يحيى جابر “يُمسرح” بيروت الميتة ويغزو المناطق ليفككها
فتحت بيروت ستارها، لتحوّل المدينة البائسة الرازحة تحت رماد العيش على أمجاد الماضي، إلى مسرح كبير يصنع من خشباته نجومًا وقضايا تحاكي السوسيولوجيا، الحنين ونقد التجارب السياسيّة. فبيروت كانت أوّل الحاضرين في مسرح يحيى جابر الذي انطلق من التشريح الاجتماعيّ لمنطقة الطريق الجديدة، ليعود ويتمدّد نحو حي الشراونة في بعلبك، ومن ثم إلى كفرشيما في جبل لبنان، لينتهي به المطاف مثالًا لا حصرًا في نقد التجربة اليساريّة- الحزبيّة من خلال العمل السؤال: “شو منلبس؟”.
تحية لبيروت
ينطلق جابر من تحيّة لبيروت الشعبيّة في “الطريق الجديدة”، يعطي فيها قيمة لفنّ مسرحيّ كان على حافّة الاندثار، فيقول لـ”مناطق نت”: “ما أقوم به الآن في العروض المسرحيّة الأربعة (مورفين، مجدّرة حمرا، شو منلبس، من كفرشيما للمدفون) عبارة عن تحيّة لمدينة تموت شيئًا فشيئًا، فبيروت بالنسبة ليحيى جابر هي الحنين والأنين في آن. هي المدينة التي علّمتني، ربّتني، أمرضتني وشفتني، هي مدينة في طريقها إلى الانقراض. لم يعد يوجد مدينة اسمها بيروت، والأخطر من ذلك لم تعد عاصمة للجمهوريّة اللبنانيّة، والأخطر هل ستستعيد بيروت نفسها مرّة ثانية؟ الواحد منّا يسعى بقدر ما يستطيع لأن يضيء في هذه العتمة المعشعشة في كلّ زوايا بيروت، وأحد الأضواء هو المسرح”. هكذا يصف جابر علاقته بعاصمة بلاد متهالكة.
مسرح تشريحيّ
لا يخفى عن أعمال جابر المزاوجة بين الكوميديا السوداء والتأريخ المستند إلى الوعي المجتمعيّ، فكتابة جابر تأريخ ينطلق من لحظة أو حالة فرديّة عبر شخص محدّد على خشبة المسرح ليمسّ بسلاسة دراميّة تأريخ حالة الجماعة.
يرى جابر أنّه “لا يوجد فرد بدون جماعة على خشبة المسرح”. ويقول: “أنا أنتمي إلى بيئة لا أعرف طبيعتها وتركيبتها، أنا ابن هذا الفساد أو ابن هذه الحرّيّات، هي مجتمعات متعدّدة ومتناقضة في بلد واحد. في هذه الأثناء، بحثي أن أكوّن توازني النفسيّ الخاص أوّلًا، وأشعر أنّي معرّف عنّي، من أنا ضمن هذه الفئات. في الوقت نفسه، لديّ هاجس المعرفة، معرفة الآخر، هذا الهاجس جزء منّي، يسكنني، من هو الآخر، طبيعته، تركيبته، تقاليده، شعائره، أزماته، وعندما أعرضه على خشبة المسرح الآخرون سيشاهدونه، والذين هم مثله سيشاهدون قصصهم. فالمسرح يعود إلى أصله الأساسيّ وهو تشريح المجتمع”.
النقد سبيلًا للجمهور
ليس للإطراء مكان في أعمال المسرحيّ المشاكس، فغالبيّة أعماله ترتكز على جدليّة النقد “اللابس” ثياب الكوميديا السوداء. فعلى سبيل المثال، يشرّح جابر النسيج الاجتماعيّ البعلبكيّ في “هيكالو”. يضيء على التمدّد العشائريّ في حي الشروانة في بعلبك، وكيف أنتج “ترانسفير ديموغرافيّ من خلال سيطرة الشيعة على الحيّ ذات الطابع المسيحيّ سابقًا. لا يكتفي عند هذا الحدّ من النقد، بل يتعدّاه ليتحدّث عن “بلطجة” رجل دين اسمه نوفل يتّخذ من التقوى كلّ حصانات الدنيا.
جابر: أنا أنتمي إلى بيئة لا أعرف طبيعتها وتركيبتها، أنا ابن هذا الفساد أو ابن هذه الحرّيّات، هي مجتمعات متعدّدة ومتناقضة في بلد واحد
ومن انتقاد سطوة العشائر والسلطة الدينيّة ينتقل جابر إلى التصويب على السلطة الظالمة لقرى بعلبك، فيروي بإبداع دراميّ أنّ جدّ عباس جعفر نزح من الجرد إلى بعلبك، قرب الهياكل، طمعًا بالكهرباء، قائلًا “لو طلعت الكهرباء وطلعت المدرسة، ما كانوا نزلوا بيت جعفر من الجرد إلى حيّ الشراونة”.
ثنائيّات متناقضة
ثنائيّة الحرب والسلم تتحرّك في “من كفرشيما للمدفون”، حيث يتجلّى فيها الانقسام حول زمن السلم بقول ناتالي نعّوم: “الحرب الأهليّة اللبنانيّة بلّشت بـ13 نيسان 1975، أيمتى خلصت؟ خلصت الحرب الأهليّة اللبنانيّة لمّا دبحوا بعضن المسيحيّين وخلّصوا على بعضن وما عاد في حدا يخلّصن، حتّى المخلّص شال إيدو منهم. وخلصت الحرب وفتحوا المعابر (شرقيّة غربيّة). هلّأ الغربيّة فتحت كتير عل الشرقيّة بس الشرقيّة نو”.
أمّا “شو منلبس؟” هذا السؤال الفضفاض الذي تنقّل فيه إبداع جابر من لبس الفتاة اليساريّة الجنوبيّة، إلى الملبس السياسيّ الذي كان رائدًا في محاربة إسرائيل، لكنّه واجه “ظلم ذوي القربي”. يغوص عمل جابر في زمن الثمانينيّات، عندما كان الشيوعيّون اللبنانيّون روّاد مقاومة إسرائيل، الذين بكوميديا سوداء اغتيلوا من الإسلام السياسيّ داخليًّا وكانوا لا يجرؤون على المواجهة واضعين استهدافهم تحت شمّاعة الطابور الخامس. ثنائيّات متناقضة عن داعين إلى لبنان ديموقراطيّ، دون ممارسته في عائلاتهم تحت ذريعة ضرورة مسايرة المحيط الاجتماعيّ.
الاعتراف بالهزيمة
وليس بعيدًا من هذه الثنائيّات، وعن موت بيروت الذي تحدّث عنه يحيى جابر سابقًا، يقرّ يحيى جابر بهزيمة التيّار الديمقراطيّ في البلد، جاعلًا ممّن كانوا رفاق الأمس، محلّ نقد اليوم، لا بل أكثر من ذلك، جعلهم يصغون إلى مسرحه متقبّلين الهزيمة ومصفّقين لتكرار عبارة (بيّي راح مع هالعسكر حمل سلاح راح وبكّر بيّي علّا.. بيّي عمّر حارب وانهزم بعنجر).
إسدال الستارة
بين مسرحيّة وأخرى، يبدو أنّ تحيّة يحيى جابر وصلت إلى “بيروت”، مسدلًا الستار على مسرحيّاته الأربع، جاعلأ من خشبة المسرح، خشبة خلاص لجمهور متعطّش لتذوّق المسرح وإنْ بثنائيّات تضرب على وتر بلد في طور الارتطام.