يوسف السودا مهندس القوميّة اللبنانيّة

في تاريخ لبنان الحديث أسماء كُتبت في ذاكرة النضال الوطنيّ باعتبارها ركائز فكريّة وسياسيّة ساهمت في بلورة فكرة الوطن نفسه. يوسف حنّا السودا (1891– 1969) واحد من هؤلاء، بل لعلّه من أكثرهم قدرة على الجمع بين القانون والفكر والسياسة والصحافة، وبين الرؤية الوطنيّة والدبلوماسيّة، وبين الالتزام بالهوية اللبنانيّة والانفتاح على المحيط. هو نموذج للمثقّف– السياسي الذي لم يكتفِ بالتنظير بل سعى إلى تحويل أفكاره إلى مؤسّسات وأحزاب وجريدة، فكان صوته في مواجهة الطائفيّة والاستعمار معًا.

بيت بين التاريخ والأسطورة

ولد يوسف السودا في بلدة بكفيّا المتنيّة العام 1891، في بيئة عائليّة جمعت بين الوجاهة الاجتماعيّة والانكسارات الاقتصاديّة. والده حنّا، مالك ثريّ، مارس تجارة التبغ، قبل أن تجبره مغامرة ماليّة في مصر على بيع أراضيه لتسديد الديون. بكفيّا نفسها، كما يشير التاريخ، مدينة متعدّدة الطبقات الحضاريّة. هذه البيئة المشبّعة بالتاريخ والرمزيّة شكّلت الخلفيّة الأولى لشخصيّة السودا: إدراك عميق للهويّة المكانيّة، وشغف مبكّر بلبنان كوطن متجذّر في الزمن.

في الخامسة من عمره، أُرسل إلى مدارس “اليسوعيّين”، حيث تشكّلت لديه بذور الفكر القانونيّ والانفتاح الثقافيّ. وما لبث أن انتقل إلى بيروت، فالتحق بـ “الحكمة” ثمّ بـ “القدّيس يوسف”، قبل أن يشدّ رحاله إلى مصر حيث درس الحقوق في الإسكندريّة. هناك، انفتح على عالم عربيّ أوسع، وتعرّف إلى حركات الإصلاح السياسيّ والفكريّ، ما دفعه ليؤسّس مع مجموعة من الأدباء والسياسيّين اللبنانيّين حزب “الاتّحاد اللبنانيّ” في المهجر، وليضع اللبُنات الأولى لفكر قوميّ لبنانيّ مستقلّ.

من مصر إلى بيروت

كانت سنوات الإسكندريّة (1908– 1921) مدرسة سياسيّة كبرى. عاش السودا بين جاليّات عربيّة متشابكة، ورأى كيف تصوغ الأمم لنفسها رايات وهويّة، بينما لبنان ما زال خاضعًا لسلطة الباب العالي. في كتابه “في سبيل الاستقلال”، كتب عن تلك اللحظات التي أيقظت فيه الحلم اللبنانيّ: “كان لكلّ من زملائنا الأجانب عيد وطنيّ وراية، أمّا نحن فكنّا نحتفل بعيد الجلوس ونرفع راية تركيّا… فمن نحن؟” كان الجواب بالنسبة إليه: “نحن لبنانيّون”. تلك الصيحة المبكّرة تختصر مشروع حياته.

عاش السودا بين جاليّات عربيّة متشابكة، ورأى كيف تصوغ الأمم لنفسها رايات وهويّة، بينما لبنان ما زال خاضعًا لسلطة الباب العالي.

عاد إلى بيروت العام 1923 محمّلًا برؤية جديدة. لم يكتفِ بالمحاماة، بل سرعان ما اندفع إلى تأسيس المؤسّسات: فرقة الكشّافة (1925) لتنشئة جيل جديد من الشباب المؤمن بالوطن، ثمّ حزب المحافظين (1926)، وجريدة “الراية” التي شكّلت منبرًا سياديًّا ضدّ الانتداب، وساندت فكرة لبنان المستقلّ في حدود واضحة تحت علم الأرزة.

السياسة والنضال

انخرط السودا في البرلمان نائبًا عن المتن خلفًا لنعّوم لبكي العام 1926، ثمّ عن الشمال العام 1929. لكنّ نشاطه الأبرز كان على جبهة الصحافة والعمل الحزبيّ. “الراية”، التي صدرت بين 1926 و1937 ثمّ عادت لاحقًا، كانت منصّة فكريّة أراد منها أن تكون “راية الاستقلال”. على صفحاتها شنّ معاركه ضدّ الانتداب، وكتب افتتاحيّات تعبويّة ربطت بين التحرّر السياسيّ والمواطنة.

في ثلاثينيّات القرن الماضي، حين احتدمت معركة الريجي واحتكار التبغ، وقف السودا في صفّ الحركات الشعبيّة، مؤكدًا أنّ الاستقلال لا يكون فقط بإعلان سيادة سياسيّة، بل بإنهاء التبعيّة الاقتصاديّة. ورأى أنّ “لبنان الصغير موت اقتصاديّ والاتّحاد مع سوريا موت سياسيّ”، فطرح معادلته الشهيرة: “لبنان الكبير”، بحدوده الطبيعيّة التي تشمل البقاع، كي يتجنّب مجاعات جديدة ويوفّر مرفأ على المتوسّط. كانت حججه اقتصاديّة– اجتماعيّة بقدر ما هي سياسيّة، وهو ما جعله مفكّرًا عمليًّا أكثر من كونه حالمًا مجرّدًا.

الميثاق الوطنيّ قبل 1943

في العام 1938، أيّ قبل اتّفاق بشارة الخوري ورياض الصلح بخمس سنوات، بادر يوسف السودا إلى طرح “ميثاق وطنيّ” للتعايش، بالتعاون مع تقيّ الدين الصلح ونصري المعلوف. كان مقتنعًا أنّ حياة لبنان في اتّحاد طوائفه، وأنّ المسيحيّ والمسلم “يجهلان على أيّ شيء يختلفان”. هذا الميثاق المبكّر يكشف أن السودا كان مفكّرًا في صيغة العيش المشترك، واضعًا الأساس لفكرة لبنان المتعدّد، الدولة– الرسالة، التي ستصبح لاحقًا شعارًا متداولًا.

حين اعتُقل قادة الاستقلال في الـ 11 من تشرين الثاني (نوفمبر) 1943، كان السودا أوّل من دعا اللبنانيّين إلى التظاهر، مجسّدًا موقعه كوطنيّ لا يساوم.

كان مقتنعًا أنّ حياة لبنان في اتّحاد طوائفه، وأنّ المسيحيّ والمسلم “يجهلان على أيّ شيء يختلفان”

الدبلوماسيّة والعمل الحكوميّ

بعد الاستقلال، نقل السودا تجربته إلى السلك الدبلوماسيّ. عُيّن أوّل وزير مفوّض للبنان في البرازيل (1946–1952)، حيث نجح في ربط الجاليات اللبنانيّة بالوطن الأمّ، وجعل من الدبلوماسيّة جسرًا ثقافيًّا واقتصاديًّا. ثمّ شغل منصب سفير لدى الفاتيكان (1953– 1955)، ما منح لبنان حضورًا لافتًا في أرفع الأوساط الكاثوليكيّة.

العام 1958، عُيّن وزيرًا للعدليّة والشؤون الاجتماعيّة في حكومة رشيد كرامي الأولى بعد أزمة الثورة. لكنّ مشاركته هذه كلّفته غاليًا: فقد هاجم حزب الكتائب بيته في بكفيّا وأحرقه، تعبيرًا عن رفضهم لموقفه.

فكرٌ متعدّد الوجوه

لم يكن السودا سياسيًّا وحسب، بل أديبًا ومفكّرًا. في مؤلّفاته عديدة تلمح اتساع اهتماماته: من “المسألة اللبنانيّة” (1910) إلى “بين القديم والحديث” (1919)، ومن “تقرير عن الامتيازات الأجنبيّة” (1921) إلى “لبنان وبروتوكول الإسكندريّة” (1944)، ومن “رسالة إلى الشباب” (1956) إلى “الأحرفيّة: دعوة لتبسيط اللغة العربية” (1960).

في “الأحرفيّة”، دعا إلى إصلاح اللغة العربيّة وتبسيط قواعدها، إدراكًا منه أنّ النهوض لا يتمّ فقط بالسياسة بل بالثقافة أيضًا. وفي “رسالة إلى الشباب”، وجّه نداءً للأجيال المقبلة كي تتحمّل مسؤوليّة الوطن، مؤكدًا أنّ الاستقلال لا يُصان إلّا بوعي شبابيّ متجدّد. أمّا في “تاريخ لبنان الحضاريّ” (1972)، فقد أراد أن يضع للبنان تاريخًا جامعًا يتجاوز الطوائف إلى حضارة واحدة.

يذكر أن الحزب لم يعمّر طويلًا. بعد سنتين، تلاشى نشاطه، ربّما بسبب طبيعة البنية السياسيّة اللبنانيّة التي لم تحتمل آنذاك الأحزاب الفكريّة– البرامجيّة، مقابل أحزاب الزعامة والطائفة. لكنّ رمزيّة هذه التجربة تبقى أنّها جسّدت محاولة مبكّرة لصناعة حياة سياسيّة على أسس حديثة.

في الأوّل من آب 1969، أسدل الستار على حياة يوسف حنّا السودا في بلدته بكفيّا، البلدة التي أحبّها وحلم أن يراها صورة مصغّرة عن لبنان الكبير المتعدّد. رحل الرجل الذي كرّس حياته من أجل فكرة الاستقلال، تاركًا وراءه سيرة تتجاوز الشخص لتلامس الكيان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى