وحدة جندريّة في أرض الطفّار.. بلديّة الخضر نموذجًا

الإعلان عن تأسيس وحدة جندريّة في بلدة الخضر في منطقة بعلبك، لا يُعتبر مفاجئًا بقدر ما هو لافت في منطقة طرفيّة نائية تعاني التهميش المزمن، وتغلب على علاقاتها الاجتماعيّة الطبيعة العشائريّة والعرف الذكوريّ.

إنّ تأسيس الوحدة لم يسقط من مظلّة، بل أتى ضمن سياق طويل من العمل مهّدت له ابنة البلدة الناشطة النسويّة الدكتورة علوم عودة، التي اخترقت لائحة العائلات المدعومة من الأحزاب في الانتخابات البلديّة الأخيرة، وأثمرت تأسيس تلك الوحدة التي بادرت شقيقتها الناشطة تحرير عودة إلى اقتراحها ليتلقّفها المجلس البلديّ وتصبح واقعًا حقيقيًّا، إنّها مبادرة غير مسبوقة كسرت الصمت وأعادت تعريف دور النساء في منطقة طالما وُسمت بالعشائريّة والطفّار.

التحدّي أو السؤال الذي يُطرح، كيف للنساء أن يفكّرن وينفّذن مباردات ذات بُعد جندريّ، كالوحدة الجندريّة في منطقة طرفيّة، تحكمها خصوصيّات وأعراف غالبًا ما تتعارض مع المفاهيم الجندريّة؟ وماهي التحدّيات التي يواجهنها في مجتمع أبويّ، لا يرى في النساء سوى أجساد منزوعة الفكر؟ وكيف يمكن أن تعمّم هذه التجربة إلى بلديّات أخرى في بعلبك الهرمل، لتصبح مدخلًا إلى تغيير أوسع في بنية سلطة البلديّات، التي بدورها يمكن أن تُحسّن من شروط التنمية المحلّيّة؟

في أرض الطفّار

تاريخيًّا، لطالما ارتبطت منطقة بعلبك الهرمل بالعشائر والطفّار، إذ حكمها قانون العرف الذكوريّ الذي سجن أبناءه وبناته، في ظلّ دولة نأت بنفسها عنهم على مدى سنوات طويلة. هذا العرف شكّل دستورًا غير مكتوب ينصاع له الجميع، من يقرّر عصيانه، ذكرًا أم أنثى، يُحكم بالعقاب الصارم. لا يخفى ما تعانيه هذه المنطقة من هشاشة السياق على مختلف الصعد المعيشيّة، ما جعل سطوة العشائر والأحزاب لاحقًا القوّة الوحيدة، التي تساهم في استدامة حال نزاع دائم مع الدولة، أو في كثير من الأحيان في ما بين العشائر نفسها. وقد نتج عن هذا النزاع، حلقة عنف لا تنتهي، انعكست على سلوك وطباع الناس الذين انصهرو في بوتقة من التمرّد أدّت إلى وسمهم باسم الطفّار.

تحرير عودة: التركيز على التمكين الاقتصاديّ وحده غير كافٍ، ما لم يترافق مع بناء قدرات النساء القياديّة التي تؤهّلهنّ لمشاركتهنّ السياسيّة

وحدة جندريّة في الخضر البعلبكيّة

لم تبدأ رحلة الشقيقتين علوم وتحرير عودة من “الوحدة الجندريّة”، بل سبقتها مسيرة نضاليّة شاقّة بوجه المجتمع العشائريّ الأبويّ الذي حرمهنّ من ميراثهنّ. فقد جُرّدن من حقوقهنّ الشرعيّة من قبل إخوتهنّ الذكور، وتعرّضنَ لأشكال متعدّدة من العنف القائم على النوع الاجتماعيّ، وصلت إلى محاولات قتل، وما زالت بعض هذه القضايا مرفوعة أمام القضاء.

على أثر هذه التجربة أسّست الدكتورة علوم عودة جمعيّة “حقّي أورث”، التي تُعدّ أول جمعيّة غير حكوميّة في لبنان والمنطقة العربيّة تُعنى حصرًا بقضيّة الميراث. ورفعت الصوت دفاعًا عن حقّ النساء في الأرض أسوة بالذكور وفقًا للشرع والقانون. أمّا تحرير عودة، فهي أستاذة في التعليم الثانويّ، برزت في النشاط الحقوقيّ واكتسبت نظرة نقديّة للتدخّلات مع النساء في المنطقة، إذ أكّدت أنّ “التركيز على التمكين الاقتصاديّ وحده غير كافٍ، ما لم يترافق مع بناء قدرات النساء القياديّة التي تؤهّلهنّ لمشاركتهنّ السياسيّة”. وتتابع تحرير لـ “مناطق نت”: “من هنا جاءت فكرة تأسيس ‘الوحدة الجندريّة‘بالتعاون مع جمعيّات غير حكوميّة لتكون من صلب عمل المجالس البلديّة، بهدف تعزيز مشاركة النساء في الشأن العام”.

ثقة ومكانة اجتماعيّة

من جهتها تتحدّث الدكتورة علوم عودة عن ترشّحها إلى الانتخابات فتقول: “مع اقتراب الانتخابات البلديّة الأخيرة، ترشّحت على لائحة مستقلّة، ونجحت في حجز مقعد لي في المجلس البلديّ، الذي يغلب عليه الانتماء العشائري”. وتتابع لـ “مناطق نت”: شكّل حضوري في المجلس البلديّ نموذجًا مختلفًا، كوني امرأة متعلّمة ومتمكّنة، ومن خلال ذلك كسرت الصورة النمطيّة وأصبحت مثالًا يُحتذى به في مواجهة التمييز والعنف السلطويّ، ما أكسبني ثقة ومكانة اجتماعيّة دعمتني في منافسة الرجال”.

الدكتورة علوم عودة في إحدى الأنشطة التي نظّمتها

عن تأسيس الوحدة الجندريّة تقول تحرير عودة شقيقة الدكتورة علوم لـ “مناطق نت”: “بعد دخول الدكتورة علوم، طرحت فكرة إنشاء وحدة جندريّة في بلديّة الخضر، ولتحقيق ذلك، اعتمدت مقاربة واقعيّة بعيدة من الخطاب الجندريّ المباشر”. وتضيف تحرير “ركّزت على حاجات البلديّة كالنقص البشريّ والتقنيّ، فالدكتورة علوم بما تمتلكه من مهارات أكّاديميّة يمكن أن تسدّ هذه الفجوة”.

وتقول “هذه المقاربة، التي اعتمدت على المنطق العمليّ والمؤشّرات المادّيّة، فتحت باب الحوار وأتاحت قبولًا تدريجيًّا للفكرة، على الرغم من أنّ العمل مع نساء عُرفن سابقًا بتمرّدهنّ على السياق الذكوريّ، إلّا أنّ المبادرة نجحت في حجز مكان لها في أجهزة البلديّة”.

عن الوحدة الجندريّة تشير الدكتورة علوم إلى أنّ “أثناء التفاوض مع المجلس البلديّ أضأت على النقص في التمويل الذي تفاقم بعد الحرب الأخيرة، وعرضت أنّه يمكن للبلديّة الاستفادة من إدماج مقاربة جندريّة، حيث تجذب المموّلين الدوليّين وتشجّع على التعاون مع السلطة المحلّيّة”.

إستراتيجيا لاختراق المجتمع العشائريّ

عن الأفكار والاستراتيجيّات التي يمكن البناء عليها لضمان نجاح مبادرات تهدف إلى تغيير في المعايير الجندريّة، وما هو الأفق لها في مجتمع عشائري؛ تشدّد تحرير على أنّ “اعتماد منهجيّة في المفاوضات مع الرجال، تجمع بين المنطق العقلانيّ/البراغماتيّ والمنطق الحقوقيّ/القيميّ ينجح في تغيير مسار النقاش من الإطار المعياريّ الجندريّ إلى الواقع المادّيّ، حيث يواجه الفاعلون تحدّيات ملموسة تتطلّب حلولًا عمليّة”. بالاضافة إلى “استثمار نقاط الضعف في البنى المؤسّساتيّة (كالتمويل والمهارات)، وهو ما يستوجب تحديدها وتحليلها بشكل موضوعيّ للتعامل معها بمنطق الاستجابة للنقص”. بحسب تحرير.

علوم عودة: تمكين النساء قادر على قلب المعادلة لصالح المرأة، كونها تتحوّل إلى ندّ للرجل وتنافسه في الميادين التي كانت حكرًا عليه

تسلّط الدكتورة علوم الضوء على التمكين الحقوقيّ والعلميّ والاقتصاديّ فتقول: “إنّ تمكين النساء قادر على قلب المعادلة لصالح المرأة، كونها تتحوّل إلى ندّ للرجل وتنافسه في الميادين التي كانت حكرًا عليه”. كذلك تؤكّد على استثمار المسار النضاليّ الطويل الذي مهّد لبناء ثقة بين النساء أنفسهنّ، فتشير إلى أنّ “تشكيل هذه الثقة كان بمثابة قاعدة انطلاق نحو كسب ثقة جمهور الرجال أيضًا، إلى جانب الاستجابة الفعّالة لحاجات النساء والمجتمع المحلّيّ وهواجسهم من خلال جمعيّة ‘حقي أورث‘ إذ ساهمت في تعزيز القبول الاجتماعيّ للتجربة وتزيد من فرص نجاحها، لا بل في تعميم التجربة”.

نواة شبكات ضغط

برزت تجربة الوحدة الجندريّة في بلديّة الخضر، كمثال لكيفيّة تغيير موازين القوى من خلال وصول امرأة متمكّنة إلى المجلس البلديّ، ما أتاح فرصة للتأثير في السياسات فتصبح أكثر مراعاة للحساسيّة الجندريّة. وقد انعكس ذلك على النساء الأخريات، اللواتي أصبحن أكثر جرأة في التعبير عن أصواتهنّ ومطالبهنّ. ومن الأمثلة الدالة، مبادرة مجموعة من الشابّات في البلدة عزّزت خطوة الوحدة الجندريّة.

عن تلك المبادرة تقول الدكتورة علوم “رصدت الفتيات مجموعة من الممارسات المتحيّزة جندريًّا في المساحات العامّة، وقدّمن خطّة لمكافحتها عبر قرارات صادرة عن المجلس البلديّ، إلى جانب دورات تدريبيّة لتمكين نساء أخريات من القيادة، وذلك بتشكيل نواة شبكات ضغط ومناصرة بالشراكة مع الشباب للتأثير في الشأن العام على المدى البعيد”.

بين العشيرة والتمرّد على الدولة

يفرض النظام العشائريّ على الرجل منذ طفولته نموذج “الذكر العنيف”، فينشأ بين الخضوع للعشيرة والتمرّد على الدولة. أمّا داخل الأسرة، فتُمنح له سلطة مطلقة، ليقوم بتفريغ عنفه على الحلقة الأضعف. في المقابل، تُحاصر النساء في “أقفاص ذهبيّة” تُحدّد أجسادهنّ وأدوارهنّ وفق معايير جندريّة تقليديّة.

وعلى الرغم من ذلك، استطاعت النساء خلال السنوات الأخيرة، قطع شوطًا مهمًّا على مستوى التمكين المهنيّ والتحصيل العلميّ، ما أتاح لهنّ هامشًا أكبر في حرّيّة الحركة وإدارة حياتهنّ، لكن ما زلنَ محدّدات في المهن ذات البعد الرعائيّ، بعيدة من مراكز القرار، كما تُستبعدن من المشاركة السياسيّة باعتبارها مجالًا حيويًّا للرجال.

باختصار لقد تحسّنت نسبيًّا شروط الحياة اليوميّة للنساء على المدى القصير والمتوسّط، ولكن لا تزال قيمة ومكانة النساء أقلّ من المتوقّع، وهذا بشكل أساس يتعلّق في ضعف المشاركة السياسيّة.

يبقى السؤال المطروح: هل يمكّن هذا الاختراق للمنظومة العشائريّة الأبويّة، من إحداث تغيير فعليّ في المعايير الجندريّة، بحيث ترتفع قيمة المرأة في عيون الرجال؟ أم أنّ الطريق ما زالت طويلة قبل أن يفضي النجاح البراغماتيّ إلى تحوّل جوهريّ في القيم والمعايير داخل المجتمع العشائريّ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى