مصطفى فرّوخ ريشة ساخرة وعبقريّة الخطوط المتقشّفة

بعيدًا من الهالة الكلاسيكيّة التي تحوط الفنّان اللبنانيّ مصطفى فرّوخ، وشهرته كواحد من أعمدة الفنّ التشكيليّ في لبنان، تتبدّى لنا شخصيّة أخرى له، أكثر جرأة وأقرب إلى نبض الشارع، حين نطالع ألبومه “وجوه العصر” (1981، إعداد هاني مصطفى فرّوخ، عن دار العلم للملايين). فهنا يتجلّى فرّوخ كمبدع يختزل الملامح والتفاصيل بخطوط متقشّفة، ضاربة في بساطتها حدّ العبقريّة، معتمدًا على الحبر وحده كسلاح للتعبير، إذ تبدو ضرباته واثقة، لا تحتمل الزيادة ولا النقصان، وكأنّ كلّ خطّ مرسوم محكوم بحكمة خفيّة تحافظ على جوهر الشكل من دون إفراط أو تكرار.

السخرية والرؤية الناقدة

في هذا الألبوم يتعامل فرّوخ مع الكاريكاتور كأداة تحليليّة، يكشف من خلالها تناقضات المجتمع العربيّ في الأربعينيّات من القرن الماضي. تتنوّع مواضيعه بين السياسة والاجتماع، فيُسلّط الضوء على قضايا فلسطين والعرب، ويفضح ممارسات الإقطاع والفساد، ويصوّر بائع كاز في زمن الفقر، كما يعكس قوانين إطلاق الرصاص بتهكّم لاذع، يحمل في طيّاته نقدًا اجتماعيًّا عميقًا. غير أنّ تلك الرسوم، على رغم حدّتها، لا تحقّق دائمًا “القفزة الكاريكاتوريّة” التي تصل إلى ذروتها في السخرية والرمزيّة، لكنّها تبقى محاولات رياديّة تُحسب لفنّان تشكيليّ جاء إلى هذا الفنّ في مرحلة لم يكن قد تبلور بعد بأساليبه ومدارسه مثلما نعرفه اليوم.

فرّوخ بين الكلاسيكيّة والكاريكاتور

لا يمكن فصل تجربة فرّوخ الكاريكاتوريّة عن سياق دراسته في الغرب، حيث حمل معه إرثًا فنّيًّا غنيًّا انعكس في منهجيّته الفنّيّة، فجاءت خطوطه أكثر انضباطًا، وأسلوبه متأثرًا بتقنيّات المدارس الأوروبّيّة التي درسها وتأمّلها عن كثب. هذا التأثير بدا جليًّا ليس فقط في أسلوبه، بل أيضًا في وعيه بأهمّيّة تعريف جمهوره المحلّيّ على هذا الفنّ الجديد آنذاك، إذ استهلّ كتابه بمقدّمة شارحة، يُبسّط فيها للقارئ العربيّ مفهوم الكاريكاتور، ويفسّر جذوره وأبرز مدارسه، وكأنّه يسعى إلى جعل هذا الفنّ أكثر قربًا واستيعابًا ضمن السياق الثقافيّ العربيّ.

قد يبدو للوهلة الأولى أنّ مصطفى فرّوخ، الفنّان التشكيليّ ذا البصمة الكلاسيكيّة الرصينة، يناقض ذاته حين يخوض غمار الكاريكاتور، إذ يقوم هذا الفنّ على المبالغة والتشويه والتقاط الطرافة في التفاصيل. لكن في الحقيقة، ما قدّمه فرّوخ هو انعكاس لفكر فنّان يرى العالم بعين تحليليّة، سواء عبر الألوان الزيتيّة التي كان يستخدمها في لوحاته، أو عبر الخطوط الحبريّة التي اختزل بها أزمات مجتمعه. وبينما اشتهر بلوحاته الكلاسيكيّة التي تحاكي الضوء والظلّ ببراعة، استطاع في “وجوه العصر” أن يمارس فنًّا آخر، أكثر صخبًا وأقرب إلى الناس، يلتقط بسحره جوهر شخصيّات زمانه، ويدفع القارئ إلى التأمّل، ليس فقط في اللوحة، بل في الزمن الذي صُوِّرت فيه.

البورتريه الكاريكاتوريّ

في صفحات “وجوه العصر”، لا يتوقّف مصطفى فرّوخ عند رسم ملامح شخصيّات زمانه، بل يتحوّل إلى مؤرّخ بصريّ، يُوثّق حقبة بأكملها من خلال وجوه ارتسمت في الذاكرة الجمعيّة، وأخرى أوشكت على الضياع في زحام الزمن. عشرات البورتريهات الكاريكاتوريّة تملأ الكتاب، تتفاوت بين شخصيّات سياسيّة لبنانيّة، وزعامات عربيّة وأجنبيّة، وبين أعلام الفكر والأدب والموسيقى، فتبدو ريشة فرّوخ هنا وكأنّها تنبش في الوجوه لا لتعيد إنتاجها، بل لتكشف جوهرها بلمسة ساخرة وحادّة، تنقل بمهارة تفاصيل الشخصيّة وما وراء ملامحها.

في صفحات “وجوه العصر”، لا يتوقّف مصطفى فرّوخ عند رسم ملامح شخصيّات زمانه، بل يتحوّل إلى مؤرّخ بصريّ، يُوثّق حقبة بأكملها من خلال وجوه ارتسمت في الذاكرة الجمعيّة.

بين الوجوه الفكريّة التي اختارها فرّوخ لتكون جزءًا من سجلّه الفنّيّ، نرى شخصيّات تركت أثرًا في الحياة الثقافيّة اللبنانيّة والعربيّة، مثل الشاعر البيروتيّ عمر الزعنّي، صاحب النقد اللاذع والمواقف الجريئة، الذي جسّده فرّوخ بأسلوب يعكس روحه الساخرة وميله الدائم إلى السخرية اللاذعة من الواقع. كما نجد الصحافيّ جبران تويني، الجدّ المؤسّس لصحيفة “النهار”.

ومن عالم الفكر والأدب، نجد أمين الريحانيّ، رائد النهضة العربيّة، بوجه يحمل ملامح التأمّل العميق، وكأنّ الريشة التقطت فكره المتّقد أكثر من مجرّد ملامحه. أمّا في الموسيقى، فيرسم فرّوخ الموسيقار سيّد درويش، معبّرًا عن عبقريّة هذا الفنّان الشعبيّ الذي صاغ الوجدان العربيّ بألحانه، وعازف الناي الحاج نجيب البربير، الذي كان من رموز الموسيقى الشرقيّة الكلاسيكيّة، إلى جانب وديع صبرا، واضع النشيد الوطنيّ اللبنانيّ.

الكاريكاتور يُحيِ تاريخًا مفقودًا

ما يجعل هذه البورتريهات ذات قيمة استثنائيّة، ليس دقّتها أو أسلوبها وحسب، بل حقيقة أنّها تُعيد إلى الأذهان أسماء طواها النسيان. بعض الشخصيّات التي خطّها فرّوخ بحبره الحادّ، لم يعد لها حضور في المشهد الثقافيّ أو الإعلاميّ اليوم، وكأنّ الزمن أزاحها من الذاكرة، ليأتي هذا الألبوم ويعيد تقديمها بشكل غير تقليديّ. إنّ فرّوخ لم يكن مجرّد فنّان يرسم الوجوه، بل كان أشبه بمؤرّخ يمسك بالريشة بدل القلم، ويكتب التاريخ بخطوط ساخرة لكنّها عميقة، تعيد إحياء شخصيّات كادت أن تذوب في غبار النسيان.بهذا المعنى، يمكن اعتبار “وجوه العصر” ليس كتابًا فنّيًّا فقط، بل وثيقة نادرة تحفظ تفاصيل مرحلة بأكملها.

مسيرة فنّيّة وحياتيّة

في قلب بيروت النابض بالحياة، وُلد مصطفى فرّوخ العام 1901، ليُصبح أحد أبرز روّاد الفنّ التشكيليّ في لبنان والعالم العربيّ. لم تكن حياته مجرّد مسيرة فنّان، بل رحلة إبداعيّة وثقافيّة زاخرة بالإنجازات، ترك خلالها بصمة لا تُمّحى في تاريخ الفنّ اللبنانيّ.

بدأ فرّوخ رحلته الفنّيّة في روما، حيث تخرّج من الجامعة الملكيّة للفنّون الجميلة العام 1927، وصقل موهبته بالدراسة الأكاديميّة. ثمّ انتقل إلى باريس، عاصمة الفنّ والنور، فتتلمذ على أيدي كبار الفنّانين الفرنسيّين، أمثال بّول شاباس وفوران وجول كرون، وعرض أعماله في صالون باريس الكبير، الذي لا يقبل إلّا روائع الإبداع.

بعد رحلة إلى إسبانيا، عاد فرّوخ إلى بيروت سنة 1932، بعدما تشبّع بروائع الفنّ الأندلسيّ، فكان لهذا الأمر الأثر العميق في أسلوبه، إذ أبدع لوحاتٍ ساحرةً تجسّد روح الفنّ العربيّ في الأندلس ولبنان. أقام عديدًا من المعارض الفنّيّة في بيروت، لاقت استحسان النقّاد والجمهور، ودرّس الرسم في الجامعة الأمريكيّة ودار المعلّمات، وألقى محاضراتٍ قيّمةً في الندوة اللبنانيّة، ساعيًا إلى نشر رسالة الفنّ الأصيل بين أبناء وطنه.

تميز فنّ فرّوخ بقوّة الخطوط، ونقاء الألوان، وبراعته في تصوير الموضوعات التاريخيّة والقوميّة. كذلك أولى اهتمامًا خاصًّا بدراسة روح الطبيعة ونفسيّة الإنسان، وإبراز الطابع الشخصيّ واللون المحلّيّ. كان من كبار الفنّانين الذين امتلكوا زمام الفنّ، بفضل معرفته العميقة بأصوله العلميّة، وقوّة رسمه، وغنى ألوانه، وهي خصائص استلهم بعضها من أستاذه حبيب سرور.

إنجازات وجوائز

عرض فرّوخ أعماله في معرض نيويورك الدولي العام 1940، ودخل اسمه قاموس الفنّ العالميّ سنة 1950، ليصبح صاحب نهضة فنّيّة، وزعيم مذهب في الرسم، يشهد له به أرباب الثقافة في أوروبّا ولبنان. حصل على الجائزة الأولى لرئيس الجمهورية اللبنانيّة العام 1955، ووسام الاستحقاق اللبنانيّ، ووسامي الأرز الوطنيّ من رتبة فارس وضابط.

رحل فرّوخ عن عالمنا في الـ 16 من شباط (فبراير) 1957، بعد صراع مع المرض، تاركًا إرثًا فنّيًّا خالدًا، يتجلّى في 5000 لوحة بيعت في لبنان وخارجه، وثلاثة كتب مطبوعة: “رحلة إلى بلاد المجد المفقود”، و”قصّة إنسان من لبنان”، و”الفنّ والحياة”.

يُعتبر مصطفى فرّوخ من روّاد الفنّ التشكيليّ في لبنان والعالم العربيّ، ولا يزال إرثه الفنّيّ المتنوّع يلهم الفنّانين والباحثين حتّى اليوم. لقد كان فنّانا ملتزمًا بقضايا وطنه وأمّته، وسعى إلى التعبير عن الهويّة اللبنانيّة والعربيّة في أعماله. وعلى الرغم من تحفّظه تجاه الحركات الفنّيّة الحديثة، إلّا أنّه استطاع أن يطوّر أسلوبه الخاص، الذي يجمع بين الأصالة والمعاصرة. إنّ أعمال فرّوخ تشكّل وثيقة تاريخيّة وفنّيّة هامّة، تعكس جوانب مختلفة من الحياة في لبنان خلال القرن العشرين.

من وجهة نظري الشخصيّة، أرى أنّ مصطفى فرّوخ يستحقّ مكانة مرموقة في تاريخ الفنّ العربيّ، وأنّه نموذج للفنّان المبدع والمثقّف الملتزم. لقد كان فنّانا شاملًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى