وطن في العراء

زهير دبس

ياسمينتي الصغيرة التي اشتريتها من بائع متجول وركنتها في زاوية من زوايا الشرفة تعاند الريح أثناء العاصفة الهوجاء. تنحني ولا تنكسر ثم تعود وتقف من جديد فرحة مزهوة بالمطر. أتأملها من وراء الزجاج وأتأمل بيروت التي لم يكن حالها كحال الياسمينة الصغيرة، بدت مدينة في مهب الريح. مبعثرة كرتونية. أبنيتها مجوفة خاوية وكأنها أنشئت على عجل.
طوفان الأمطار في الشوارع يتسرب إلى مواقع التواصل الاجتماعي صورا و”يوتيوبات” وسخرية وضحكا يشبه الهذيان. الحطام يملأ الشوارع وحبات البرد الأبيض التي ثقبت في بعض المواضع زجاج السيارات تسيدت المشهد. سيول الأمطار تملأ الساحات وتدخل المنازل وتتحول مادة دسمة للتشويق. التلفزيونات تنقل مباشرة مشاهد العاصفة مترافقة مع تعليقات المذيعين الذين يتابعون التغطية بالكثير من الاثارة. جاهدين لتحويل المشهد الى غير عادي، بينما كل شيء يجري في هذه البلاد هو غير عادي. لم يعد يحتاج الى تغطية أصبحت في الغالب مملة وباهتة.
بلاد بلا مظلة تقيها عواصف قد تكون الطبيعة بعواصفها اقل قسوة واكثر رحمة من اعاصير السياسة التي شرعت البلاد على مخاطر اين منها عواصف الطبيعة. فالسيول الجارفة التي اجتاحت بيروت والحطام الذي ملأ الشوارع هو صورة مصغرة عن هذه البلاد المحطمة وهو انعكاس لطوفان الأزمات التي تملأ حياة ناسها ومجتمعها.
في بلاد العالم -وهنا لا تجوز المقارنة- تحدث عواصف واعاصير اين منها العاصفة التي مرت والتي تعتبر تافهة وصغيرة بالنسبة اليها، لكن هناك وبالرغم من قوة تلك العواصف الا ان هناك مظلة قوية تحمي تلك البلاد وهي مظلة الدولة التي تشكل صمام أمان، تمر تلك العواصف من فوقها مرور الكرام، وتتابع الحياة أثناءها وبعدها مسيرتها بانتظام. وتلك المظلة مصنوعة من قوانين ودساتير متينة مبنية على عقد اجتماعي يجعلها عصية على الثقوب والتمزق، وهي أنشأت ليس فقط لتقي تلك البلاد من عواصف الطبيعة وربما هي الحلقة الاقل خطرا وتأثيرا بل مما هو اكبر بكثير من ذلك.
ما نحتاجه في هذه البلاد التي تفترش العراء وتلتحف الازمات ليس مظلة نستجديها ونتسولها من هنا وهناك، فتارة تكون إقليمية وطورا دولية، نتضرع الى الله أن يبقيها فوق رؤوسنا، وأن يبعد عنها شر التمزق لئلا نعود إلى وحول حروبنا الداخلية التي لا زالت تلطخ جدران حياتنا. ما نحتاجه ليس مظلة تقينا خيرات الطبيعة التي نحن بأمس الحاجة لها بل لمظلة أمان تقينا أخطار أنظمة وطبقة سياسية فاسدة تشرع اوطانها واسعا امام العتمة وتوسيع مساحة النفايات وتلويث المياه وتشويه الطبيعة وطرد الشباب وتعميم الجهل.
بلاد تستوطن العراء مشرعة على المجهول قد تكون عواصف الطبيعة هبة السماء لها بعدما بدد سياسيوها ولم يتركوا قطعة قماش واحدة يصنع منها مظلة تليق بالناس والعباد.
تبقى ياسمينتي الصغيرة المنتصبة في زاوية شرفتي، الأكثر فرحا بالعاصفة، تفتح برائحتها الزكية نافذة صغيرة نأمل من خلالها ان نعبر يوما الى بلاد أقل عراء وأكثر دفئا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى