أنطونيوس البشعلاني إبن بلدة صليما.. المغترب الأول إلى العالم الجديد..
زهير دبس

عندما تحضُر كلمة «الإغتراب» يحضُر معها أرقام مذهلة عن ملايين اللبنانيين المنتشرين في شتى بقاع الأرض. إذ من النادر أن تجد بيتاً في لبنان لم يطرق باب الإغتراب لأسباب متعددة ومتنوعة، والحكايات عن ملحمة الهجرة وبداياتها كثيرة ومثيرة، جميعنا حفظ شيئاً منها لكن قلة تعرف من هو الذي افتتح تلك الملحمة واستحق لقب المهاجر الأول إلى العالم الجديد (أميركا)، وذلك قبل 146 عاماً من الآن. حينها لم يكن من طرق إلى الهجرة سوى البحر تمخر عبابه سفن بدائية تكون غالباً عرضة للأنواء وللمخاطر التي في أحيان كثيرة تذهب بمن عليها إلى الهلاك أو إلى الأرض الجديدة التي تطوي معها حكايا المهاجرين وسيرهم ورفاتهم.

من هو المهاجر الأول إلى العالم الجديد (أميركا)؟ ومن أي منطقة من لبنان يتحدر؟ وما هي سيرته وحكايته مع الغربة وكيف ابتدأت وكيف انتهت؟.

تؤكّد معظم المصادر والمراجع التي تتحدّث عن طلائع الهجرة اللبنانيّة إلى العالم أنّ أوّل هجرة لبنانيّة معروفة كانت في العام 1854، عندما أقدم ابن بلدة صليما الواقعة في المتن الأعلى أنطونيوس البشعلاني على السفر إلى الولايات المتّحدة الأميركية. ويذهب الدكتور فيليب حتّي إلى الجزم، بأنّ البشعلاني هو «المغترب الأوّل إلى العالم الجديد».

من هو أنطونيوس البشعلاني
أنطونيوس البشعلاني، هو أنطوان بن يوسف ضاهر صافي أبو عطا الله البشعلاني. وُلد في بلدة صليما في 22 آب عام 1827 وهو من عائلة مؤلّفة من ستّة أولاد، توفي والده يوسف الذي كان من العقلاء في زمانه وأحد وجهاء صليما سنة 1837 وشاء القدر أن يموت أخوته جميعاً، حيث «ظلّت الأمّ تقلا كساب وحيدة فملأت الأرض نواحاً وحزناً، حتّى قيل أنّها أقفلت باب بيتها، ورمت المفتاح إلى السطح، متأمّلة السماء قائلة: بقي يا ربّنا المفتاح».

تلقّى البشعلاني علومه في دير الآباء الكبوشيين في صليما، ثمّ انتقل إلى بيروت، حيث عمل كمترجم لدى قنصل إيطاليا حينذاك. كان أوّل لبناني وطأت قدماه أرض الولايات المتّحدة الأميركيّة حين وصل إلى بوسطن عام 1854، ومنها انتقل إلى نيويورك حيث دخل إحدى كليّاتها وأتقن اللغة الانكليزيّة كتابة وقراءة، ودرّس اللغة العربيّة لكثير من الأميركيين.

نتعرّف إلى البشعلاني من خلال مراجع عدّة منها ما كتبه الأميركي شارل واينهاد وترجمه إلى العربية المؤرخ فيليب حتّي ضمن كتاب «أنطونيوس البشعلاني أول مهاجر لبناني إلى العالم الجديد» الصادر عام 1916 باللغة العربية. ومنها ما ورد في كتاب «تاريخ بشعلة وصليما» للخوري أسطفان البشعلاني الذي يقول «ما كاد أنطون يبلغ الإثني عشرة من عمره حتى هبط إلى بيروت واشتغل هو وأخوه داوود في معمل حرير في منطقة الطيونة قرب الشياح، واتصل ببعض الإفرنج وكان يرافقهم في سياحاتهم. ولما كبر أخوه داوود رافقه في خدمة السياح بصفة طاهي ثم بصفة ترجمان ودليل مرافق بعد أن أتقن كل منهما اللغتين الانكليزية والإيطالية».

ويشير البشعلاني في كتابه أن أنطونيوس عاد إلى صليما «بعد أن بلغ أشده وصار رجلاً وقد نال حظاً وافراً من المال». تقدّم بطلب يد قريبته وتدعى «شمونة» التي وافقت بادئ الأمر ثم عادت ورفضت بضغط من أقاربها الذين رأوا في أنطونيوس «فتوراً في الدين تسرّب إليه من معاشرته للبروتستانت»، الأمر الذي أغضب أنطونيوس ودفعه إلى اتخاذ قرار الهجرة، ويُقال إن منزله أُحرق في العام 1837. فعاد إلى بيروت وعمل عند القنصل الإيطالي، ومن ثمّ انتقل عام 1850 للعمل مع السيّاح في الأراضي المقدّسة في فلسطين، وفي هذه الفترة سافر مرّات عدّة إلى مصر.

الهجرة إلى العالم الجديد (أميركا)
في العام 1854 هاجر البشعلاني على ظهر سفينة برفقة أحد أصدقائه الأميركيين، فوصل إلى بوسطن ليكون أوّل لبناني تطأ قدماه الأرض الجديدة التي اكتشفها كولومبس عام 1492. انتقل البشعلاني من بوسطن إلى نيويورك حيث «دخل كلّيتها الكبرى لدرس اللغة الإنكليزية والعلوم العالية، فامتاز بالذكاء والشجاعة والوداعة، ونال إعجاب الأساتذة والطلبة، فمنحه أستاذه لقب «بطل المدرسة» لأنه توصل إلى أن يخطب بلغة البلاد في حفلات الكلية، حتى أن سامعيه ما كانوا ليصدقوا أنه لبناني الأصل، ووضع رئيس الكلية التي تعلّم فيها شارل واينهاد كتاباً عنه، يُؤرّخ لسيرة حياته ويقع في 250 صفحة وهو الكتاب الذي ترجمه فيليب حتي. ويقول الخوري البشعلاني إن أنطونيوس واظب على ارتداء الزي اللبناني والطربوش المغربي بعد وصوله إلى أميركا وحتى مماته.

عمل البشعلاني في تدريس اللغتين اليونانية واللاتينية، ودرَّس أيضاً اللغة العربية للكثير من الأميركيين. ويقول الخوري البشعلاني أن أنطونيوس لدى وصوله إلى أميركا كتب يصف ثروتها وغناها.

وفاة المهاجر الأول طانيوس البشعلاني
بعد عامين من وصوله إلى أميركا، أُصيب البشعلاني بمرض السل، فكتب إلى ذويه يُخبرهم بأنه مريض وأن الطبيب حكم بموته بعد ثلاثة أيام وهكذا حصل. وفي المكتوب الذي أرسله إلى نسيبه حنا يُوصي البشعلاني بإخوته ووالدته ويهبهم تركته، وفي مكتوب آخر باسم والدته يوصيها بأخوته ويطلب رضاها. وحسب الأديب ربيعة أبي فاضل في كتابه «وجوه مضيئة من لبنان»: يقول البشعلاني: «القلب ذاب من المتاعب والعين تبكي لفراق الأحبّة.. لا أحد قربي في غربتي ولا من يؤنسني.. ليس لديّ مال لأورثكم إيّاه، عمدت إلى الأدوية الّتي أنفقت عليها ثمانمئة غرش، وبرغم ذلك واظبت على دروسي والآن أيقنت أنّي لم أعد من أبناء هذه الدّنيا فكتبت هذه الأسطر. ولمّا كان الموت نهاية كلّ مخلوق فإنّي أرقد على رجاء القيامة، إنّي سعيد بالإنفصال عن هذا العالم الفاني. لا تندبوني بل افرحوا معي واطمئنّوا».

من غريب الصدف في حياته أنّه توفيّ في اليوم نفسه والشهر أيضاً الذي وُلد فيه. توفيّ أنطونيوس البشعلاني وهو في التّاسعة والعشرين من عمره، ودُفن في مقابر غرينوود في بروكلين في ولاية نيويورك. وقد رسم أستاذه على بلاطة ضريحه الطربوش المغربي، وصورة أسد وحية وحمل، ويعني أنه شجاع كالأسد وحكيم كالحية ووديع كالحمل. ونقش إسمه بالإنكليزية: أنطونيو البشعلاني وّلد قرب بيروت في 22 آبّ 1827، ومات في نيويورك في 22 آبّ 1856، متعلّم ماروني كاثوليكي: وُجد بعد امتحان طويل وصادق بين التجارب والمحن وبين الخطر، إنّ الكتاب المقدّس يحمل كلمات الحياة الأبديّة، مطيعاً لتعاليمه: مجّاناً أخذ ومجّاناً أعطى. جاء إلى أميركا للتّحضير لعمل تبشيريّ. درس بنشاط ونخوة. ولكن بعث الله إليه بمرض أصابه ليعيده إلى بيت أبيه. أصدقاؤه يعرفون عنه، بأنّه رجل لم يعرف الخوف، لا غبار عليه، حكيم بصدق القول». وبذلك يكون أنطون البشعلاني أوّل مهاجر يُدفن في القارّة الاميركيّة.

صليما ومنزل المغترب الأول
لأنها بلدة المغترب الأول بادرت بلدية صليما إلى ورشة ترميم شاملة لمنطقة الميدان حيث يقع منزل أنطونيوس البشعلاني، الملاصق لمبنى القصر البلدي بالإضافة إلى 18 محلاً تجارياً تراثياً. وفي وقت سابق وعد وزير الثقافة غابي ليّون، أنه سيتمّ إدراج صليما ومنزل البشعلاني على المطبوعات التي توّزعها وزارتا السياحة والثقافة، وسيجري العمل على تسويق هذا المعلم التاريخي في لبنان.

الجدير ذكره أن رئيس الجمهوريّة الراحل سليمان فرنجيّة كان قد أصدر في 26 حزيران من العام 1971 مرسوماً حمل الرقم 1322، اعتبر فيه أنّ أعمال ترميم منزل المهاجر الأوّل في صليما يُعتبر من المنافع العامّة. وفي عام 1972 أُقيم في صليما احتفال للمغتربين الذين قاموا بزيارة منزل البشعلاني في حضور رئيس الحكومة آنذاك صائب سلام.

نُشر في مجلة «الأمن»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى