يوم غنّى ابن بعلبك حسين منذر “إشهد يا عالم علينا وع بيروت”
أعادت حرب غزّة العديد من الأغاني الفلسطينيّة القديمة والتراثيّة إلى المشهد من جديد، بحيث أصبحت كلّ واحدة منها تختزل مشهدًا مختلفًا من مشاهد المقاومة والانتصار والثورة والخذلان العالمي، المتكرّرة والمتشابهة منذ العام 1948 وحتى اليوم.
ولعلّ كثيرين ممّن غنّوا وردّدوا وتداولوا اليوم الأغنية الشهيرة لفرقة “العاشقين” الثوريّة الفلسطينيّة، “اشهد يا عالم علينا وع بيروت”، من كلمات الشاعر والأديب الفلسطينيّ الراحل أحمد دحبور، لا يعرفون أنّها من غناء الفنّان حسين منذر ابن مدينة بعلبك، الملقب بـ”أبو علي”، والذي سخّر حياته وحنجرته من أجل فلسطين وقضيّتها، ورحل في 17 أيلول/سبتمبر الماضي عن 77 عامًا، قبل أن يشهد على مأساة غزّة المستمرة منذ أكثر من مئة وثلاثين يومًا.
“رصاص العزّ”
الأغنية التي أرّخت الاجتياح الإسرائيليّ لبيروت في العام 1982، هي واحدةٌ من مئات الأعمال الفنّيّة التي قدمتها فرقة “العاشقين” منذ تأسيسها في العام 1978، وصولًا إلى “رصاص العزّ” وقد غنّاها “أبو علي” قبيل رحيله بأشهر قليلة، متوجهًّا بها إلى عرين الأسود وكتيبة جنين، وتوعّد من خلالها “أنّنا نحن من سندقّ طبول الحرب، وأنّنا سنهزم الجنود كلّها في معاركنا”، وأعاد تذكيرنا برابط المقاومة بين لبنان وفلسطين المحتلّة، حيث “جنين بتقلب بيروت” عندما ينادي الوطن أبناءه الشجعان في ساحات الوغى.
لم يكن غريبًا على منذر أن يغنّي القضايا والأوطان كلّها بصوتٍ واحدٍ، فهو القائل عن نفسه ذات يومٍ “أنا عربيّ، لبنانيّ، فلسطينيّ، عراقيّ، أردنيّ، مغربيّ، جزائريّ.. كلّ المكونات العربية داخلي”. أمّا الدحبور فقد كان يظنّ ولسنوات طوال أنّ حسين منذر سوريّ الجنسيّة، بسبب لهجته، ليتبيّن له لاحقًا أنّه لبنانيّ، من أصول فلسطينيّة، ينحدر من القرى السبع اللبنانيّة الفلسطينيّة، والتي حصل لاجئوها على الجنسيّة اللبنانيّة في ما بعد.
لقد عاش في دمشق، في مخيّم اليرموك تحديدًا، حيث انطلقت فرقة العاشقين نحو العالم، الفرقة التي أحبّها وكرّس حياته لأجلها، إلى حد رفضه عرضًا من الأخوين رحباني للغناء مع فيروز في الثمانينات، إيمانًا منه بمشروع هذه الفرقة، وإنسجامًا مع دافعه الأساس للغناء عن القضيّة، وهو ما لم يكن يحمل في طيّاته أيّ رغبة بمكاسب شخصيّة أو سياسيّة أو شهرة ذاتيّة.
لم يترك حسين مخيّم اليرموك حتّى اضطرته الحرب السوريّة إلى ذلك، ولم يترك إيمانه بالعروبة وبوحدة مصير شعوب المنطقة حتّى وفاته، ولم يتخلَّ يومًا عن دوره في أن يصدح بهموم هذه الأمّة، بصوته الجبلي الخام حتى خلال صراعه الطويل مع المرض الذي انتصر على صاحبه أخيرًا.
العاشق في البلاد المحتلة
تنقّل حسين والفرقة في أماكن عديدة حول العالم، إلّا أنّ شرف زيارة فلسطين لم يتحقّق له إلّا مرّات قليلة، كان أوّلها في العام 2010، وثانيها في العام التالي 2011، حيث أقامت الفرقة سلسلة من حفلاتها الموسيقيّة في مناطق مختلفة في الضفّة الغربيّة، وشاركت في مهرجان شعبيّ كبير أقيم في بلدة رام الله، دعمًا لجهود السلطة الفلسطينيّة في تقديم طلب رسميّ ديبلوماسيّ للحصول على عضويّة كاملة للدولة الفلسطينيّة في الأمم المتّحدة في حينه، وهو ما حصل في العام التالي. وقد شارك في هذا المهرجان العديد من الوجوه الفنّيّة والثقافيّة الفلسطينيّة والعربيّة، ممّن سمح الاحتلال بدخولهم عبر المعابر البرّيّة، من دون الحاجة إلى ختم جوازاتهم.
تنقّل حسين والفرقة في أماكن عديدة حول العالم، إلّا أنّ شرف زيارة فلسطين لم يتحقّق له إلّا مرّات قليلة، كان أوّلها في العام 2010، وثانيها في العام التالي 2011، حيث أقامت الفرقة سلسلة من حفلاتها الموسيقيّة في مناطق مختلفة في الضفّة الغربيّة.
أهمّ الزيارت لأبي علي ربما كانت زيارة قطاع غزّة المحاصر في العام 2013، حيث كانت بانتظاره وانتظار الفرقة حشود غفيرة، فغنّوا للثورة والأمل سويًّا للمرّة الأولى، وللوحدة بين جميع أركان الشعب الفلسطينيّ، لمن يعيش تحت الحصار ولمن يعيش تحت الاحتلال، وللاجئين المشتّتين في أصقاع الله الواسعة. تحدّث حسين منذر عن تلك الزيارة قائلًا إنّه شاهد في أهل غزّة “صورةً مشرّفة للشعب الفلسطينيّ بأكمله”، وقد عبّر عن فخره بهم بكونهم “عراة الصدور يواجهون طائرات ودبّابات الاحتلال”.
كرّمت فلسطين منذر في حياته ومماته، فقد منحته الرئاسة الفلسطينيّة “وسام الثقافة والعلوم والفنون” مستوى الابتكار “تقديراً لمسيرته الطويلة في رفع اسم فلسطين عاليًا، والتزامه بالغناء مع فرقة العاشقين ونضاله لأجل ما آمن به من قضايا”. وكذلك شارك عدد كبير من القيادات الفلسطينيّة في جنازته المهيبة في دمشق، وظلّت رام الله وفيّةً لمنذر وحافظةً لإرثه، فقد أقامت وزارة الثقافة، والاتّحاد العام للفنّانين الفلسطينيّين التعبيريّين، يوم وفاته، بيت عزاء في مدينة رام الله، وكان في استقبال المعزّين، وزير الثقافة عاطف أبو سيف، والأمين العام السابق للجنة الوطنيّة للتربية والثقافة والعلوم إسماعيل التلاوي.
مايسترو العاشقين: “أنا عربيّ”
هذا الحبّ العميق حمله “أبو علي” لفلسطين، وعبّر عنه بكلّ الطرق المتاحة، اختصره في جملة واحدة صادقة “أنا عربيّ، كينونتي الداخليّة عربيّة، أذوب عشقاً في فلسطين، فقد أحببتها وأنا ولد، وها أنا أكبر على حبّها عاشقاً ثراها، وغنّيت لوطني الأكبر وسأستمر في الغناء إليه”.
لم يكن حسين منذر مؤسّس الفرقة كما يشاع، إلّا أنّه كان “المايسترو” فيها، وهو لقبٌ استحقّه عن جدارة، إذ كان صوته الشجيّ الأساس في تشكيلها. وكان أحمد الدحبور قد سمع حسين يغنّي في إحدى دوائر منظّمة التحرير، فشعر بأنّ “جبلًا يغنّي”، وأنّ هذا الصوت هو ما كان ينقص الفرقة ليكتمل مشروعها وتصبح بما صارت عليه. أمّا فكرة إنشاء الفرقة فقد ولدت في ذهن الراحل عبد الله الحوراني، لكنّ من شكّلها حقًا وأعطاها اسمها الأوّل هو الملحّن الفلسطينيّ حسين نازك (1942- 25 أيار/مايو 2023).
وضع أبو علي كلّ طاقته وشغفه وجهده كي يتحقّق حلم هذه الفرقة، واستطاع بحضوره القويّ وصوته وغنائه الخارج من القلب، أن يدخل إلى قلب كلّ عاشقٍ للقضيّة، وكان تأثرّه جليًّا وواضحًا في أدائه، حيث كان يبكي في أثناء تسجيل الأغاني، وأحيانًا كان يبكي في بعض حفلاته، ويُبكي الجماهير الغفيرة معه، وتختلط الدموع والصيحات والأشجان بين الحاضرين وأعضاء الفرقة جميعًا.
أمّا على صعيد شخصيّته، فقد كان حسين منذر، الرجل الصلب الذي يعكس بملامحه كلّ معاني الكبرياء والإباء، رجلًا حنونًا وطيّب القلب، وفق ما يعرفه عنه المقرّبون منه، وكان متواضعًا، لا تغرّه مكانة اجتماعيّة أو شهرة شخصيّة، حمل حبّ فلسطين في قلبه، ووضعها نصب عينيه.
رحل “أبو علي” عن عالمنا منذ أشهر قليلة، إلّا أنّه ترك وراءه إرثًا هائلًا للمقاومة الثقافيّة الفنّيّة، التي لا تقلّ أهمّيّةً عن مناحي المقاومة الأخرى، وظلّ صوته رسالةً لمن يسعون إلى المقاومة ولا يملكون سوى حناجرهم وموسيقاهم وكلمتهم الحرة وصوتهم العالي، كي لا يتوقّفوا وألّا يحبطهم اليأس.