عرسال ومخيماتها.. ماذا عن الخدمات وفرص العمل؟
بالتزامن مع السرديّة السائدة منذ مدّة طويلة والتي تقول إنّ العمالة السوريّة حلّت مكان اللبنانيّة، ثمّة واقع مغاير في بلدة عرسال البقاعيّة التي تضمّ أراضيها 163 مخيّمًا وتجمّعًا للنازحين، إذ أدّى اللجوء السوريّ إلى تبدّلات كبيرة في دورة الإنتاج والحركة الاقتصاديّة المحلّيّة، لعبت دورًا لافتًا في تغذيتها وفود عديدة من هيئات ومنظّمات دوليّة اهتمّت بموضوع اللجوء السوريّ إلى لبنان وبالتالي وفّر وجودها مئات فرص عمل للعرساليّين، لم تكن متاحة لهم قبل اللجوء الذي بدأ العام 2011، وتنوّعت بين خدمات وتعليم وطبابة ووظائف إداريّة وغيرها.
لا ندري إن كان يحضر هنا المثل الشائع “مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد” حول التبدل الذي حصل هنا في عرسال، إذ انخرط عديد من أبنائها في مجالات متنوّعة، أتيحت لهم كفرص عمل في المنظّمات الإغاثيّة الدوليّة. وفي هذا الإطار يقول رئيس بلديّة عرسال السابق باسل الحجيري لـ”مناطق نت”: “عندما انهارت قيمة الليرة اللبنانيّة، وتبخّرت ودائع الناس في المصارف والبنوك، شكّلت وظائف المنظّمات والجمعيّات الدوليّة والمحلّيّة العاملة في الحقل الإغاثيّ وشؤون اللاجئين، دعامة أساسيّة لصمود أهلنا، وسترت معظم العائلات في بلدتنا النائية”.
يضيف الحجيري: “لنقل الحقائق كما هي، المقاربة الخاطئة لموضوع اللجوء السوريّ في لبنان ليست في صالح أحد، ولا نفع فيها لأيّ طرف سياسيّ أو طائفيّ، نحن محكومون مع الشعب السوريّ بواقع التاريخ والجغرافيا”.
ويردف: “أمّا بالنسبة إلى موضوع فُرَص العمل التي أمّنتها منّظمات دوليّة ومحليّة كثيرة، فقد ظهر أثرها الإيجابيّ علينا في مرحلة صعبة مرّت بها عرسال وتمثّلت بوجود مسلّحين في الجرود، وأدّى حينها إلى توقّف عمليّات التهريب عبر الحدود، ومنعت العمّال والمزارعين من الوصول إلى مقالعهم وبساتينهم، وبالتالي أُقفلت أهمّ ثلاثة موارد اقتصاديّة تعيش منها بلدتنا، فجاءت الوظائف التي أوجدتها الجمعيّات كخشبة خلاص وطوق نجاة، ساهمت في فتح بيوت كثيرة، جنّبتها الحاجة والعوز، لا بل ساعدتها على مدّ يد العون لغيرها من العائلات”.
فرص لآلاف العائلات
حول عدد الأشخاص والعائلات المستفيدة من هذه الفُرَص يقول الحجيري: “إنّها أرقام كبيرة دون شك، حوالي ألف عائلة تستفيد بشكل مباشر من هذه الوظائف في المكاتب والمخيّمات والمدراس والمستوصفات، إضافة إلى حوالي 300 عائلة تتعيّش من صهاريج المياه وشاحنات سحب المياه المبتذلة من حُفَر الصرف الصحّي (بين صاحب شاحنة وسائق ومساعد سائق).
ويتابع: “أيضًا ثمّة 163 عقارًا مستأجرًا لإقامة المخيّمات، إلى مئات البيوت والمحلّات المستأجرة من سوريّين، عدا عن المستفيدين من الحصص الغذائيّة وموادّ التدفئة وهم بالآلاف، الحقيقة، أنّ اللاجئين السوريّين لا يُزاحمون أبناء البلدة في أرزاقهم، بل يعزّزون الحركة الاقتصاديّة المحلّيّة”.
بصمات منّظمات داعمة
تعمل عشرات المنظّمات والجهات الدوليّة والمحلّيّة في مجال دعم اللاجئين، وتُؤمّن فرص عمل للبنانيّين حصرًا، منها على سبيل المثال، اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر، الصليب الأحمر اللبنانيّ، الهلال الأحمر القطريّ، المجلس النروجيّ لشؤون اللاجئين، مفوّضيّة الأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين، أطبّاء بلا حدود، مؤسّسة عامل، جمعيّة جسور النور، وغيرها كثر.
من جهته يوضح المكتب الاعلاميّ في منظّمة أطبّاء بلا حدود لـ”مناطق نت”: “أنّ المنظّمة تركّز بشكل رئيس على تقديم الخدمات الطبّيّة والرعاية الصحّيّة للمحتاجين، وهي مهمّة أساس لعمل المنظّمة في جميع أنحاء العالم. إلى ذلك، تقوم المنظّمة بتوظيف كوادر متنوّعة تشمل إلى جانب الكوادر الطبّيّة، كوادر غير طبّيّة مثل خبراء في الشؤون اللوجستيّة والماليّة والموارد البشريّة، مرشدي الصحّة المجتمعيّة وغيرهم، يساهم هذا التنوّع في تحقيق أهداف المنظّمة الإنسانيّة بشكل شامل”.
تعمل عشرات المنظّمات والجهات الدوليّة والمحلّيّة في مجال دعم اللاجئين، وتُؤمّن فرص عمل للبنانيّين حصرًا، منها على سبيل المثال، اللجنة الدوليّة للصليب الأحمر، الصليب الأحمر اللبنانيّ، الهلال الأحمر القطريّ..
يتابع المكتب الإعلاميّ: “على سبيل المثال، تضمّ فرقنا حوالي 50 موظّفًا في بلدة عرسال، ونحو 30 في مدينة الهرمل، حيث نُدير عيادات الرعاية الصحّيّة الأوّليّة، ممّا يساعدنا في تقديم خدماتنا الطبّيّة والإنسانيّة في تلك المناطق. في الوقت نفسه، يُعدّ تعزيز وتحسين قدرة مقدّمي الرعاية الصحّيّة على المستويين المحلّيّ والوطنيّ أولويّة، لذلك تعمل المنظمة باستمرار على زيادة الدعم لوزارة الصحّة اللبنانيّة، من خلال تدريب طواقم العمل، والتبرّع بالأدوية والمستلزمات الطبّيّة، وبناء قدرات المرافق الصحّيّة المختلفة في جميع أنحاء لبنان”.
نؤمّن 61 فرصة لأفراد لبنانيّين
أمّا “جمعيّة الأمين الطبّيّة” العاملة بتمويل من “مركز الملك سلمان بن عبد العزيز”، فهي تحصر نشاطها فقط في المجتمعات المضيفة، شرط أن تطال خدماتها الصحّيّة والإغاثيّة اللاجئين السوريّين.
يقول ممثّلها في بلدة عرسال السيد أبو إبراهيم عزالدّين في حديث لـ”مناطق نت”: “انطلق عملنا في المركز الصحّيّ ومركز العلاج الفيزيائيّ العام 2019 ، بمبادرة شراكة خَيّرة من مركز الملك سلمان، الهدف كان تأمين الرعاية الصحّيّة الأوّليّة المجّانيّة لأبناء البلدة والأخوة اللاجئين، أمّا اليوم ونتيجة الظروف الاقتصاديّة الصعبة، بات عدد المرضى من القرى المجاورة يرتفع بشكلٍ ملحوظ، وهو أمر يُسعدنا بلا شكّ ونتمنّى تطوّر خدمات المركز لتطال أكبر عدد من المرضى”.
أمّا حول فُرَص العمل التي يؤمّنها المركز الصحّيّ فيقول عزالدين: “العاملون في المركز الصحّيّ ومركز العلاج الفيزيائيّ جميعهم من اللبنانيّين، وعددهم 61 فردًا ونأمل ارتفاعه. لدينا 28 طبيبًا من مختلف بلدات البقاع الشماليّ، كذلك لدينا 33 موظّفًا بين ممرّض ومستخدم وسائق وعامل صيانة، جميعهم يتلقّون رواتبهم بالدولار الأميركيّ.
ويضيف: “يشكّل المركزان مورد رزق أساس لوسائل النقل، خصوصًا الـ”توك توك”. ونعمل جاهدين على إطالة أمد هذه الشراكة المباركة لأقصى فترة ممكنة، لأنّها إضافة إلى توفير الطبابة المجّانيّة لكلّ الناس، فإنّها تستر حال عشرات العائلات، خصوصًا وأننا على أبواب الخريف، وحال البلد لا يُطمئن”.
“دون السوريّين لأقفلنا المدرسة”
لم تقتصر فرص العمل على القطاع الصحّيّ وتوزيع المياه والأعمال الإغاثيّة فحسب، بل طالت كثيرًا من القطاعات الأخرى، مثل الزراعة والصناعة والمهن الحرّة، وكذلك القطاع التربويّ.
يقول مدير “المدرسة الرسميّة الخامسة في عرسال” الأستاذ مسعود الحجيري في حديث لـ”مناطق نت”: “لولا الطلّاب السوريّين لأقفلنا المدرسة الرسميّة الخامسة و”اللّي مش عاجبو يتفضّل عالطاولة نتناقش”، الوزارة عند إقرارها فتح المدرسة العام 2019 أعطتنا القرار حبرًا على الورق فقط، لم تعطنا ليرة واحدة، حتّى بدل استئجار المبنى في حينه تكفّلت به بلديّة عرسال لسنتين وليس الدولة”.
يتابع الحجيري: “كان المبنى جاهزًا من حيث البناء، لكنّ تجهيزاته “عالزلط” لا ورقة، لا قلم، لا طاولة، لا كرسيّ، عملنا بالتعاون مع البلديّة والجمعيّات والمنظّمات على تأمين جميع الاحتياجات اللوجستيّة اللازمة، من طاولات ومكاتب وكهرباء على الطاقة الشمسية ومدافئ، فانطلق العام الدراسيّ في تشرين الأوّل (أكتوبر)، لكن للأسف جاءت انطلاقتنا متوازية مع أزمات لبنان ومشاكله الاقتصاديّة والاجتماعيّة والصحّيّة مع جائحة كورونا”.
دورة اقتصاديّة كاملة
عن الأرقام يقول الحجيري: “على المستوى الشخصيّ يصل راتبي مع حوافز وبدلات إنتاجيّة في الدوام الصباحيّ إلى 500 دولار، بينما أتقاضى عن الدوام المسائيّ مع التلامذة السوريّين 900 دولار، ولولا الدوام المسائيّ كيف كنت سأعيش مع أسرتي وأعيلها وعندي ثلاثة طلّاب جامعيّين؟”.
ويضيف: “يتقاضى الأستاذ المتعاقد في التعليم الرسميّ مبلغ 150 ألف ليرة عن ساعة التعليم قبل الظهر، بينما يتقاضى عن ساعة التعليم للتلامذة السوريّين سبعة دولارات (نحو 625 ألف ليرة). في العام الدراسيّ الماضي، كانت حصتنا من اليونيسيف والمنظّمات الدوليّة 64 ألف دولار عن الطلّاب السوريّين، ساعدتنا في مختلف الاحتياجات ووفّرنا فرص عمل لعديد من أبناء البلدة على نفقة صندوق المدرسة، ولدينا في مدرستنا لوحدها 56 مُعلّمة وأستاذًا في الدوام المسائيّ، ما يعني أنّ عدد المُدرّسين في المدارس الرسميّة ومراكز الجمعيّات يناهز الـ400، إضافة لحوالي 180 سائق حافلة نقل طلّاب، ألا يُشكّل هذا دورة اقتصاديّة كاملة؟”.
لولا تعليم اللاجئين السوريّين؟
بدورها المربيّة ندى العويشي، وهي مجازة في الجغرافيا من الجامعة اللبنانيّة، وأمّ لستّة أطفال تقول في حديث لـ”مناطق نت”: “بدأت التعليم منذ 12 سنة مع التلامذة السوريّين، لكن في التعليم الرسميّ الصباحيّ بدأت في 2019، يبلغ عقدي 10 ساعات أسبوعيًّا، ما يعني أنّ راتبي الشهري 60 دولارًا، لولا بدل الإنتاجيّة لا يكفيني أجرة مواصلات إلى المدرسة”.
وتشير إلى أنّها تحصّل “بعد الظهر سبعة دولارات عن كلّ ساعة تعليم أيّ أنّ عمل ثلاثة أيّام في دوام مسائيّ يوازي راتب شهر كامل في الدوام الصباحيّ، الحمد لله على كلّ شيء، لكن لولا عملي في التعليم المسائيّ مع التلاميذ اللاجئين لكنّا بحال صعبة، بل صعبّة جدًّا، خصوصًا أنّ زوجي يواصل البحث عن عمل ولا يجد، ونحن عائلة كبيرة”.
إنّ شيطنة كلّ ما له علاقة بملف اللجوء، ليس مرده إلى الحسّ الوطنيّ اللبنانيّ الخالص، ففي لبنان حتّى الهواء يدخل في أتون التسييس والتطييف واللعب على مخاوف اللبنانيّين من التوطين والديموغرافيا. وبانتظار عودة اللاجئين الفلسطينيّين والسوريّين إلى بلادهم، يبقى الأمل ببقاء اللبنانيّ في أرضه وسط غيوم الحرب السوداء المتعاظمة.