زياد سحّاب يقرأ التحوّلات البنيويّة للفنّ وأصداء العولمة

“الغاية من الفنّ هي الإبداع والتجديد، وليس الشهرة وزيادة الرصيد البنكيّ” بهذا يختصر الفنّان والملحّن زياد سحّاب رؤيته الخاصّة للفن، الذي يخرج من دائرة “التراند” والمنافسة الجماهيريّة إلى إيصال رسالة ملتزمة بفكرة أو قضيّة. وهذا ما عكسته إطلالته الأخيرة من “مرسح” المساحة الثقافيّة والفنّيّة في طرابلس الميناء، حيث امتلأت الصالة بجمهور جاء من مختلف المناطق اللبنانيّة لسماع أحد أصحاب “البصمة الخاصّة” في الغناء والتلحين اللبنانيّ والعربيّ.

في حبّ المدينة

يعبَّر زياد لـ “مناطق نت” عن حبّه لطرابلس، فيقول: “أنا مغرم بهذه المدينة التي تمتلك نكهات مختلفة، إن على مستوى المطبخ صاحب الهويّة الخاصّة، أو الموسيقى، أو على مستوى التنوعّ بسبب موقعها على البحر الأبيض المتوسّط، وهو ما أكسبها تاريخًا عريقًا وتفاعليًّا مع المحيط والعالم”، فقد “سبق أن غنّيت مرّات عديدة في بيت الفنّ قبل وضع اليدّ عليه، بالإضافة إلى الغناء في معرض رشيد كرامي، ومن قبلها العزف ضمن فرقة الموسيقى العربيّة بقيادة عمّي سليم سحّاب”.

عاد زياد إلى المدينة بعد سنوات طويلة من البعد، يقول: “ما إن اقترح مسؤولو مرسح إقامة حفل على مسرحهم الناشىء، حتّى كان الجواب بالموافقة، وكأنّني كنت أبحث عن فرصة للغناء ها هنا. قمت بتكييف الفرقة وحجمها على ضوء الإمكانات والمساحة المتاحة، لهذا كنّا أربعة عازفين موسيقيّين”، ويضيف “لم آتِ لتشجيع المكان فحسب، وإنما للتفاعل مع أجواء المدينة والمساحات الثقافيّة”، ويعتبر سحّاب أنّ “ثمّة دورًا للفنّان بالتواجد على ما بقي من مسارح لتستمرّ على قيد الحياة”.

زياد سحاب وفرقته في “مرسح” في طرابلس
في خدمة الثقافة

يضيء زياد سحّاب على تراجع مكانة الثقافة والفنّ على قائمة سياسات السلطة العامّة في لبنان، انطلاقًا من حال المسارح، “للأسف في العاصمة بيروت، لم تعد هناك أعداد كافية من المسارح، وباتت تقتصر على ثلاثة مسارح فحسب، وهي تستمرّ بجهد أفراد ومن اللحم الحيّ بغية الحفاظ على حركة ثقافيّة في البلاد”، مشيرًا إلى “تأثّر تمويل بعض المسارح بسبب مواقف أصحابها من حرب غزّة ووقوفها ضدّ العدوان”.

يردّ سحّاب على سؤال حول مستقبل الفنّ الملتزم في ظلّ انتشار الثقافة الاستهلاكيّة، وبحث المغنّي عن حضور كبير وبدل مادّيّ مرضيّ، منطلقًا من تجربته الخاصّة، “فقد بدأت الغناء أمام جمهور كبير في عمر الـ 10 سنوات، وصعدت في سن الـ 13 عامًا على مسرح دار الأوبّرا في مصر، وقضيت عمري برفقة العود، وصولًا إلى إطلالتي الشهريّة على الآلاف في مهرجان الشارقة، وبالتالي ليس الحكم على الفنّان من كبر أو صغر المساحة أو عدد الحاضرين، لأنّ متعة الفنّان تأتي من تفاعله مع الناس بغضّ النظر عن حجم الحشد”.

ويوضح سحّاب “أحيانًا أشعر بفرح كبير لمجرّد العزف داخل شقّة وبحضور مجموعة مقرّبة من الأصدقاء”. ويقرّ بالتقصير في ترويج أعماله، و”غياب كثير من الألحان والأعمال عن صفحاتي الرسميّة على مواقع التواصل الاجتماعيّ”، لأنّ “متعتي الحقيقيّة هي في فعل التلحين أكثر من التسويق الباحث عن المال، ولو كان كذلك لفتّشت عن استثمارات أخرى، لأنّ بعض أفران المناقيش المحترفة تأتي بدخل أعلى من الغناء”.

سحاب: متعتي الحقيقيّة هي في فعل التلحين أكثر من التسويق الباحث عن المال، ولو كان كذلك لفتّشت عن استثمارات أخرى، لأنّ بعض أفران المناقيش المحترفة تأتي بدخل أعلى من الغناء

أفول ثقافيّ

أمّا في ما يتعلّق بـ “الفنّ النخبويّ في مواجهة، الفنّ السلعة”، يجيب زياد سحّاب: “حاليًّا، لم يعد يستفزّني نجاح أيّ عمل غنائيّ سيّء على خلاف الماضي، وبتُّ أرى وجوب توافر مساحة لكلّ شيء، وهو ما كان موجودًا في عصر الفنّ العربيّ الكلاسيكيّ، إذ شهد التاريخ لحظات من المدّ والجزر ونهضات ثقافيّة. ففي زمن الانحطاط السياسيّ، لا يمكن أن نتوقّع نهضة ثقافيّة على مستوى الإنتاج الأدبيّ والفنّيّ”، متحدّثًا عن “مرحلة أفول ثقافيّ في العالم العربيّ بدأت مع هزيمة الـ 1967 (هزيمة العرب أمام إسرائيل)، ولكنّني متفائل من المستقبل على مستوى المنطقة، وسنكون في مرحلة أفضل ممّا عشناه خلال العقود الثلاثة الماضية”.

وحول ما يرتبط بالعولمة وآثارها، يعترف سحّاب بصعوبة تقديم رؤية وإجابة دقيقة، إذ “إنّني أؤمن بمحلّيّة الثقافة على رغم إيماني بأمميّة العلاقة الإنسانيّة، لأنّ عازف الفلامنجو لا بدّ من أن يكون غجريًّا إسبانيًّا، ليعكس وجدان وهويّة تلك الحضارة، على رغم وجود محاولات واستثناءات، ولكن بالمطلق يعدّ الفنّ ابن بيئته”. ويضيف: “وعندما أطلقت مشروع التانجو مع سميّة بعلبكي، أستقدمنا موسيقيّين من الأرجنتين، وانكببت ستّة أشهر على العمل كي لا يسخر منّي هؤلاء الفنّانون أبناء الثقافة الحقيقيّة. ما كانت أم كلثوم لتكون على ما وصلت إليه لولا أنّها لم تكن ابنة شيخ، وحافظة لقواعد تجويد القرآن الكريم”.

ويرى زياد “لا بد من رصد كيف ستؤثر العولمة، وتأثير كبسة الزر على محلية الثقافة، وما ينتج عنها. لأننا نعيش في مرحلة انتقالية على مستوى محلية الثقافة، ولكن لم تظهر النتائج النهائية بعد، وإن كنت أعتقد أن محلية الثقافة لن تمحى وإنما ستنتقل إلى أشكال جديدة”.

يتطرق زياد سحّاب إلى “الطفرات الفنّيّة” واستقبالها من الجمهور، يقول “في السابق، رأى بعضهم في فنّ السيّد درويش، ومن قبله محمّد عثمان وعبد الحامولي خروجًا على الفنّ الرصين”، مضيفًا “يمكن التعامل مع الفنّ من منطلق متحفيّ، وهو ما نقوم به عند تعليم تقاسيم العود، ولكن مع الانتقال إلى مستوى الشحطات والتجديد، لا بدّ من الانطلاق من القواعد والأسس والتقاليد”. ويؤّكد “أنا من أعداء منطقة الراحة في الفنّ، لأنّها مقتل للفنّان”، مكرّرًا مقولة “الشهرة تأسر الفنّان، وأنا لست ضدّ أحد بالمطلق، فلكلّ فنّان تفكيره وتجربته وخياراته الخاصّة”.

ألحان متجدّدة

قدّم سحّاب عرضًا متنوّعًا تضمّن أعمالًا من أرشيفه، وألحانًا جديدة. وغنّى لأوّل مرّة لحنين جديدين ضمن مشروع متكامل، ينطلق من ترجمة أعمال الأدب العالميّ إلى العامّيّة المصريّة بجهود الشاعر المصريّ محمّد خير “رفيق درب سحّاب”، ويعود إليه الفضل بكتابة 40 أغنية مختلفة.

في السياق، أدّى زياد سحّاب نصًّا لـ “لوركا”، وآخر لـ “بابلو نيرودا”، ويعزو السبب باختبار العامّيّة المصريّة وليس اللبنانيّة إلى سببين، الأوّل يرتبط بالتعاون المثمر مع محمّد خير، أمّا الآخر، فيعزوه إلى أنّ “أكثريّة الأغاني التي قدّمتها شخصيًّا هي بالعامّيّة المصريّة التي كانت من ثمرّة عقل العظيم صلاح جاهين، والشاعر أحمد فؤاد نجم، وصولًا إلى محمّد خير”، ويردف “لا ننسى أنّ الموسيقى العربيّة الكلاسيكيّة تتحدّث باللهجة المصريّة، بدءًا من الأفلام والسينما، حيث احتضنت مصر نهضة عربيّة على أرضها في القرن العشرين بعد عصر محمّد علي، وغدت المصريّة اللغة المشتركة بين العرب في المهجر، نظرًا لانتشارها الواسع”.

مشروع صوفيّ

يتطرّق زياد سحّاب إلى مشروعه “الصوفي” بسبب حبّه للغة العربيّة، فيقول “عملت على تلحين نصوص تمسّني من الداخل على رغم بعدي عن التصوّف” لجلال الدين الروميّ، والحلّاج، والسهرورديّ، ونصوص معاصرة للشاعر اللبنانيّ مهدي منصور، تتماهى مع الجوّ الصوفيّ، بالإضافة إلى نصّ ينسب للمتصوّفة رابعة العدويّة “عرفت الهوى مذ عرفت هواك”، وهو نصّ يعود إلى طاهر أبو فاشة؛ فقد قدّم بعضها للمرّة الأولى في “مهرجان تنوير” في الشارقة، واعدًا بنشر تسجيل الحفلة على صفحته الخاصّة خلال الأسبوع الأوّل من آذار (مارس) بعد إتمام عمليّات المونتاج.

ويلفت سحّاب إلى أنّه لا يخشى النقد، ولا يشعر بالمسؤوليّة، و”لا يعمل لإرضاء أحد حيال أيّ مشروع لإحياء التراث العربي” ذلك أنّه يختار نصوص بأبعاد فلسفيّة، ويتفاعل مع نصوص تمسّه، ولا يعتبرها سقطة أن يلحّن نصّ لجلال الدين الروميّ، ومن ثمّ شعر أحمد فؤاد نجم.

سحاب: أكثريّة الأغاني التي قدّمتها شخصيًّا هي بالعامّيّة المصريّة التي كانت من ثمرّة عقل العظيم صلاح جاهين، والشاعر أحمد فؤاد نجم، وصولًا إلى محمّد خير

الإبداع أولًا

لا يخفي سحّاب أنّه “يساريّ بالقناعات وبالنظرة للمجتمع والاقتصاد، ولكنّه لا يحبّ تقييمه فنّيًّا من هذا المنطلق”، لأنّ “هناك فنًّا يدّعي أنّه ملتزم، وليس كلَّ من يغنّي لفلسطين جيّد، ولأنّ هناك كثيرًا من الإنتاج السيّء”، مضيفًا “من يتّبع المنطق الراهن، يمكنه أن يصل إلى استنتاج غير دقيق بأنّ الشيخ إمام أهم موسيقيًّا من محمّد عبد الوهاب، وهو أمر غير صحيح، وإن كان كذلك على المستوى الإنسانيّ”. ويعتبر أنّ “الأحكام الأيديولوجيّة خدمت بعض الناس المدّعين، وظلمت آخرين”.

في موازاة ذلك، يتحدّث سحّاب عن “احترام الفنّان لذاته في غضّ النظر عن التصاقه أو معارضته للسلطة”، معبّرًا عن تذوّقه لأعمال الموسيقار محمّد عبد الوهاب الذي ربطته علاقات وطيدة بالملك ومن ثمّ الرؤساء المتعاقبين، لأنّه صاحب أعمال نادرة، وقد “أنتج خلال سبعين عامًا بعض الألحان التي عبّرت عن عبقريّته، إذ يمرّ كلّ ألف سنة ملحّنًا مشابهًا، قدّم ألحانًا متجدّدة وواكب مدرسة سيّد درويش. ونسج على منوال حقبة أفلام الأبيض والأسود وشهرة محمّد فوزي وفريد الأطرش، ونافس مرحلة صعود كمال الطويل، ومحمّد الموجي، ولم تتمكّن مدرسة بليغ حمدي من الطغيان على قدرته الهائلة على “التجدّد العبقريّ” في التلحين والغناء، بدءًا بأمّ كلثوم ونجاة الصغيرة ووردة وفايزة أحمد ووديع الصافي، وعكس في ألحانه طبيعة الأماكن التي تحاكيها الأغاني، ففي “عندك بحريّة يا ريّس”، قدّم لحنًا “متلوّنًا” يرسم حياة أبناء الجرد، وهو ما كرّره مع “ع الضيعة” التي قدّمتها صباح، وغيرها من الأعمال التي قدّمها للسيّدة فيروز”.

المقاطعة ليست اعتباطيّة

يعلّق زياد سحّاب على “حملات المقاطعة” التي لا يجب أن تكون اعتباطيّة، وألّا تتعاطى بسطحيّة مع الفنّانين، وتستسهل الاستهداف من دون مراجعة الشخص المستهدف. جاء من ينتقد وجود عازف روسيّ يهوديّ في الفرقة، وهو يحمل جنسيّة ألمانيّة أيضًا، وأصدر بيانًا يؤكّد “ألّا علاقة له مطلقًا مع اسرائيل”.

ويلفت سحّاب إلى أنّ “هناك أشخاصًا فصلوا من عملهم في أوروبّا بسبب مواقفهم من الكيان الإسرائيليّ”، مشدّدًا على أنّ” المقاطعة مجدية، ويمارسها كما يراها، فهو من أوائل المقاطعين هو وعائلته للسلع التي لها بديل، ولا يزور بعض المطاعم أو يشتري السلع. أمّا في حال لم يكن هناك من مشغّل للكمبيوتر إلّا أمريكيّ، فأنا مضطرّ لاستخدامه كي أتمّم عملي”. ويكشف عن أنّه يعدّ ألبومًا مع الفنّانة رولا عازر التي تنتمي إلى عرب الـ 48، ويختم “مواقفي من فلسطين هي قناعات شخصيّة، وليست إرضاءً لأحد”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى