يا صوتي ضلّك طاير: “صوت أعلى لتغيير نسوي” في الجنوب
جمعية “Fe-male”، تمنح الجنوبيات والجنوبيين رخصة للتحدث بأصواتهم الحقيقية.
نسويات ونسويين لكسر الأنماط الثنائية
ولدتُ في منطقة لا تعرف سوى الثنائيات. الخطابات الثنائية، العقليات الثنائية، الإنتماءات الثنائية والألوان الثنائية. منذ ولادتنا، تنتظرنا الصناديق الجاهزة لنُعلَّب بها. إيّاك والخروج عن الصراط الذكوري، حتى لا تُفتح عليك أبواب الجحيم. الصندوق الأزرق للذكور، حيث يتوجب عليك أن تبتلع صورًا نمطية كسكين حاد، تمزق ما تبقى من انسانيتك. صندوق تحيطه الأيادي الجاهزة دائمًا لتطبق على فمك وعيناك وكل حواسك، ولتلقنك وتشكلك كما يحلو لها، وكما يخدم مصالحها ويغذي استمراريتها: “أنت رجل، لا تبكي”، “أنت رجل، لا تحزن”، “أنت رجل لا يجب أن تكون ضعيفًا”، “أنت رجل لا يجب أن تكون إنسانًا!”.
نظام يدهشك بغرابته وقسوته، يجعلك تسأل نفسك ولو سرًا: “كم يحتاج الرجل من الوقت ليفهم بأنه إنسان؟ كم يحتاج من الوقت لكي يُطلق العنان لإنسانيته؟ كم يحتاج من الوقت ليفهم بأن الشجاعة هي القدرة على البكاء في عالم يخنق عيناه كل لحظة؟ كم يحتاج من الوقت ليستطيع مواجهة العالم بعينين مغرورقتين بالدموع؟”.
أما الصندوق الزهري للإناث، فحدثّ ولا حرج. لائحة من الممنوعات والتهديدات وأدوات القتل الجاهزة لمن تخرج عن الصراط الذكوري، خوفٌ يعيق الحياة، وأصواتٌ لا نهاية لطاقتها، لا تملّ ولا تكلّ، تردد: “لا تجلسي بهذه الطريقة”، “لا تتكلمي بهذه الطريقة”، “تزوجتي؟”، “أنجبتي؟”، “ممنوع”، “حرام”، “وصاية أبوية”، “عاطفية”، “ضعيفة”… إلخ.
منذ ولادتنا، تنتظرنا الصناديق الجاهزة لنُعلَّب بها. إيّاك والخروج عن الصراط الذكوري، حتى لا تُفتح عليك أبواب الجحيم.
الخروج من الصندوق
ليس سهلًا أن نخرج من الصندوق. خاصة وأننا كائنات إجتماعية نحتاج للآخر لكي نستمر. الخروج يحتاج يدًا تنتشلك، ومكان نرتاح فيه من اللهاث والهروب، لنستطيع فهم ما يحصل، حتى نتمكن من التحرر من القيود. ولأن أدمغتنا مصصمة للبحث عن مساحات أمان، ستبقى تبحث عن صوتٍ يطابق حقيقتها، وعن مكان تتخلص فيه من سموم النظام الذكوري.
مواجهة هذا النظام هي لا شك أحد المعارك الأساسية في العالم بشكل عام، وفي لبنان بشكل خاص. هذا البلد الذي شرذمته الطائفية والحروب والأزمات، يقف وراءها نظام ذكوري لا يرحم، يكشر عن أنيابه كلما زاد الخناق عليه.
بمواجهة هذه الشرذمة، برزت النسوية كقوة فعّالة، تتحدى الأعراف المجتمعية وتدافع عن حقوق المرأة وتمثيلها في لبنان. وعليه، عملت “Fe-male”، وهي جمعية بارزة في طليعة هذه الحركة النسوية في لبنان، على تشكيل الخطاب المحيط بالقضايا المتعلقة بالنوع الإجتماعي، وتعزيز الحوار، ورفع أصوات النسويات والنسويين في جميع أنحاء البلاد. لهذا السبب تعتبر هذه الجمعية صوتًا يواجه ذكورية سامة باتت حملًا زائدًا على المجتمع اللبناني، وعلى الإنسان. إنهنّ نسويات ونسويين رفضوا قول “نعم” للقتل والظلم والتهميش والعنصرية والتمييز..إلخ، والمساومة مع القاتل.
هي، جمعية نسوية مدنية تعمل مع النساء والفتيات للقضاء على الظلم من خلال بناء حركة نسوية شابة، وتمكين عوامل التغيير، والعمل ضد المعايير والسياسات التمييزية. تأسست كمنظمة وطنية غير حكومية في العام 2013، مركزها الأساسي في العاصمة بيروت، ولها مراكز في شمال لبنان، البقاع والجنوب.
معنى أن تمتلك صوتًا
على موقعهنّ، تستقبلكم جملة واضحة، مكتوبة بالبنط العريض: “صوت أعلى لتغيير نسوي”. صوت أعلى، لأنه لا يمكن للعالم أن يراك ويسمعك إلا من خلال امتلاك صوت عالٍ”، وهذا أحد الأهداف الرئيسية للجمعية. ولكن ما أهمية امتلاك “صوت” بالأساس؟
كل يوم، يستخدم الأفراد أصواتهم للتواصل مع الآخرين، والتعبير عن احتياجاتهم ورغباتهم، ونقل أفكارهم وعواطفهم. ومع ذلك، فإن مفهوم “الصوت” يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك. يمثّل امتلاك صوت جانبًا أساسيًا من القوة والسلطة على النفس وعلى العالم، مما يمنح الفرد القدرة على التعبير عن نفسه، أفكاره، مشاعره، خبراته وصدماته، معتقداته وتأكيد هويته.
إنه أحد الحاجات الأساسية للصحة النفسية. أن تستطيع التعبير عن نفسك وأن تكون حقيقتك، أي بمعنى أن تكون أصيلًا، حاجة لا تقلّ أهمية عن الحاجات الفسيولوجية، بحسب المعالج النفسي الكندي من أصول هنغارية “غابور ماتي”.
“نحن” أبناء هذه البلاد، نولد ونرث الصمت مباشرةً. الصمت الذي يحجب عنا سماع أصواتنا، والذي يطبق بيده على أفواهنا، ليخنق فطرتنا وحاجتنا بالتعبير عن أفكارنا ومشاعرنا وآرائنا.
وجود صوت يعني أنه يمكن لنا كنسويات ونسويين أن نكون حقيقتنا دون خوف من الإنتقام أو القمع. هذا يعني أن المرء لديه الفرصة للتعبير عن نفسه بحرية، والتعبير عن أفكاره، والتواصل مع الآخرين. يمكن أن يظهر امتلاك “صوت” في العديد من الأشكال المختلفة، بما في ذلك التحدث علنًا والكتابة والاحتجاج والمناقشة واكتساب المعرفة وحتى التصويت. إن امتلاك صوت هو عنصر حاسم في كرامة الإنسان وهو ضروري للتعبير عن الذات والنمو الفردي وتحقيق الذات وليس رفاهية كما يردد البعض.
إنطلاقًا من ذلك، أتت جمعية “Fe-male” لتوحّد الصوت من الشمال حتى الجنوب، وذهبت إلى أبعد من بيروت، إلى مناطق “اللون الواحد”، وأخصّ بالذكر هنا مركز الجنوب، لأنني من الأشخاص الذين يترددون عليه منذ العام 2021. إن الشعور بالفاعلية هو الذي يجعلنا واثقين من أن أصواتنا ستُسمع، وأننا سنؤثر على بيئتنا بشكل إيجابي. هذا ما تسعى إليه الجمعية، وهذا ما لمسناه، حيث هناك مساحة من الأمان والقبول، وبيئة سليمة لن نجدها في مكان آخر في الجنوب.
مساحة آمنة وتثقيفية في آنٍ واحد
أنشأت جمعية “Fe-male” مساحات لتشكيل الوعي النسوي، وتعزيزه من خلال التثقيف والتدريب عبر معالجة المواضيع المتعلقة بالقضايا النسوية كافة، وتأمين حيّز آمن لنقاشها، على سبيل المثال: “الإنتخابات، العنف القائم على النوع الإجتماعي، الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية، الفنّ وعلاقته باللاعدالة وترسيخ التمييز، الحمل والإجهاض، كسر الصور النمطية التي تعاني منها النساء، الصحة العقلية وقانون الأحوال الشخصية”.
الجمعية تؤمن بأن المعرفة جزءٌ مهم في رحلة التغيير وهو فعل تراكمي، لتفكيك النظام الذكوري الأبوي من أجل تحقيق المساواة بين الجنسين والتحرر، وتقليل الهوة بينهما، مستندين على فلسفة نسوية واضحة، ومعارف أهم الرائدات النسويات، أمثال الفيلسوفة الفرنسية النسوية “سيمون دو بوفوار”، ومؤلفة كتاب “الجنس الآخر” التي قالت: “إنّ النظام الأبوي يجعل المرأة في وضع “الآخر”، مما يقلل من كفاءتها. وتؤكد أن نوع الجنس ليس جوهرًا ثابتًا بل هو بناء اجتماعي يفرضه النظام الأبوي”.
إن الشعور بالفاعلية هو الذي يجعلنا واثقين من أن أصواتنا ستُسمع، وأننا سنؤثر على بيئتنا بشكل إيجابي. هذا ما تسعى إليه الجمعية، وهذا ما لمسناه، حيث هناك مساحة من الأمان والقبول، وبيئة سليمة لن نجدها في مكان آخر في الجنوب.
أعلى من القبب العالية.. عم نكتب سطور
يتعدى اليوم عدد المنتسبات والمنتسبين إلى جمعية “Fe-male”، في مركز الجنوب 80 منتسبة ومنتسبًا. لا يعتبر المركز مكانًا لإقامة ورش العمل والجلسات التدريبية والتثقيفية فقط، بل يتعداه للمطالعة والقراءة لمن يرغب من المتطوعات والمتطوعين، حيث وفرت الجمعية مكتبة غنية بالكتب والمصادر.
في لقاء مع “زهراء برجاوي”، حدثتنا عن تجربتها التي بدأت كمتطوعة في العام 2017، ثم أصبحت موظفة ومنسّقة مركز الجنوب في العام 2020، تقول: “رؤية الجمعية لا تقتصر فقط على جذب المتطوعات والمتطوعين، بل تتركّز بالدرجة الأولى على تطوير قدراتنا لنتبوأ مراكز مهمة، حيث أن أحد أهم أهداف الجمعية كانت ولا زالت الإيمان بقدرة الشباب على إحداث التغيير، وهذا هو السبب الرئيسي الذي دفع المشرفين عليها للسعي إلى افتتاح مراكز بعدّة مناطق لبنانية، من ضمنها الجنوب”.
تتحدث برجاوي عن تجربتها فتقول “يمكن أن أصف هذه التجربة بأربع كلمات: رائعة، مهمة، غنية ومثمرة جدًا. تتابع “أنا فخورة وسعيدة بهذا المركز في منطقة الجنوب، لأنني أعمل في بيئة عمل صحية للنساء خالية من العنف بشتى أنواعه. إضافة لذلك، زادت هذه التجربة من قوتي ومعرفتي، حيث أعتبر أن كل يوم عمل هنا، هو فرصة للتطوير الشخصي، ولتعلم مهارات ومعارف جديدة، وللإلتقاء بنسويات ونسويين جدد”.
وعن التطور الذي حصل منذ افتتاح المركز وما الفرق الذي لمسته تجيب برجاوي “بدأنا بعدد قليل من “الصبايا والشباب” 14 منتسبة ومنتسب، من خلال تأمين الموارد لإحداث التغيير، ولإحداث حركة نسوية بعيدة عن العاصمة. الآن كبرت العائلة – وهنا أشدد على أنني أعتبر هذا المكان عائلتي – وأصبحنا أكثر من ثمانين شخصًا، نعمل سويًا على قضايا تُعنى بحقوق المرأة وحقوق الإنسان والحركة النسوية والعنف القائم على النوع الإجتماعي”.
زيادة ملفتة في مستوى الوعي تجاه القضايا النسوية، تحديدًا في الجنوب. وفي هذا الإطار تقول برجاوي “لا شك بأن هناك نقلة نوعية تجاه القضايا النسوية، بسبب تعزيز ثقافة المناقشة المفتوحة في المركز وتبادل الخبرات، مما سمح لنا بكسر ديناميات السلطة والقيود الإجتماعية، وهذا ما رفع مستوى الوعي تجاه الديناميات الجنسانية”.
من جهتها تقول المحامية غدير حيدر، عن تجربتها في جمعية “Fe-male” “كنت من المهتمات بقضايا حقوق الإنسان، وهذا ما دفعني لدراسة الحقوق، لأصدم لاحقًا بواقع حقوق المرأة التعيس في بلادنا، والتمييز الذي تتعرض له في البيت، والمدرسة، والعمل والشارع والمحاكم الشرعية، والقائمة لا تنتهي للأسف”. تضيف “هذا ما دفعني بالدرجة الأولى لأفهم هذه الحقوق، والتي تضمّ حقوقي أيضًا، لأدافع عنها، الأمر الذي حثني للبحث عن مكان أترجم من خلاله الجانب النظري، فلم أجد مكانًا مناسبًا سوى مركز “Fe-male” في الجنوب”.
تتابع حيدر: “الإنتساب للجمعية، والمثابرة على حضور الجلسات وورش العمل، وضحّ لي أكثر وبشكل أعمق الكثير من المفاهيم، مثل التمييز والعنف القائم على النوع الإجتماعي، والفرق أصلًا بين النوع الإجتماعي والجندر والجنس، وهذا ما كوّن لي صورة واضحة عن هذه المفاهيم، والذي بدوره عزز قدرتي في المدافعة والمناصرة فيما يتعلق بقضايا حقوق المرأة”.
أما عن الأهم بالنسبة إليها فتقول: “أعتبر مركز النبطية عائلتي الثانية ومساحتي الآمنة، حيث أستطيع التعبير عن أفكاري دون خوف”. وتؤكد حيدر على أهمية وجود مركز في منطقة الجنوب تحديدًا وتعبّر عن ذلك بالقول “أشعر بأن هناك من يحمينا، وبأننا -نحن النساء- لم نعد متروكات لمصائرنا. فالمركز ساعد على كسر التابوهات، وتعزيز الوعي المتعلق بقضايا الصحة الإنجابية والجنسية، والتي لا تُناقش عادةّ في البيئة الجنوبية، على حد قولها.
بدوره يصف المدرّب والمصور الحاصل على ماجستير في الإدارة التربوية والقيادة عباس إبراهيم تجربته كعضو منتسب في مركز Fe-male في الجنوب منذ العام 2018، على أنها واحدة من أكثر التجارب أهميةً في حياته، حيث يقول: “كنت مضطرًا للذهاب إلى العاصمة بيروت لحضور الجلسات التي لها علاقة بالقضايا النسوية. اليوم، وفّرت لنا جمعية Fe-male مركزًا في الجنوب، نناقش فيه كل القضايا النسوية بحرية، وبدون قيود، وهذا ما يميّز المركز، لأنه لا يوجد نشاطات مماثلة في الجنوب”.
ويضيف: “خلق لنا هذا المركز مساحة آمنة، وجمعني بالنسويات والنسويين في مكان واحد، مما سمح لنا بالتعبير عن أفكارنا وآرائنا بحرية”. “كمصوّر، كان لي عدّة تعاونات وفرص عمل مع الجمعية، في مركز الجنوب وفي مراكز أخرى”، يختم كلامه.