يارون عاصمة القصور تغيب عن الأخبار

منذ نحو شهر، وتحديدًا عندما نشر جيش العدو الإسرائيليّ مقطع “ڤيديو” وحشيّ يوثّق لحظات نسفه عددًا كبيرًا من بيوت بلدة يارون، لم نعد نسمع في نشرات الأخبار اسم البلدة، بعدما كان على مدار سنة ومنذ الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) العام الماضي يتردّد بشكل مستمرّ وشبه يوميّ في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي ومحطات التلفزة، بعد أن تعرّضت للخراب وفُقدان التواصل مع البلدة وسط غياب أيّ معلومات عنها بعدما نزح جميع سكّانها.

يارون بأي حال؟

لا خبر يصل من البلاد، هكذا يقول المعنيّون. “لا نعلم شيئًا، لا عن البيوت ولا عن الشهداء، لا أحد يستطيع الوصول لأيّ خبر”. بيوت نسفت ولا إحصاءات دقيقة تقدّر عددها حتّى اللحظة، وكلّ ما ينشر مجرّد تقديرات. أرزاق سلبتها النيران من أهلها، وتاريخ يهدم قبل أن ترمش العيون، هذا حال يارون اليوم. مرّ على البلدة ما مرّ، اعتداءات متكرّرة طوال سنوات عبرت، ولكن أمام كلّ ما تعرّضت لها بقيت تلك البلدة صامدة، على رغم كلّ القهر والخراب الذي حاصرها مرارًا وتكرارًا.

وبحسب نائب رئيس بلديّة يارون حسين جعفر “سنعود إلى يارون لؤلؤة الجليل وحارسة جبل عاملة، بوّابة الوطن، سنعودُ لنبني البيوت والمساجد والكنائس”.

كلام جعفر لـ “مناطق نت” يُكرّره كاهن رعيّة القدّيس جاورجيوس في يارون التابعة لأبرشيّة صور للروم الملكيين الكاثوليك الأب شارل ندّاف قائلًا: “تركنا يارون قسرًا، ولكنّنا سنعود كما كلّ أولاد القرى ولو اضطررنا إلى نصب خيم والعيش فيها”. وأكّد لـ “مناطق نت”، أنّ “كنيسة مار جرجس تعرضت للقصف مرّتين، وتضرّرت بشكل كبير”، جازمًا “أنّنا أمام عدوّ لا يعرف حرمة شيء، ومجتمع دولي لا يحاسب مهما حصل”.

كنيسة يارون التي تعرضت لاعتداءات متكررة

بدوره، يعبّر ابن بلدة يارون السيّد علي الأمين عن شعوره تجاه بلدته التي انقطعت أخبارها فيقول لـ “مناطق نت”: “كلّ حبّة تراب في الجنوب تعني لنا كثيرًا”. وعن الدمار الكبير، يعلّق “أوّل ما يروق الوضع طالعين ركض عالجنوب لو ما في بيوت”، لافتًا إلى أنّ لسان حاله هو لسان حال كلّ أهل القرى الجنوبيّة.

وعمّا إذا كان يوجد أيّ خبر يصل من البلاد، يؤكّد المختار رياض الرضا لـ “مناطق نت” أنّ “الأخبار مقطوعة كلّيًّا، وذلك مع نزوح سكان البلدة كافة والذين يبلغ عددهم حوالي 1600 شخص”.

منازل دون ناسها

يبلغ عدد المنازل في بلدة يارون الجنوبيّة نحو 900 منزل، ولكن أكثر من نصف هذه المنازل خالية من سكّانها الذين هجروا البلاد منذ زمن. هناك قرابة 250 بيتًا فقط كانت تضجّ أرجاؤها بأنس ساكنيها، لكن معظم هؤلاء نزحوا منذ بداية العدوان على لبنان. في حين يبلغ عدد أبناء يارون حوالي 8500 نسمة، يتوزّعون بين مقيم ومغترب.

كثيرة هي أحياء بلدة يارون، وتدلّ أسماؤها عليها ففيها: حيّ الفوّارة، حيّ الدير، حيّ السلطانة، حيّ الكنيسة، حيّ الجامع، حيّ البرج، حيّ الحبيس، حيّ درب السوق، حيّ الحرج، حيّ كرم المرج وحيّ كرم بو صعب.

يبلغ عدد المنازل في بلدة يارون الجنوبيّة نحو 900 منزل، ولكن أكثر من نصف هذه المنازل خالية من سكّانها الذين هجروا البلاد منذ زمن. هناك قرابة 250 بيتًا فقط كانت تضجّ أرجاؤها بأنس ساكنيها

وفيها كذلك تنوّع دينيّ ويتوزّع أبناؤها بين الطائفتين الشيعيّة والروم الكاثوليك.

أمّا عن منازل يارون، فهي تتميّز بفخامتها، حيث تتوزّع القصور والدور والفيلّات على كامل أراضيها، إلّا أنّ معظمها خالية من سكّانها إذ يقطن أربابها وعائلاتهم في دول الاغتراب وخصوصًا في استراليا. وكانت في يارون بيوت أثرية تقع في ساحة البلدة يعود تاريخ بعضها إلى 100 عام وأكثر، لكن آلة الدمار الإسرائيليّة دمّرتها جميعها من الجوّ والبرّ والتفخيخ، ونسفت كذلك أحد أقدم مساجد البلدة.

يارون جغرافيا وجيران

بين يارون وجيرانها من البلدات عشرة عُمر، إذ يجمعها مع رميش التي تحدّها من الغرب، حقول تبغ وحدود مع فلسطين، ومع عين إبل وبنت جبيل اللتين تجاورانها من الشمال والشمال الغربيّ علاقات عريقة ومودّة، ومع مارون الراس التي تحدّها من الشمال الشرقيّ، شمس صيف وكروم حبّ تترقرق عناقيدها كلّما حلّت ليلة مقمرة. يبقى الجنوب الأقرب إلى قلب يارون، فهناك تتّصل أراضيها بأراضي قرية كفربرعم الفلسطينيّة وقرية صلحا، إحدى القرى اللبنانيّة السبع المحتلّة.

تعود تسمية يارون بحسب ما أورد الأديب أنيس فريحة في كتابه “أسماء المدن والقرى اللبنانيّة وتفسير معانيها” أنّ اسم يارون ورد في كتاب يشوع، وهو اسم كنعاني معناه الخوف والهلع. ويعتبر أيضًا أنّها قد تكون تحريفًا لكلمة ياروم ومعناها المكان المرتفع.

مسجد الإمام علي في يارون الذي دمّرته الغارات الاسرائيلية
بلاطة ناصيف

لا يمكن الحديث عن يارون وتاريخها، دون المرور بما يُعرف بـ “بلاطة ناصيف” أو “صخرة ناصيف”، وهي تخلّد ذكرى الشيخ ناصيف النصّار، أحد قادة جبل عامل في القرن الثامن عشر. يعود هذا الموقع إلى المعركة التي قادها النصّار ضدّ جيش أحمد باشا الجزّار العثمانيّ في العام 1781، إذ قُتل فيها الشيخ مع عدد كبير من أعوانه. ووفقًا للروايات المحلّيّة، انزلق حصان النصار عند هذه الصخرة، ممّا أدى إلى سقوطه وقتله على أيدي قوّات الجزّار.

تتوسّط الصخرة اليوم بوّابة محفورة في الصخر تؤدّي إلى مغارة صغيرة في أسفلها، يُعتقد أنّ بها مدافن قديمة لم يتمّ التحقّق منها بعد. وتعدّ “بلاطة ناصيف” موقعًا تراثيًّا يروي تاريخ المقاومة والنضال، كذلك فإنّ ضريح النصّار لا يزال قائمًا في مقبرة البلدة، ويجاوره نصب تذكاريّ تخليدًا لدوره البطولي.

الجدير ذكره، أنّ الاحتلال نسف قبل أشهر قاعة حملت اسم الشيخ ناصيف النصّار كانت من المفترض أن تفتتح تحت في البلدة.

يعود تاريخ يارون إلى العصور القديمة، فيها آثار عدّة مكتشفة تعود إلى حقب مختلفة من الزمن. أبرزها “المنصورة” التي يقول معمّرو البلدة ومؤرّخوها أنّها كانت بلدة وقد هجرها سكّانها إلى اليمن، دون معرفة السبب الدقيق. وأنّ هناك “تلّة عارة” التي تضمّ أحجارًا ضخمة مصقولة ومرتّبة يعتقد أنّها أثريّة. وجد فيها سابقًا قبر حجريّ منقوش في صخرة كبيرة يشبه إلى حدّ كبير قبر الملك أحيرام، ومقام “الخضر” ويعود تاريخه إلى مئات السنين، وفقًا لعدد من المصادر التي تروي تفاصيل عن ارتباطه الروحيّ والمعنويّ بأهل البلدة. يتردّد أنّ المقام كان مكانًا صغيرًا مبنيًّا من الطين، وتمّ تجديده قبل نحو 80 عامًا. يتميّز المقام بموقعه في قلب البلدة، على تلّة مرتفعة بين الحارتين المسيحيّة والإسلاميّة.

أحراج وأشجار معمّرة

تتميز بلدة يارون بحرج تبلغ مساحته 650 دونمًا ويضمّ أكثر من سبعة آلاف شجرة سنديان قديمة، يصل عمر بعضها إلى أكثر من مئة عام. وقد عمدت آلة الخراب الإسرائيليّة على إلقاء عديد من القنابل الفوسفورية واستهدافه بالقصف المدفعيّ والغارات الحربيّة، مسببة بحرائق هائلة فيه قضت على مساحات واسعة منه.

ستبقى يارون في أقصى الجنوب تنتظر، ورودًا تصيّر الرماد جهاز عروس قاومت وصمدت وضحّت كي تبقى لأهلها، أولئك الذين يعرفون حجارتها قبل بيوتها، يعرفون كيف يلملمون أوجاعهم وأحزانهم وأشلاء أولادهم، ويبنون من جديد بيوتًا لم تمل الّا لأهلها الذين أقاموا مرّة تلو مرة أعراسًا على خرابها تبشّر بقيامة جديدة. وعلى حدّ ما يردّده أبناؤها: “يرونها بعيدة، ونراها قريبة”.

ساحة البلدة القديمة في يارون تم تدميرها بالكامل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى