدات وأهمّها الأدوية التي تكافح الأمراض، ومنها آفة “الفاروا” التي تقضي على النحل، وثانيها الظروف المناخيّة التي أثَّرت في الإنتاج فتراجع هذه السنه بنسبة 75 في المئة، ووصل إلى درجة عدم قدرة النحّال على استرداد المبالغ التشغيليّة التي دفعها على منحلته، من هنا أتت النقابة”.
يتابع العوطة: “نتيجة الظروف المذكورة، بادرت النقابة في بعض البلدات بالتعاون مع بلديّاتها، إلى تقديم الدواء، وتعميم وشرح الإرشادات الطبّيّة للنحّالين حول أهمّيّة معالجة المناحل، وضرورة تزامن العلاج بالقدر الممكن. كذلك أقمنا ندوات ودورات تدريبيّة، هدفت إلى تمكين النحّالين من كيفيّة عمليّة مذوّبات الشمع، بحيث يستطيع النحّال تذويب الشمع الأسود لإعادة طبعه واستخدامه”.
ويختم العوطة: “نتواصل مع وزارة الزراعة وبلديّات المحافظة، بهدف مكافحة استخدام المبيدات الحشريّة في الربيع، عند تَفَتُح أزهار الأشجار والنباتات الزاهرة، كذلك نتواصل مع متخصّصين في تربية النحل، لتشخيص الأمراض التي تصيب المناحل وكيفيّة علاجها. ونسعى لإنشاء تعاونيّات في المحافظة تعمل على تطوير القطاع، وتساهم في تأصيل النحل ورفع جودة العسل وتأمين أسواق خارجيّة له، كذلك محاربة الغشّ والعسل المهرّب، ومعرفة وتوثيق مصدر المنتج المعروض في السوق بعد فحص عيّنات منه في المختبرات، ما يُسَهِّل علينا تحديد الجهة التي تقوم بالغشّ وتحميلها المسؤوليّة القانونيّة في ضرب القطاع ومصدر رزق العاملين فيه”.
الأسعار والمنافسة
حسب النَحَّالين فإن سعر العسل تُحدِّدَه عدّة عوامل، منها نوعيّة المراعي والزهور وما إذا كانت بعليّة أو مرويّة، جودة العسل وخُلُوِّه من الُسكَر، أيضًا الحائز منها على شهادة جودة مخبريّة، كذلك آليّة العرض والطلب والتصدير، يبدأ سعر كيلو العسل الصافي بـ 30$ ويصل لـ 45$، فيما المغشوش يُبَاع بأسعارٍ زهيدة. أمَّا موضوع المنافسة الخارجيّة والتهريب فتسعى النقابة دائمًا بالتعاون مع الوزارة والجهات المختصة إلى محاربته قدر الإمكان، خاصةً أن أغلب كميات العسل المُهَرَّب مغشوشة ورديئة الجودة والنوعية وتسيء للعسل الوطني.
النحل ضرورة لتلقيح الكرز
لا تقتصر منافع النحل على إنتاج العسل وتشكيله موردًا اقتصاديًّا فحسب، بل يتعدّاه إلى خلق توازن بيئيّ طبيعيّ، إذ يساهم النحل في تلقيح زهور النباتات والأشجار المثمرة.
حول هذا الموضوع يتحدّث رئيس التعاونيّة الزراعيّة في عرسال أحمد الفليطي إلى “مناطق نت” قائلًا: “بالنسبة لمزارعي الكرز عمومًا ونحن كتعاونيّة خصوصًا، نعرف أنَّ النحلة هي من أهمّ عوامل تلقيح الأشجار المثمرة، خصوصًا أشجار الكرز، لأنّ معظم أصنافها لا تتلقّح ذاتيًّا، ويؤكّد الخبراء أنَّ النحل ضروريّ لإتمام هذه العمليّة، لذلك نطالب دائمًا كمزارعين بضرورة تنظيم عمليّة الرعي في الجرود وبين البساتين، عبر التواصل بين النحّالين من جهة ومزارعي الكرز من جهة ثانية، لا سيّما أنّ معظم النحّالين إن لم نقل جميعهم هم أيضًا مزارعو أشجار مثمرة”.
يضيف الفليطي: “بخصوص المراعي، على رغم غنى الطبيعة بها، إلّا أنَّها تتعرّض للتدهور نتيجة عمل المقالع، وفقدان الأشجار البرّيّة المثمرة، بسبب أعمال القطع العشوائيّ المخالف للقانون، كذلك الرعي الجائر من قطعان الماشية، ممّا يساهم في تقليص مساحات رعي النحل”.
ويشير الفليطي إلى “أنّنا كتعاونيّة تقدّمنا بمجموعة مقترحات يجري العمل عليها، أهمّها إنتاج النباتات الطبّيّة والعطريّة من خلال إنشاء مشتل وحقل أمّهات، وأيضًا زيادة المساحات المزروعة بها عند المزارعين، بالتعاون بين جمعيّة التنمية الريفيّة وجمعيّة يوحنّا بولس الثاني، إضافة إلى لفت نظر المجتمع إلى أهمّيّة هذه الزراعة، من خلال ورش عمل عديدة ولقاءات جرت ويجري العمل عليها”.
يختم الفليطي: “لاستفادة المزارعين بشكلٍ أكبر، يجري العمل على إقامة مركز تقطير للزهور في بلدتنا، بشراكة ثلاثيّة بين جمعيّة التنميّة الريفيّة والتعاونيّة الزراعيّة وجمعيّة يوحنا بولس الثاني”.
النحل مورد اقتصاديّ
بعض النحّالين هم مزارعون بالأصل، أو أصحاب مهن أخرى، أرادوا من خلال عملهم في النحل توسيع مصادر دخلهم وتنويعها، في غياب كامل- ربّما مقصود- للدولة، كذلك فإنَّ بعض النحّالين يعتمدون على إنتاج العسل كمورد اقتصاديّ وحيد يتعيّشون منه.
حيدر العاشق دركيّ متقاعد، ابن بلدة العين البقاعيّة، وأحد كبار النحّالين في البقاع الشماليّ. يقول في حديث مع “مناطق نت”: “بدأت قصّتي مع النحل من باب الهواية والإعجاب بطريقة حياة النحل، فهي كمملكة مُنَظَّمة جاذبة للفضول وحُبّ الاكتشاف، لكن مع الوقت وازدياد معرفتي واكتساب الخبرة اللازمة، اتّجهت إلى اعتماده مورد رزق دائم، منحلتي تأخذ الجزء الأكبر من وقتي وعملي، إنتاجي السنة الماضية تخطّى الطنّ من العسل الصافي، هذه السنة لم يكن الإنتاج كما نتمنّى، فقد تأثَّر النحل بتغيير المناخ، لكن الحمد لله فهذه رزقة، وبالتأكيد سوف أستمرّ في منحلتي وأعمل على تكبيرها، بعد انهيار قيمة الليرة وتبخّر الودائع والرواتب، فكانت المنحلة بمثابة المنقذة وبوابة المعيشة”.
حيدر العاشق: هذه السنة لم يكن الإنتاج كما نتمنّى، فقد تأثَّر النحل بتغيير المناخ، لكن بالتأكيد سوف أستمرّ في منحلتي وأعمل على تكبيرها، بعد انهيار قيمة الليرة وتبخّر الودائع والرواتب، فكانت المنحلة بمثابة المنقذة وبوابة المعيشة.
بسؤاله عن تشجيع دخول نحّالين جُدُد يرد العاشق: “تشجيع كلمة صغيرة، أنا أؤيّد وأدعم وأساند كلّ من يستطيع القيام بأعباء النحل، خصوصًا المزارعين والشباب الصغار، حتى لو بقفير واحد، وأدعوهم للتوجّه نحو هذا القطاع لأنّه يُشَكِّل موردًا اقتصاديًّا فعليًّا إذا ساروا وفق إرشادات الخبراء والأطبّاء، وعملوا بضمير وابتعدوا عن الغشّ”.
موسم النحّالين هذا العام للنسيان، المهمّ أن تتحرّك وزارة الزراعة، كذلك البلديّات بالشراكة مع النقابات والتعاونيّات، لدعم النحّالين وتمكينهم من الاستمرار ومدّهم بأسباب البقاء، كي ينتعش هذا القطاع مجدّدًا في المواسم المقبلة.