ياسمينا وجان بيار.. بساتين بعنوب تزهر في وجه الحرب
تعيش ياسمينا رفّول حربًا مختلفة عمّا تعيشها المنطقة القريبة منها حيث الغارات متواصلة على الجنوب، حرب ياسمينا التي تخوضها هي الحفاظ على أرض زرعت فيها حبّها للبنان، ومن هذه الأرض المنسيّة التي حوّلتها إلى مكانٍ نابضٍ بالحياة والعطاء، تنقّب في التراب عن عزيمة تساعدها على الصمود في بلدها الذي يرزح تحت وطأة حربٍ تثقل أيّامه وتقسو على ناسه، ومن بساتين بعنوب الأرض الواقعة قرب بلدة جون الشوفيّة التي اختارتها صدفةً لتصبح ملاذها، تبرز حكايتها كنافذة أمل ووفاء لوطنها.
ياسمينا لكنّها برّيّة، تتحدّر من بلدة مشغرة البقاعيّة التي لم تزرها أو تعرفها، ترعرعت في كسروان، وبعدها سافرت مع عائلتها إلى الكويت، ولاحقاً درست التاريخ في فرنسا لتعود إلى لبنان وتتخصّص في الإعلام المرئيّ والمسموع، وتعمل في مجال الإنتاج والإعلانات. تروي ياسمينا حكايتها لـ “مناطق نت” فتقول: “لم تكن الأرض تعنيني، أنا بنت مدينة”، تضحك وهي تتذكّر “كنت أخاف من الحشرات ولا أستطيع الجلوس على صخرة أو تراب قبل تفقّدهما جيّدًا. كان لبنان بالنسبة لي أيام صيفٍ مملّة عندما كان يأتي أهلي لقضاء العطلة، يوم كان البلد مرتبطًا بالحرب والتفاصيل الحزينة، ولم تكن علاقتي معه مشوبةً بالحنين أو الذكريات الجميلة”.
تستدرك ياسمينا: “لكن في لحظة ما، اتّخذت قرار العيش والاستقرار في لبنان، بعدما أيقنت أنّ البلد يحتاج إلى شبابه المنتشر في بلاد المهجر”.
قرار عودة ياسمينا نقلها إلى مرحلة جديدة، تعرّفت فيها على زوجها جان بيار زهّار، الذي وُلد في صيدا ودرس وعمل في دول عدّة منها ألمانيا وتشيكيا في مجال تخصّصه في الهندسة المعماريّة التجديديّة. عنه تقول ياسمنيا: “كان دائم الشغف بتجميع الأوراق القديمة المتعلّقة بصيدا، وفي إحدى صفحات كتاب قديم تقول قرأ عن قلعة صليبية تعود إلى الحقبة البيزنطية، واستخدمت كسجن في خلال الحكم العثمانيّ، هذه القلعة أثارت فضوله لأنّها تقع بالقرب من مدينة صيدا”.
قرّر جان بيار ترك براغ والعودة إلى لبنان ليجد القلعة في قضاء جزين، وبعد التواصل مع أصحابها لتجديدها فضّلوا تركها كما هي. ولكن الزوجين أغرما بالأرض المجاورة للقلعة التي تبلغ مساحتها 100 ألف متر، تجاور نهر الأوّلي، على بعد 60 كيلومترًا من بيروت، فاستأجراها من دير المخلّص العام 2012 بواسطة عقد استثمار لمدة 36 سنة.
قرّر جان بيار ترك براغ والعودة إلى لبنان ليجد القلعة في قضاء جزين، وبعد التواصل مع أصحابها لتجديدها فضّلوا تركها كما هي. ولكن الزوجين أغرما بالأرض المجاورة للقلعة التي تبلغ مساحتها 100 ألف متر، تجاور نهر الأوّلي
عن تاريخ هذه الأرض وما تحمله من عبق الماضي، تقول ياسمينا: “قد تكون بساتين بعنوب واحدةً من أقدم المزارع في لبنان، حيث توجد أشجار زيتون عتيقة من الصعب معرفة عمرها الحقيقيّ، فالجرار الفخّاريّة حولها تدلّ على أنّها كانت مأهولة منذ أكثر من 1500 سنة”. تتحسّر ياسمينا على هذا التاريخ العريق قائلة: “لكن لهذه الأرض وجهًا حزينًا أيضًا، فقد كانت خطّ تماس في أيّام الحرب، وهذا ما تبيّن لنا من خلال بقايا الألغام والقنابل التي وجدناها”.
تسترجع ياسمينا بعض ذكرياتها، وتضحك قائلة: “أتذكّر جيّدًا كيف كنت أتحايل على المسارات المجهولة لأكتشف أيّ الطرقات الترابية أسهل وأقرب، فالمزرعة، مثل كثير من الأراضي الزراعيّة في لبنان، لا تصل إليها الطرقات المعبّدة”.
تتابع ياسمينا حديثها “كان عملنا في البداية شاقًّا جدًّا؛ حاولنا استصلاح الجلول التي أصبحت شبه مندثرة بسبب عوامل الطبيعة والإهمال، وقمنا بترقيم أشجار الزيتون وبعدها قام جان بيار بزراعة 1500 شجرة مثمرة”.
تبتسم ياسمينا وتقول: “بعد أكثر من عشر سنوات، أصبحنا مزارعين حقيقيّين، نعرف متى نخطّط للعام التالي وأيّ الزراعات المناسبة للأرض والمناخ”. تعلّمت ياسمينا وجان بيار من خلال الملاحظة والتجربة المباشرة. توضح “الملاحظة والسؤال هما الأساس، والجواب سهل الوصول إليه. عندما نلاحظ نبتة ذابلة أو مشكلة ما، نبحث عن الأسباب والحلول ونبدأ بتطبيقها. وإذا نجحت نحتفظ بها، وإذا فشلت نبحث أكثر”.
ترى ياسمينا أنّ الزراعة المستدامة هي الحلّ للمحافظة على الطبيعة. تضيف: “أسلافنا كانوا يزرعون ولم تكن هناك مبيدات، أمّا اليوم فالناس تريد كلّ شيء بشكل سريع وجاهز”. من هذا المنطلق، تخبرنا ياسمينا أنّها تستغلّ كلّ شيء في الطبيعة، فتقول: “نحضّر كومبوست من الأعشاب اليابسة والخضراء ونستخدمه كتربة للزراعة. بهذه الطريقة نقوم بتنقية التراب من الأعشاب الضارّة، وفي حال كانت المشكلات عصيّة، نلجأ إلى الأدوية الزراعيّة المصادق عليها أوروبّيًّا، مع ضرورة اعتبارها الملاذ الأخير لتحقيق أفضل النتائج الممكنة”.
تتحدّث ياسمينا عن علاقتها بالأرض، وكيف وجدت أنّ لكلّ نبتة علاقة خاصّة وإحساسًا مميّزًا، وكلّ واحدة تحتاج إلى رعاية مختلفة. تردف بثقة “لا أستطيع القيام بكلّ هذا وحدي. نحن نوزّع المهام؛ جان بيار يزرع مع فريق العمل، وأنا أقطف وأحضّر المنتجات البلديّة مثل الزعتر والسماق والمربّى وتقطير ماء الزهر وماء الورد وماء بعض الأعشاب التي يتغذّى عليها النحل ليعطينا عسلًا ذا جودة عالية بالإضافة إلى دبس الخرّوب، الذي أعتبره من أهمّ الحلويّات على المائدة اللبنانيّة”، تضيف: “عندما يختلط لونه الترابيّ الداكن بلون الطحينة الأبيض يعطي رونقًا مميّزًا من الألوان”.
بعد نجاح مشروعها، أنشأت ياسمينا علامة تجاريّة باسمها، تشرح “في العام 2017 تركت عملي في الإنتاج لأتفرّغ إلى تنسيق الزهور البرّيّة لتزيين المناسبات والأفراح، لأنّ الإقبال عليها كان شديداً، بالإضافة إلى أهمّيّة التوفيق بين الزراعة والإنتاج والتسويق، خصوصًا أنّنا نصدّر معظم إنتاجنا إلى اللبنانيّين في الخارج، والتي تحتاج وقتاً بسبب الإجراءات الرسميّة المعقّدة”.
لكنّ الوضع لم يستمر على ما هو عليه، تغيّرت الظروف في لبنان، ما جعل ياسمينا تعيد التفكير في بعض إنتاجها. تقول: “تخلّيت عن تنسيق الزهور البرّيّة، وأشعر بالخجل عندما أضع بعض الزهور على طاولتي في سوق الطيّب، السوق الذي نقصده أسبوعيًّا لتسويق إنتاجنا من الزيت والزيتون والصعتر والخضروات والفواكه الطبيعيّة وغيرها من أصناف المؤونة”.
تأسف ياسمينا للأوضاع الصعبة التي يمرّ بها البلد، وتشير إلى أنّ “الأزمات الاقتصاديّة المتفاقمة دفعت كثيرًا من الزبائن إلى شراء الضروريّات وتأجيل ما يمكن تأجيله، بالإضافة إلى أنّ الحرب الحاليّة أدّت إلى تراجع مبيعاتنا بشكل كبير بعد مغادرة كثير من الأجانب كانوا زبائن رئيسيّين لمنتجاتنا. كذلك لأنّ فريق عملنا المكون من ثلاث عائلات من اللاجئين السوريّين، اضطرّ إلى ترك البلد، ما وضعنا أمام تحدّيات كبيرة لتدريب وتعليم فريق جديد على أساليبنا في الزراعة”.
على رغم كلّ هذه التحدّيات، تؤكّد ياسمينا تعلّقها بلبنان، تختم “حتّى الآن، مزرعتنا ليست تحت التهديد المباشر، وبالتأكيد، نحن، كمعظم الشعب اللبنانيّ، سنصمد، فمشروعنا هو مسؤوليّتنا تجاه هذه الأرض وهذا البلد، حتّى لو غادرنا، ستبقى قلوبنا هنا”.