12 بلدية منحلّة في بعلبك بخلافات عائليّة وسياسيّة والتنمية على الرفّ
على مسافة أشهر قليلة من الانتخابات البلديّة والاختياريّة المزمع إجراؤها أواخر أيار المقبل، بعد التمديد الثاني لها في العام الماضي، تقف عديد من قرى بعلبك الهرمل موقف المتفرج، خصوصًا تلك التي أضحت بلا بلديّات قائمة، أي منحلّة.
حزين، حوش الرافقة، رأس بعلبك، نحلة، الخريبة، حورتعلا، الفاكهة- الجديدة، النبي عثمان، عرسال، الكنيسة، نبحا الدمدوم، سرعين التحتا، اثنتا عشرة بلديّة منحلّة من أصل 74 بلديّة تتوزع على قرى وبلدات محافظة بعلبك الهرمل، والأسباب كثيرة والتبريرات جاهزة، لكنّ غياب الأسباب الفعليّة الموجبة هي القاسم المشترك بينها جميعها، لم تسقط هذه البلديات بسبب الخلافات على خطط التنمية المستدامة، أو بسبب تضارب رؤى إنارة البلدات بغياب الدولة، إنّما الأسباب كلّها تعود للنكايات السياسيّة أو الشخصيّة والعائليّة والزواريب “الضيعويّة” الضيّقة.
الفاكهة بين الشعارات والواقع
دائما يرفع أهالي بلدة الفاكهة- الجديدة شعار العيش المشترك، أيّ المسلم– المسيحيّ، لكن في الانتخابات البلديّة والاختياريّة يعود كثيرون للمتاريس الطائفيّة سواء في تركيب اللوائح أو الرئاسة، ما تسبب بحل البلديّة أكثر من مرّة.
نصري محي الدين أخر رئيس للبلدية قبل حلّها في العام 2019 يقول لـ”مناطق نت”: “البلديات بحسب القوانين والأعراف هي الحكومات المحلّيّة، لكن للأسف منذ عودتها في العام 1998 لم نصل كمجتمع محلّيّ إلى وعي فعليّ لأهمّيّتها، إذ بقيت ذهنيّة الزعامة القبليّة العشائريّة ومتفرّعاتها هي المتحكّم بنا، وأحيانًا تصل لـ”الجبّ” داخل العائلة الواحدة، نأسف كذلك لأنّنا لم نعمل على إيصال شخصيّات على مستوى العمل البلديّ، فما معني أن يصرف أشخاص في بلدة نائية مثل بلدتنا مبلغ 250 – 300 ألف دولار من أجل الوصول إلى رئاسة البلديّة؟ وهل عدم الفوز في الانتخابات يبرّر العمل للإطاحة ببلديّة قائمة؟”.
دائما يرفع أهالي بلدة الفاكهة – الجديدة شعار العيش المشترك، أيّ المسلم – المسيحيّ، لكن في الانتخابات البلديّة والاختياريّة يعود كثيرون للمتاريس الطائفيّة سواء في تركيب اللوائح أو الرئاسة.
يتابع “الريّس” نصري: “سأتكلم من دون أقنعة وبلا مواربة، ما حدا إلو شي عليّي، كفّي نظيف أمام الله والناس وما بخاف من كلمة الحق: سقطت بلديّتنا لأسباب طائفيّة سياسيّة. طغت المصلحة الحزبيّة الفئويّة وتقدّمت على المصلحة المحلّيّة لبلدتنا، حتّى باتت بلدية الفاكهة– الجديدة وكأنّها مشكلة وطنيّة كبرى!”.
ويضيف: “تركت البلديّة وسلّمتها إلى المحافظ في مكتب وزيرة الداخليّة آنذاك ريّا الحسن، كان في صندوقها خمسة مليارات ليرة، كيف صرفت أين تبخّرت؟ لا أعرف، أين هم منها الذين أسقطوا البلديّة؟ لم نرَ حرصهم على المال العام”.
ويلفت “الريّس” محي الدين إلى أنّ “الخدمات الإنمائيّة غائبة كلّيًّا عن بلدتنا اليوم، من طرقات وإنارة ومشاريع. أمّا النفايات فيدفع المواطنون شهريًّا لإزالتها كي لا تتكدّس في الشوارع، لكنها حلول مرتجلة ومؤقّتة، إذ إنّ الحل الفعليّ هو العمل لإيصال مجلس بلديّ هدفه إنماء البلدة في داخل حدود البلدة وعدم تجييرها للأحزاب خارجها”.
خلافات حزبيّة فرطت عقد البلديّة
ويختم: “نحتاج مجلسًا بلديًّا يجمع المتخصّصين والأوادم وأصحاب الكفّ النظيف، يتركون كلّ انتساب لهم، دينيّ أو حزبيّ أو عائليّ خارج باب البلديّة، لأنّه بغير ذلك سنبقى ندور في حلقة مفرغة. وأملي من البلديّة المقبلة أن تستمرّ برفض إقامة خزّانات شبكة الصرف الصحي للمنطقة المقترحة في بلدتنا، وقد كان لي شرف رفضه سابقًا برغم كلّ المغريات والتسهيلات الشخصيّة التي تلقّيتها”.
لم تكن الخلافات التي أدّت إلى انحلال المجالس البلديّة شخصيّة عائليّة أو صراع أحزاب متناحرة فحسب، بل وصل الصراع بين حلفاء الصفّ الواحد. فبلدة النبي عثمان، العرين التاريخيّ للحزب القوميّ السوريّ الاجتماعيّ في البقاع الشماليّ، تشهد أيضًا وجودًا قويًّا لـ”حزب الله”، وأنتج التحالف بينهما البلديّة المنحلة حاليًّا.
يقول مختار البلدة، الثائر على كلّ “موبقات” البلد، محمّد علي نزها لـ”مناطق نت”: “في العام 2016 أنتج التحالف الحزبيّ لائحة مشتركة فازت بكامل أعضائها، وكان الأتفاق تقاسم الرئاسة مناصفة بين الحزب القوميّ وحزب الله، لكن للأسف، أدّت الحسابات المتداخلة بين الشخصيّ العائليّ والحزبيّ إلى التراجع عن الاتفاق وبالتالي حلّ البلديّة”.
المحاصصة دمّرت البلد
يتابع المختار نزها: “أنا ولدت قوميًّا سوريًّا وسأموت هكذا، لكنّني ضدّ كلّ التدخّلات السياسيّة للأحزاب في عمل البلديّات وخصوصًا في القرى والبلدات. لقد فشلت المحاصصة في كلّ شيء، دمّرت البلد كلّه، كلّ المآسي التي نعيشها اليوم في لبنان سببها تقاسم الحصص والمغانم. لقد أنشأوا دولًا في داخل الدولة، والحمد الله أنّ المؤسّسة العسكريّة بقيت خارج حصصهم، وإلّا فلن يبقى بلد على الإطلاق”.
يتابع المختار متسائلًا: “على ماذا نختلف؟ هل هناك سبب فعليّ لتعطيل المؤسّسة الأم في البلدة؟ هل يجب الرضوخ دائمًا للاستبداد العائليّ العشائريّ؟ الحمدالله ليس بيننا عدوات لأنّ عدوّنا واحد هو الذي نراه يوميًّا يقتل الإنسان ويدمّر البنيان، في فلسطين المحتلّة وجنوبنا اللبناني الغالي”.
وردًّا على سؤال حول كيفيّة تسيير أمور البلديّة الخدماتيّة حاليًّا، وكيف تجمع النفايات وتدفع رواتب الموظفين؟ يقول المختار نزهة: “تسير أمور البلديّة على نفقة المغتربين من أبنائنا، بعضهم لديه أعمال مزدهرة خارج لبنان، يرسلون تبرّعات شهريّة لجمع النفايات والمحروقات وتسيير عمل البلديّة بالحدّ الأدنى، بقيت رواتب الموظفين متعثّرة لأشهر معدودة، وتمّت حلحلة جزء منها عبر جمع الضرائب المستحقّة وعبر التبرّعات أيضًا”.
ماذا يتوقّع المختار نزها من أهله في الانتخابات المقبلة؟ يردّ: “أتمنّى لو نستطيع فعليًّا الخروج من السجون العائليّة. وليبدأ كلّ شخص من بيته، وأن نعمل على انتخاب بلديّة تبقى وتستمرّ طيلة عقدها، لو كان لدينا بلديّات فاعلة في هذه الأزمة لكانت ساهمت في حلحلة مشاكل الناس، لا أن تتحوّل هي كذلك إلى مشكلة”.
المختار محمد نزها: أتمنّى لو نستطيع فعليًّا الخروج من السجون العائليّة، وليبدأ كلّ شخص من بيته. لو كان لدينا بلديّات فاعلة في هذه الأزمة لكانت ساهمت في حلحلة مشاكل الناس، لا أن تتحوّل هي كذلك إلى مشكلة.
عندما تغيب الرؤية والكفاءة
لم تبق بلديّة رأس بعلبك بعيدة عن معاناة البلديّات العامّة على مستوى لبنان، بل طالتها براثن الأزمة القائمة وباتت منحلّة هي الأخرى.
يقول المحامي والناشط جهاد واكيم لـ”مناطق نت”: “العمل البلديّ له طابع خاصّ، إذ يجمع بين العمل الوظيفيّ لرئيس البلديّة، لناحية تسيير أعمال البلديّة من جهة، والتنفيذيّ في سعيه لإنماء البلدة، عبر خلق المشاريع التي تساهم في تحسين أوضاعها وتأمين فرص عمل للشباب”.
ويضيف: “كل ذلك غاب في البلديّات المنحلّة، حتّى الموظفين باتوا غير متحمّسين للقيام بواجباتهم الوظيفيّة بسبب الأوضاع الاقتصاديّة ومحدوديّة الرواتب. بالأصل ليس من مهامهم تسيير عمل البلديّة، وغياب الحماس ينطبق أيضًا على من تمّ تكليفه القيام بأعمالها، لذلك الشلل سمة البلديّات المنحلّة ومن بينها طبعا بلديّة رأس بعلبك”.
أسباب عديدة أدّت إلى فرط عقد البلديّة، “لكنّها فعليًّا غير مقنعة، فهناك فريق استقال منذ سنوات، مبرّرًا استقالته بعدم قدرته على التفاهم مع رئيس البلديّة بسبب تفرّده في القرارات. أمّا أسباب الفريق الثاني الذي أدت استقالته إلى حلّ البلدية، هي النكايات وتضارب المصالح بينهم وبين الرئيس، خصوصًا بعد عرض شركة توتال استثمار عقارات في البلدة بهدف إقامة حقل توليد الكهرباء من الطاقة الشمسيّة وبيعها للدولة” والكلام للمحامي واكيم.
بدأت مشكلة النفايات في رأس بعلبك منذ بدء الأزمة الاقتصاديّة، وبعد رفع الصوت في حينه، كان لحزب القوّات اللبنانيّة (مكتب رأس بعلبك) الخطوة الأولى بتكفّله مصاريفها مدّة من الزمن، بعدها تبرّع النائب الدكتور انطوان حبشي بكلفة جمعها، تلاه بعض الميسورين من أبناء البلدة. أمّ حاليّاً فيتكفّل الموضوع ابن البلدة نقيب الأطبّاء البيطريّين السابق الدكتور إيهاب شعبان على نفقته الخاصّة.
يتابع واكيم: “المهم في كلّ من يتقدّم للعمل البلديّ أن تتوافر فيه مقوّمات العمل، إضافة إلى صفات خاصّة، كحبّه لبلدته، ناسها وأهلها، غيرته على مصالحها ومصالح أبنائها، أن تكون لديه رؤية للعمل البلديّ، وهذا من أسف شديد، غير متوافر في البلديّات المنحلّة”.
ويختم واكيم حديثه إلى “مناطق نت” قائلًا: “إنّ رئاسة البلديّة برأيي الشخصي ليست زعامة ولا وجاهة، بل عمل دؤوب ومسؤولية كبيرة وحمل ثقيل، أمّا أهمّيّة العمليّة الانتخابيّة المقبلة فتكمن في سدّ الفراغ القائم، عبر وصول ذوي الكفاءة والخبرة، للخروج من حالة شلل المؤسّسات، أقلّه كي تعمل على معالجة الأزمات الاقتصاديّة والأمنيّة التي نمرّ بها”.
أسوأ بلدية أفضل من الفراغ
جرى تبرير حلّ بعض البلديّات بالنكايات الشخصيّة العائليّة والخلافات الحزبيّة ،لكن الطامّة الكبرى هي عدم معرفة العضو المستقيل سبب استقالته، كما حصل في بلديّة عرسال.
في حديث مع نائب رئيس البلديّة المنحلّة السيد نصرات رايد، وقد تمّ تداول اسمه في حينه، كحلّ توفيقي بين الجميع يقول لـ”مناطق نت”: “سامح الله الجميع، قلنا لهم إنّ أسوأ بلديّة هي أفضل من الفراغ، فظروف البلد واضحة للجميع، لكّن العناد والنكد الشخصيّ لا يصنعان مؤسّسات ناجحة”. ويؤكّد أنّها “لم تكن بلديّة مثاليّة، لكن كنّا نقوم بالحدّ الأدنى مما يحتاجه المواطن بدل تكبّده عناء وتكاليف الذهاب إلى المحافظة في بعلبك”.
ويظيف “الريّس” رايد: “عرسال بلدة كبيرة بالأساس، وفيها ثمانون ألف لاجئ سوريّ، إذا لم تكن مصلحتها تهمّ أبناءها أوّلًا فهل نعتب على الغريب؟ علمًا أنّ معالي وزير الداخليّة وسماحة مفتي بعلبك الهرمل الشيخ بكر الرفاعي وسعادة محافظ بعلبك ونائب البلدة سعوا جاهدين لعدم الوصول إلى نقطة اللاعودة وحلّ البلديّة، لكن للأسف، لم تنجح كلّ محاولتهم لأسباب غير مقنعة أبدًا”.
يتابع السيّد رايد: “الناس تنتخب البلديّة لولاية كاملة، تعطي صوتها وكالة تمثيل شعبيّ للمرشّح كي يقوم بعمله في خدمتها ستّ سنوات، لذلك رمي هذه الوكالة والاستقالة دون العودة إلى الناس وطرح الأسباب على حقيقتها هي إساءة للناس واعتداء على الناخب”.
يختم نصرات كلامه: “إنّ الانتخابات في القرى والبلدات معقّده جدًّا، تدخل فيها الحسابات الضيّقة، تستعاد فيها قصص نظّنها باتت من الماضي، لكن يبقى أملنا وحلمنا ورهاننا على وعي أهليٍّ محلّيٍّ لعلّه يساهم في رفع مستوى العمل البلديّ كمؤسّسة خدماتيّة إنمائيّة عامّة تتخطّى الحسابات الشخصّيّة والعائليّة والحزبيّة، وأبرز مثال هو اللجنة التي أنشئت لجمع النفايات من الشوارع ونقلها إلى المكبّ، ونجاحها في عملها”.
القانون والفراغ
تقع الديمقراطيّة في أولويّات أهداف كلّ شعوب العالم، وحلمها الأبديّ، لكنّ ممارستها لا تتمّ بطريقة إرتجاليّة عشوائيّة، عندها تصبح فوضى وتبديدًا للموارد والوقت والإمكانات، كما هو حاصل حاليًّا في البلديّات المنحلّة.
يشكّل الفراغ في عمل البلديّات كمؤسّسات خدماتيّة محليّة طعنًا في صميم الديمقراطيّة، لأنّ الطبيعة لا تقبل الفراغ. إنّ التعديل بات إلزاميًّا في قانون عمل البلديّات لجهة وضع موادّ تمنع الفراغ العبثيّ فيها، كذلك وضع شروط ملزمة تضمن توافر حدّ أدنى من الكفاءة العلميّة والأهليّة الاجتماعيّة في طلبات الترشيح، ما يساهم في رفع مستوى العمل البلديّ ورفده بالطاقات الشبابيّة والخبرات.