يهود صيدا… حكايات خلف الأبواب
في العام 1985 غادر آخر يهودي مدينة صيدا، تاركاً وراءه تاريخاً ينوف على الألف عام من الوجود اليهودي في عاصمة الجنوب، ليكونوا من نسيج المكان، وليسوا أقلّية على هامشه. مشى ذكي لاوي وعائلته بحقائبهم الكثيرة، بعد أن أوصدوا آخر الأبواب في الحارة التي تحمل إسمهم “حارة اليهود”، بما فيها من كنيس، وفرن خاص بخبز المصوت، وعقارات كثيرة وبساتين ودكاكين ومدرسة ومقبرة ومقامات. في تلك الأزقة كانت تصدح الأناشيد الدينية، وأغنيات أمل شوقي المطربة اليهودية اللبنانية التي غادرت بدورها منذ سنوات، صحبة زوجها الملحن سليم بصل.
التسرّب من المكان
كان عام 1948 نقطة تحوّل لناحية التواجد اليهودي في لبنان، إذ بدأت صيدا تفرغ منهم شيئًا فشيئًا، بعد معاينتهم لتهديدات جدّية، ليس من جيرانهم، إنما من بعض المتحمّسين الذين رسموا علامات الاحتجاج على جرّارات محلاتهم عقب النكبة، ثم كان التكسير لبعض محتويات محالهم، أو سياراتهم، على إيقاع ما كان يفعله الاسرائيليين في فلسطين، وكأنهم بذلك يطبقون قانون نيوتن “عندما يمارس جسم واحد قوة على جسم آخر، يواجه الجسم الأول قوة تساوي في الحجم وتتعارض في الاتجاه مع القوة التي يمارسها”.
كان عام 1948 نقطة تحوّل لناحية التواجد اليهودي في لبنان، إذ بدأت صيدا تفرغ منهم شيئًا فشيئًا، بعد معاينتهم لتهديدات جدّية، ليس من جيرانهم، إنما من بعض المتحمّسين الذين رسموا علامات الاحتجاج على جرّارات محلاتهم عقب النكبة
يقول المؤرخ الصيداوي طالب قره أحمد “في العام 1967 أُجبر أحد اليهود من قبل بعض الصيداويين على المشاركة في مظاهرة تدعم الرئيس المصري جمال عبد الناصر مستخدمين القوة، الا أن تدخل أحد الصيداويين أنقذه من بين أيديهم. وبعد أن غادر اليهودي الى البرازيل بقي على تواصل مع الشخص الذي أنقذه”.
سنة 1962 أقفلت مدرسة “الإليانس” اليهودية، أبوابها بشكل نهائي في صيدا، نظراً لتقلّص عدد اليهود بشكل ملحوظ، وها هو رئيس الطائفة يوسف بوليتي يغادر صيدا بدوره، نحو فلسطين “إرض الميعاد حسب اعتقاده”، هو الذي كان يتاجر بالقماش، ويمتلك منازل عدة في صيدا وبيروت وبحمدون، عدا عن البساتين والمحال.
أيضاً غادر الحاخام المسؤول عن الذبائح، وبدأت ندرة وجود خبز الماصوت، تنعكس على تطبيق الطقوس المعتادة عندهم.
يؤكد مختار محلّة مار الياس في صيدا، إيلي الجيز أن “اليهود خرجوا قسرًا من لبنان، ومن صيدا تحديدًا. ويعود ذلك إلى الأوضاع المتوترة التي شهدتها المنطقة وانتشار الفوضى بين الأحزاب، إلى جانب دخول الفلسطينيين. لكن اليهود لم يتعرضوا لأذى من جانب الصيداويين أنفسهم”.
لا شك ان بعض يهود لبنان تحوّلوا إلى جواسيس لصالح الدولة العبرية، وها هي سيدة المجتمع شولا كوهين، قد حصلت على لقب “لؤلؤة الموساد” لعملها لسنوات في لبنان كجاسوسة لهذا الجهاز. لم تكن شولا جاسوسة عادية، فهي تمكنت في خلال علاقاتها من الوصول إلى مراكز القرار ونسج صداقات مع شخصيات سياسية وأمنية بينها وزراء ونواب إلى أن تم كشف أمرها وسجنها ثم سلمت إلى إسرائيل بعد حرب1967 في إطار عملية تبادل اعتبرت الأولى من نوعها بين البلدين.
دكاكين ومِهن
متشعّبة هي المهن والمجالات التي اشتغل بها يهود صيدا، فكان من بينهم الغنيّ والفقير، والموظّف والمرابي، أما في السلك العسكري فقد احتلّ الضابط الصيداوي إيليا بصل مركز “مفوّض عام” في الشرطة وهو أعلى رتبة يبلغها يهودي في لبنان. في صنعة الخياطة تميّز آل أشير، ومن بينهم يوسف، توفيق، فؤاد، ريمون، تانان. في حين انفردت عائلة زيتونة بانتاج بنطلون الديولون، الذي يتميّز بوجود مطاّطة في أسفله. أما ماير برزلاي فكان تاجرًا، وكان مثله شحادة يوسف بوقعي، بينما امتلكت جوزفين نكري أربعة دكاكين، فيما لقّب الدكتور نسيم شمس بـ”طبيب الفقراء” وكانت عيادته في بيروت. في الصياغة اشتهر إلياهو مراد لاوي، بينما امتلك أسحق حليم بلسيانو دكانًا، وعُرف شحادي خليلي بتنجيد الفرش واللحف.
كان يعقوب خضري حاخام الطائفة الاسرائيلية في حارة اليهود، وابراهيم ديوان مختارًا لطائفة اليهود، في حين كان اسحق ديوان من الأثرياء الذين بنوا ثرواتهم من الربا، وثروة ابراهيم شمنطوب زيتوني بنيت على النسيج، حيث امتلك مع شريك له معملاً لغزل الحرير الوطني والقطن وشباك الصيد.
امتلك يوسف زيتوني محلًا لبيع الأقمشة، وأبو موسى شحادي امتلك دكانًا في سوق البازركان، وكان مختارًا ومطهرًا.
يقول الدكتور طالب قره أحمد “لقد كان لأحد أفراد عائلة ديوان كونتوارًا في ساحة الشهداء يقوم عبره بعمليات التسليف، وخصوصًا لأهالي الجنوب الذين كانوا يمرون في ضائقة مادية وقتها. لكنّهم لا يسلّفون اليهودي لأنهم يعتقدون بأن الفائدة ضرر، وهم لا يريدون إلحاق الأذى بأبناء الطائفة”. والدكتور قره أحمد هو صاحب كتاب “الطائفة اليهودية في مدينة صيدا” وفيه سرد مفصّل لكل ما يتعلّق بهم تاريخًا وحاضرًا.
انتخابيًا، كان اليهود منقسمين تجاه نائبيّ صيدا حينذاك معروف سعد ونزيه البزري. وكانت لهم آراء وازنة ومؤثرة في الشؤون المتعلّقة بمصلحة المدينة، بينما كانت مواقفهم متباينة ممّا يحصل في فلسطين، فبعضهم ذهب إلى هناك، بينما أكثرهم يمّمو شطر كندا وأميركا وأوروبا.
إدارة الأملاك
اعتمد يهود صيدا قاعدة أن يكونوا أسياد أعمالهم، لا أُجَراء عند أحد. كما امتلكوا بيوتهم ومحلاتهم، متجنبين الاستئجار، فكانت لهم عقاراتهم المسجلة بأسمائهم حتى يومنا هذا، وقد كلّفوا المحامي باسم الحوت بمتابعة قضاياهم في لبنان. المفارقة أن الحوت من المسؤولين الكبار للجماعة الاسلامية في بيروت، فلَم يسلم من الغمز واللمز، حتى ضمن صفوف الجماعة، خاصة حين حضر الافتتاح غير الرسمي للكنيس اليهودي “ماغين أبراهام” في محلة وادي أبو جميل في بيروت، بعد ترميمه بمبلغ طائل، دفعت شركة سوليدير 15 % منه، حسب القانون الذي يقول بالمساهمة بهذه النسبة في بناء دور العبادة.
انتخابيًا، كان اليهود منقسمين تجاه نائبيّ صيدا حينذاك معروف سعد ونزيه البزري. وكانت لهم آراء وازنة ومؤثرة في الشؤون المتعلّقة بمصلحة المدينة، بينما كانت مواقفهم متباينة ممّا يحصل في فلسطين
بالموازاة يتابع إيزاك ديوان (الذي يتولّى منصبَ مسؤول مهمّ في المصرف المركزي في نيويورك) منذ سنوات طويلة الإشرافَ على إدارة أملاك يهود لبنان في صيدا تحديدًا وحصريًا، ويتولى أيضًا توكيل محامين لبنانيين لمتابعة تحصيلِ إيراداتِ العقارات اليهودية في صيدا سنويًا. المتابع لطريقة إيزاك في التدقيق والتوثيق، سوف ينتبه أنه غير عابئ بالمردود القليل الذي تجنيه المحاصيل والعقارات، فهو حريص أيضًا على عدم التفريط بأي سند ملكية، مهما كانت العروضات باهظة.
عاداتهم
حين كانت ظروف العيش عادية دون منغّصات، كان اليهود يطبقون كامل وصايا التوراة وباقي كتبهم المقدسة، فمن عاداتهم التي مارسوها في حارتهم في صيدا، أنهم وبعد الانتهاء من صيامهم كانوا يضرمون النار بالقرب من الكنيس، ويقفزون من فوقها من جهة إلى أخرى. أما الفحم الناتج عن إشعال النار تلك، فقد كان اليهود يضعونه في دكان لهم في الحارة ليباع إلى عامة الناس بأسعار مخفضة، بالاضافة إلى الرماد الذي كان يعطى مجانًا ليُصار إلى استعماله في غسل الثياب بمياه يسمونها “ماء الصفوة”. هذا ما يرويه الدكتور طالب قره أحمد في كتابه، ليتابع: “أهم ما ميّز حارة اليهود في صيدا القديمة “مخزن الكلس” لأصحابه آل البنّي، إذ كان يباع الكلس المذاب لأهالي مدينة صيدا كافة، الراغبين في تبييض منازلهم، بالإضافة إلى بيع تلوينة الكلس ذات الألوان المتعددة كالنيلي والزهري”.
بالنسبة إلى نعوشهم، فكان يصنعها النجار أبو محي الدين حنينة في سوق البازركان. أما حفلات الزفاف عند اليهود في صيدا فكانت في أغلبها بسيطة لا يظهر عليها التكلُّف، لكنهم كانوا يأتون بالعروس إلى الحمام ويضعونها في حوض الماء إلى أن تبلغ انقطاع النفس، عندها ينتشلونها من الحوض ليصبح بذلك زواجها حلالاً.
ومن عاداتهم يوم السبت أنهم لا يشعلون نارًا ولا يطفئونها، فكانوا يطلبون من أطفال المسلمين إشعالها ليستخدمونها لتحضير الطعام أو القهوة. في حالات أخرى، يفضلون زيارة جيرانهم المسلمين في الحارات الثانية بغية ارتشاف القهوة عندهم دون ان يتورّطوا بارتكاب فعل محرّم. ومن الأمور المحظورة على اليهودي، الزواج من غير دينه، ولم تشهد صيدا مثل هذه الحالة، لكنها شهدت زواج بعض اليهوديات من مسلمين مثل الشيخ حسن الحبال صاحب مجلة “أبابيل”.
مقامات وعائلات
الى جانب الكنيس اليهودي (الموجود حتى الآن، وتسكنه عائلة سورية) والجبانة في صيدا، كانت هناك مدرسة الاليانس أو مدرسة الاتحاد الاسرائيلي العالمي والتي تم تأجيرها إلى بعض الصيداويين وما زالوا حتى اليوم فيها. تمتد عقارات اليهود من حارة اليهود الى منطقة الجمرك القديمة. أما تجاريًا فهم موجودون قرب مركز الدرك القديم وصولًا الى الفوال الغُربي.
لليهود أيضاً أكثر من مقام في صيدا، أشهرها مقام النبي داوود وصيدون وشمعون، أما مقام زيبولون فله أهمية خاصة عند اليهود، فهو أحد أبناء يعقوب كما يُعتقد أن زيبولون هو أحد آباء أسباط اسرائيل الإثني عشر. في حين يعتبره المسلمين مقامًا لصحابيّ جليل، علمًا أن الكتابة المحفورة داخل المقام، تحمل أحرفاً عربية وعبرية.
أما أبرز العائلات اليهودية في صيدا فهي: أشكينازي، أشير، الياهو، بانيستي، براهام، برزلاي، بصل، بلسيانو، بنيشتا، بوقعي، بوكاسي، بوليتي، حابية، حديد، حسونة، خاتين، خديرا، الخضري، خليلي، خياط، دانا، الدوكال، ديوان، ذيون، زاوي، زبولون، زكا، زيتوني، ساروفيم، سالم، شحادي، سرور، شعيا، شكري، شماس، شمس، شمعون، شمنطوب، شموئيل، الصايغ، صباغ، الصفدي، عدس، عرمان، عزرا، عصيص، فارحي، فورتي، كوهين، لاوي، المزراحي، معتوق، من، منصور، موسى، نداف، نسيم، نكري، هندي، يعقوب،…..
منذ سنوات قليلة، عاد أحد يهود صيدا (من آل ديوان) إلى المدينة، لزيارة مدفن جده في مقبرة اليهود، حيث طلب من رئيس الطائفة في بيروت تقديم طلب لتصوين المقبرة من ماله الخاص، وقد وافقت البلدية على الطلب، خاصة ان المقبرة مهملة، وتنتهك أحياناً من الفضوليين والرعيان.
لمحة تاريخية
أشار الرحالة الانكليزي ادوار روبنسون عند زياته صيدا في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أن اليهود كانوا يغلقون بوابة حيّهم كل ليلة، ويسلّمون مفتاحها إلى قاضي المدينة الذي كان يقوم بفتحها في الصباح التالي. وكان اليهود يمارسون المهن التجارية والاقتصادية التي تدرّ أموالاً طائلة. وكان بعضهم يبيع الاقمشة بالأوقية. وقد امتهنوا مهنة تسليف الأموال وأخذ الفوائد بربا فاحش، بينما كانوا يقرضون بعضهم البعض بدون ربا.
كان لليهود في لبنان سبعة عشر كنيسًا، وكانت لهم حياة اجتماعية متكاملة الحلقات الثقافية والاقتصادية. وكان عددهم قبل الحرب الاهلية نحو 22 ألف نسمة. رغم هذا لم يكن لهم نائب كأقلية، علماً انهم قد تقدّموا بهذا الطلب للرئيس إميل إدّه.
أصوات متوارية
لقد فرغت صيدا بشكل كلّي من اليهود، بينما يتواجد أكثر من مئتيّ يهودي في لبنان، بعضهم يلتحف ديناً آخر للتمويه وإبعاد الشبهات، فهُم يخافون من أي تصرفات انتقامية، ونتيجة الخوف أيضاً يزور بعض اليهود وطنهم لبنان سرًا ويتوجهون إلى منطقة وادي أبو جميل، أو حارة صيدا وتحديدًا مقبرتها اليهودية.
أما عدد اليهود اللبنانيين على لوائح الشطب الانتخابية، أي الذين يحق لهم التصويت فيبلغ حوالي 4300. لكن أرقام لوائح الشطب هذه ليست دقيقة إذ تضم أسماء أشخاص توفوا ولم تسجل وفياتهم.