40 عائلة نازحة لم تترك مركز إيواء حاصبيّا
لم تكتمل فرحة النازحين بالعودة إلى قراهم وبلداتهم في الجنوب بعد إعلان وقف إطلاق النار في الـ 27 من تشرين الثاني (نوڤمبر) الماضي، إذ نغّص جيش الاحتلال فرحة قسم كبير من العائدين، حين طلب إليهم عدم العودة إلى المناطق التي يتواجد فيها، وبخاصّة في منطقتي الخيام وكفركلا والعرقوب. كذلك دعا الجيش اللبنانيّ المواطنين إلى التريّث في العودة إلى القرى والبلدات الأماميّة بانتظار انسحاب قوّات الاحتلال وفقًا لبنود اتّفاق وقف إطلاق النار.
على الرغم من أنّ مدينة حاصبيا لم تتعرّض إلى اعتداءات مباشرة، إلّا أنّها لم تبقَ بمنأى عن تداعيات الحرب، إذ عاشت مأساة إنسانيّة تمثّلت باستقبالها النازحين من قرى العرقوب والخيام وكفركلا، بعد أن أجبرت الغارات الإسرائيليّة والتوغّلات العسكريّة أهالي تلك البلدات على النزوح عنها، تاركين وراءهم أحلامهم وذكرياتهم، بينما تحوّلت القرى إلى أطلال، تعكس حجم الدمار والخراب الذي طال البشر والحجر.
في مركز الإيواء الذي يتّخذ من ثانويّة حاصبيّا الرسميّة مركزًا له تمثّل قصص النزوح شواهد على آلام الناس ممّن أُجبروا على ترك منازلهم. بين الغصّة والخوف، تتعدّد روايات النازحين، لكن القاسم المشترك بينهم يبقى الحنين إلى بيوتهم التي هجروها مرغمين، ممزوجًا بالألم على ما فقدوه. أربعون عائلة نازحة من قرى العرقوب والخيام وكفركلا لا تزال تتّخذ من الثانوية مركز إيواء لها، في انتظار العودة التي لم تكتمل خواتيمها بعد.
معاناة لا تنتهي
مع بداية القصف الإسرائيليّ، اضطرّ حسين (اسم مستعار) وهو أب لثلاثة أطفال من بلدة الخيام، إلى النزوح نحو حاصبيّا، حيث يقيم حاليًّا مع أقاربه. يتحدّث حسين بحزن عن تجربته، قائلًا لـ “مناطق نت”: “قلبي معلّق في منزلي وأرضي، لكن كيف أعود وهناك تحذيرات من أنّ العودة غير آمنة؟ إذ يحذّر جيش الاحتلال السكّان من العودة إلى القرى الأماميّة بسبب وجود قوّاته في المنطقة”. يتابع حسين لـ “مناطق نت”: “نحن اليوم عالقون بين الأمل بالعودة والخوف من المخاطر الأمنيّة التي قد تواجهنا في حال عدنا.” يعبّر حسين عن شعوره بالعجز، فهو يفتقد إلى بلدته وأرضه، ولكنّه لا يستطيع المخاطرة بحياة أسرته في ظلّ التهديدات المستمرّة.
لا تختلف قصّة أم محمود، التي نزحت من بلدة كفرشوبا في العرقوب عن قصّة ابن الخيام حسين، فتقول إنّ منزلها تعرّض إلى قصف مباشر، ولم يبقَ منه سوى الجدران. تتابع لـ “مناطق نت”: “حتّى لو كان مدمّرًا، غير أنّه لا يزال بيتي. الآن، أنا أعيش في منزل موقّت، ولكن ليس هناك مكان يعوّضني عن منزلي.”
تمنع تحذيرات جيش الاحتلال أمّ محمود من العودة، إلّا أنّه لن يمنعها من الرغبة العارمة في العودة. تتذكّر الأيّام الجميلة في بلدتها، فتقول: “أريد العودة إلى هناك، حتّى ولو كنت سأعيش في خيمة فوق الأنقاض. لا شيء يغنيني عن الإحساس ببيتي وبكل قطعة منه، حتّى لو غدت خرابًا.”
بين الغصّة والخوف، تتعدّد روايات النازحين، لكن القاسم المشترك بينهم يبقى الحنين إلى بيوتهم التي هجروها مرغمين، ممزوجًا بالألم على ما فقدوه.
قرى ومنازل مدمّرة
يحلم أحمد، شاب عشرينيّ من بلدة كفركلا الحدودية في العودة إلى بلدته. أحمد الذي كان يعمل في متجر صغير يملكه في قريته يتحدّث عن خسارته الكبيرة قائلًا لـ “مناطق نت”: “لقد فقدت كلّ شيء، خلال الحرب دُمر دكّاني بالكامل مثلما دُمرت قريتي، لا أستطيع التفكير في بدء حياة جديدة في مكان آخر، الأصعب هو عدم قدرتي على العودة إلى قريتي.” يعبّر أحمد عن حاله وأسرته بأنّهم يشعرون “وكأنّنا لاجئون في وطننا، في ظلّ تحذيرات جيش الاحتلال من العودة إلى قريتنا، حيث لا يزال المجهول يكتنف مستقبلنا ومصير بيوتنا، إذ لم نعد نعلم إن بقيت واقفة أو لحقها ما لحق البلدة من دمار، أو هل بقيت بعض أطلالها؟ لكن ما عرضه الاحتلال من صور همجيّة يشير إلى أنّه مسح معظم بيوت البلدة”.
اضطرّ محمّد وهو أب لأربعة أطفال، إلى مغادرة قريته شبعا بعد أن تعرّضت لدمار كبير جرّاء القصف المكثّف. قرّر محمّد بعد الإعلان عن وقف إطلاق النار العودة إلى بلدته ومنزله، لكنّه فوجئ بأنّ الطريق إلى هناك مغلق بسبب الغارات والأضرار الكبيرة التي لحقت بالطريق والبنية التحتيّة فيه. يقول محمّد لـ “مناطق نت”: “لا أستطيع العودة، الطريق مدمّرة تمامًا، والتهديدات الأمنيّة تجعل العودة غير ممكنة. وعلى الرغم من أنّنا نفتقد قريتنا وأرضنا، لكن العودة ما زالت مستحيلة في الوقت الحالي، وها أنّ العدو يصطاد كلّ من يحاول العودة؛ لن أغامر بعائلتي أمام عدوّ لا يعير القيم والقوانين الدوليّة والإنسانيّة أدنى مسؤوليّة أو اهتمام.”
ضرورة فتح المدارس
من جهته يشير رئيس بلديّة حاصبيّا لبيب الحمرا، إلى أنّ “أزمة النزوح لم تُحلّ بعد في بلدتنا، حيث لا تزال ثانويّة حاصبيّا الرسميّة تؤوي نازحين لم يتمكّنوا من العودة إلى بلداتهم بسبب التهديدات الإسرائيليّة”، ويؤكّد “أهمّيّة حقّ الطلّاب في العودة إلى مقاعد الدراسة”، لافتًا إلى أنّ “هذا الوضع لا يمكن أن يستمرّ مدّة طويلة”.
يتابع الحمرا في حديث لـ “مناطق نت”: “على الدولة متابعة هذا الملف بشكل جاد. إنّ استمرار إغلاق المدارس لمدّة طويلة سيؤدّي إلى تراكم الأعباء على البلديّة وعلى النازحين أنفسهم”. ويوضح “أنّ البلديّة نجحت في تأمين جميع الاحتياجات الأساسيّة للنازحين، لكن ذلك لا يضع حدًّا لمعاناتهم ولا يعوّض رغبتهم العميقة في العودة إلى منازلهم وأراضيهم”. وتحدّث عن “خصوصيّة الوضع في هذه المناطق، ممّا يتطلّب معالجة استثنائيّة”.
يختم الحمرا “هناك متابعة مستمرّة لهذا الملف، إذ لا تزال 40 عائلة نازحة تقيم في مركز الإيواء وغير قادرة على العودة، ستعمل البلدية على مواصلة الاتصالات مع الجهات المعنيّة لمتابعة شؤون هذه العائلات وشجونها بشكل مكثّف لحلّها بأسرع وقت ممكن، وتمكينها من العودة إلى ديارها”.
عودة تحت سقف السماء
ومع إعلان وقف إطلاق النار، بدأ النازحون في قضاء النبطية بالعودة إلى قراهم على رغم الدمار الهائل، بعضهم وجد منزله مدمّرًا بالكامل، وآخرون قرّروا نصب خيام فوق الأنقاض بما يرمز إلى التمسّك بأرضهم. وفي مشهد مؤثّر، كان بعضهم يقبّل الأرض عند عودته، بينما سجد آخرون شكرًا لله على سلامتهم. وعلى رغم فرحة العودة، كان المشهد حزينًا وسط شوارع غطّاها الركام، وسيارات محترقة متناثرة، وحفر عميقة في الطرقات نتيجة القصف المكثف. البنية التحتيّة شبه معدومة، مع غياب الكهرباء والمياه، ممّا جعل العودة تحدّيًا كبيرًا.
باشرت فاعليّات القرى بإزالة الركام وإصلاح الطرقات. وأفيد أنّ وزارة الأشغال العامة سارعت إلى إعادة وصل الطرق التي دمّرها القصف بغية تسهيل حركة العائدين. وعلى رغم جهود الإغاثة، بقيت احتياجات الناس تفوق الإمكانيّات المتاحة، مع استمرار البحث عن حلول لإعادة بناء المنازل وتأمين الخدمات الأساسيّة.
تعود الحياة تدريجًا إلى بعض المناطق، لكنّها لا تزال ممزوجة بغصّة فقد الأحبة ممّن قضوا تحت الأنقاض أو خلال القصف. فرحة العودة لم تطغَ على ألم الفقد، ويروي الجنوبيّون قصصًا مؤثّرة عن أحبّائهم الذين فقدوهم، وعن أحلام دفنت تحت الركام.