13 نيسان… الريف خزان الموت في “البيروتين”
تطلّب الأمر بعض الوقت حتى يُرَسَّم ذلك الخط الفاصل بين “البيروتين”. نسي البعض هذا المصطلح الفجائعي لعاصمة شُطِرَت نصفين، فغدَت عاصمتين، مسيحيّة، ولها أعلامها. مسلمة ولها أعلامها. لكن هؤلاء سمّوا انفسهم، الجبهة “اللبنانية”، والآخرين عرّفوا عن أنفسهم بالحركة “الوطنية”.
بلون النار يبدأ ذلك الخط، من المرفأ مروراً بالفنادق فساحة الشهداء، السوديكو، رأس النبع، المتحف، الطيونة، البريد، كنيسة مار مخايل، المعلّم، الحدث، وصولاً حتّى كفرشيما. هنا حلبة الصراع حيث تتعارك الأيديولوجيات والأديان والطبقات والاستخبارات وأبواق الاعلام والأشقاء، والأعداء والاشتراكية الدولية والرأسمالية العالمية.
بين البيروتين
بين “البيروتين”، انقسم الآلهة، كلّ يحمّس فريقه نهاراً، ليحصي موتاه مساءً. بعض الضحايا كانت لأبناء العاصمة وضواحيها، لكن جزءهم الأكبر كان من تلك القرى البعيدة، التي غدت خزّانات دماء، لشبّان في أعمار الحبق، يدلفون إلى بيروت بالشاحنات والحافلات والسيّارات والمركبات العسكرية، ليعودوا في صناديق خشبية خفيفة الأوزان، بجثث مقسّمة ناقصة لبعض الأطراف والأعضاء.
بين “البيروتين”، انقسم الآلهة، كلّ يحمّس فريقه نهاراً، ليحصي موتاه مساءً. بعض الضحايا كانت لأبناء العاصمة وضواحيها، لكن جزءهم الأكبر كان من تلك القرى البعيدة
كانت الأرياف مراكز تعبئة وتدريب وإغواء بـ “مفاتن” العاصمة المشنشلة بالواجهات المنسّقة، والأرصفة المرتّبة، والنساء “المتاحات”، والمرافئ العامّة والأندية الخاصّة. في بلد تتكثّف جميع إداراته وميزاته في عاصمته، كان من المتوقّع ان تنتقم الأطراف، راميةً أبناءها في الأتون الملتهب، كأنهم أضحية تقدم على مذبح بلا إله. كانوا على “يقين” بأنهم يؤدون دوراً عظيماً لوطنهم وللقضايا الانسانية العادلة.
لم تنجُ الأرياف من ذاك البركان بشكل كلّي، إذ بلغَت كتله المجمّرة إلى قرى صيدا، كما زحلة ودير القمر وبيصور وشكّا وطرابلس. كما وإنّ معارك شرسة قد وقعت بين أبناء البيت الواحد، بسلسلة موت لم تبدأ بـ إهدن والصفرا، ولم تنتهِ في إقليم التفاح.
هيثم نموذجاً
في قريته الحدوديّة، لم يكن هيثم قد التفتَ إلى أيّ من أعلام الأحزاب التي ترفرف في الساحة، وعند البركة، أو تلك المعلّقة بأعلى حاووز المياه. لحرص أمّه الذي بلغ مرحلة الوسواس، ندر اختلاط إبن السابعة عشر، بمن هم من أبناء جيله، وكان الحياء يغلبه حين يمرّ على مصاطب الجيران، فيلقي التحيّة بوجنتين محتقنتين بدم الخجل. في القرى الجميع ينتبهون للتفاصيل، فكان خجل هيثم محلّ تنمّرهم، فتفاقمت حالته النفسيّة، لتنعكس نفوراً من الجميع، بمن فيهم والدته التي يحمّلها جزءاً ممّا آلت إليه حالته.
ذات ظهيرة، قبيل الساعة الأخيرة من حصّة اللغة الأجنبية، علِمَ من الاستاذ الذي يقدّم المادة (وهو حزبيّ) بأن فرع الحزب في البلدة، قد استأجر حافلة أبا عدنان، لتقلّ الشباب إلى بيروت، حيث سيمكثون أياماً قليلة على محوريّ خندق الغميق، وبشارة الخوري. هؤلاء الذين أنهوا دورة عسكرية في أحراج البلدة لمدة أسبوعين.
وقتذاك، كان هيثم قد رفض العرض متذرّعاً بأوجاع تفتك بمعدته. لكن الحماسة قد غلبته في تلك الظهيرة المدرسيّة، حين عاين لمعات الفخر في عيون رفاقه، فحاكى نفسه قائلاً: “ها هي الفرصة وقد جاءتني على قدميها، لأكسر حاجز الخجل، وأثبت للمتهكمين في البلدة بأني سيّد الرجال”.
ترجّى الاستاذ لكي يضيف إسمه إلى قائمة “المقاتلين”، فلم يعترض المعلّم، حيث أن هناك أربعة مقاعد فارغة في الحافلة المحجوزة لرحلة البطولة على خطوط النار. “لكنّي لا أفهم شيئاً عن تفكيك الأخمص (سلاح الكلاشينكوف)، وتركيبه”، همس هيثم في أذن صديق الصّف، ليرد عليه “لا عليك، الأمر غاية في السهولة. سوف أعلّمك ما تعلّمناه ما أن نحط رحالنا على المحور”.
صورة على واجهة
هكذا جرت الأمور بارتجال وانفعال، دون قراءة صفحة واحدة من كتاب العقيدة، ودون إطلاق طلقة واحدة في حقل الرماية عند تخوم القرية.
لم “يستشهد” هيثم في “عطلة الربيع” تلك. أطلق رصاصات كثيرة من ثقب الدشمة، باتجاه تلك البناية الصفراء على محور السوديكو. هناك حيث كان المقاتلين يردّون رصاصاته بأحسن منها. مثلهُ هُم دلفوا بالشاحنات الزيتية من بشرّي وكفر عبيدا وأدما. الجميع مندفع للزود عن منطقته، وكلّ له حكاياته ودوافعه.
بدأت تلك “المغامرة” مع هيثم، في الثلث الأول من العام 1979، ليأتِ خبره صيف العام 1981، مذاعاً عبر ميكروفون المسجد. صار هيثم صورة على واجهة دكّان خاله اسماعيل. بدت شديدة الضرورة تلك الصورة، لفاعليتها في حجب الشمس عن بضاعة الدكان. الشمس التي راحت تلتهم ألوان الصورة رويداً رويداً حتى ذابت ملامح الشهيد خلال خمس سنوات.
بدأت “المغامرة” مع هيثم، في الثلث الأول من العام 1979، ليأتِ خبره صيف العام 1981، مذاعاً غبر ميكروفون المسجد. صار هيثم صورة على واجهة دكّان خاله اسماعيل
معسكرات التدريب
في كتابه “هذه شهادتي”، يحكي المقاتل “القوّاتي” بول عنداري، عن تدريباته الأولى في شمال لبنان قائلاً: “في أواخر صيف 1975، حملت حقائبي وذهبت مع إثنين من أقاربي إلى مخيّم للتدريب العسكري، في “كرم سدّة”، فوق تلّة مار جرجس”، ليضيف: “تعمّمت خطوة مخيمات التدريب على كل المناطق المسيحيّة لمواجهة الحرب الشرسة ضدّها، وأهمّ هذه المخيمات في الشمال، مخيّم “بللا” قضاء بشرّي”.
على خطّ آخر في البقاع، سنة 1975، كانت هناك مجموعات تابعة لحركة أمل تتدرّب في بلدة “عين البنية”، وكان الأمر سرّياً حتى انفجر لغم كان يحمله المدرّب، أدّى إلى موت وجرح العشرات. جرّاء ذلك أعلن الامام موسى الصدر عن تفاصيل الحدث، كما أعلن عن انطلاقة حركة أمل كجناح مسلّح.
في بلدة “بطرام” قضاء الكورة، أقام الحزب السوري القومي الاجتماعي معسكر تدريب، وللمرابطون تدريبات في عكّار، بينما تدريبات الشيوعي كانت في “عرسال” وفي بلدتي روم وعازور، والاشتراكي في الجبل بل كانت جميع أحراش القرى وبساتينها وجرودها وضفاف أنهرها، عبارة عن مخيمات تدريب، تتلقّف الطاقات الشابّة، تهيئةً لولوج فكّي الحرب في العاصمة.
عنقود من نوع آخر
لقد قالها الشاعر عصام العبدالله ذات قصيدة “بيروت عنقود الضيَع”. هي كذلك، كنقطة نور لجميع فراشات الأرياف الحالمة بدفء الفرص، وكانت لبعض الفراشات نقطة نار حارقة، حوّلتهم كتل رماد منذ العام 1975 إلى العام 1990.
قالها الشاعر عصام العبدالله ذات قصيدة “بيروت عنقود الضيَع”. هي كذلك، كنقطة نور لجميع فراشات الأرياف الحالمة بدفء الفرص، وكانت لبعض الفراشات نقطة نار حارقة، حوّلتهم كتل رماد منذ العام 1975 إلى العام 1990.
من المفارقات التي يصعب علينا تخطّيها، أن جلّ أمراء الحرب يتحدّرون من الأرياف. هبطوا أرض العاصمة، مدجّجين بـ “القناعات” الراسخة، والتصوّرات الحازمة والأحلام اليوتوبية للوطن والفقراء.
هنا مثال عن “عنقود” لا يشبه ذلك الذي أشار إليه الشاعر الخيامي: آل الجميل من بكفيا، سمير جعجع من بشرّي، وليد جنبلاط من المختارة، نبيه بري من تبنين، آل شمعون من دير القمر، جورج حاوي من بتغرين، محسن ابراهيم من أنصار، عاصم قانصوه من بعلبك، آل فرنجية من زغرتا.
الآن، وقد مرّ 33 سنة على “نهاية” الحرب، نجد أنها قد انتهت ببعدها العسكري الصريح، وجميعنا يعلم أن باقي تمظهراتها ومسبّباتها وعناصر تحريضها لم تتوقف عن كونها “إلكترونات” حركيّة تتفاعل، وتتشكّل وتتقنّع. أمّا الأخطر فهو محافظة الأرياف على دورها القديم، حيث لم تتوقّف الأحزاب عن التدريبات في تلك الأحراج البعيدة.