تحدّيات إعادة الإعمار من أين سيأتي التمويل؟

قد يكون أخطر ما في مراحل إعادة الإعمار لمعظم الحروب التي مرّ بها لبنان، هو غياب تحمّل الناس للكلف المباشرة لتلك الحروب بشكل واضح وصريح، وهنا نتحدّث عن مرحلة ما بعد الطائف وأيضًا حروب الجنوب، وتحديدًا ما بعد حرب العام 2006.
لذا، اختصار الإعمار على الحجر، وتمويله من خلال الدين أو التمويل الخارجيّ من مساعدات، أو من خلال المال السياسيّ، لا يخفي حقيقة أنّ هناك خسائر على المجتمع والاقتصاد والبنى التحتيّة وقوّة ومناعة البلد. المشكلة في كيفيّة فهم الناس ورؤيتها لهذه الخسائر.
المسألة تكمن في “عمليّة الترقيع” و”إخفاء” الكلف الحقيقيّة، التي يقوم بها العقل المتحكّم في المعالجات واجتراح الحلول. فحرب الـ 2006 مثلًا لم يكن من الممكن إعادة إعمار ما تهدّم، لولا تضافر ظروف استثنائيّة، إقليميًّا ودوليًّا. ظروف منعت الناس والبلد من استخلاص العبر. فالمجهود الحربيّ وإعادة الإعمار، كلاهما كانا دائمًا أكبر من قدرات البلد الاقتصاديّة والبشريّة أيضًا، معطوف عليها أنّه لولا العمالة الرخيصة غير المنظّمة مثلًا، من السوريّين والمصريّين وغيرهم، لما كان هناك قدرة على إعادة إعمار ما تهدّم بالسرعة التي حدثت بها الأمور على رغم توافر الأموال.

مقاربات الإعمار بين الأمس واليوم
في الحرب اللبنانيّة كما حرب الـ 2006، تمّ استثمار المليارات بالمجهود الحربيّ، كان ذلك أبعد بكثير من إمكانيّات لبنان الاقتصاديّة، وكان الدمار أيضًا أبعد وأكبر بكثير من إمكانيّات بلد الأرز. لكن الظروف الإقليميّة والدوليّة والداخليّة هذه المرّة ليست في صالح أيّ مشروع بناء وإعادة إعمار سريعة وغير مؤلمة. لماذا؟ يمكن اختصار ذلك في الأسباب الآتية:
أولًا: إيران، عرفت منذ ثلاث عقود بقدرتها الناجحة على تأسيس ميليشيات وإقامة الحروب بالواسطة. لكن ليس في رصيدها أيّ عمليّة بناء جدّيّة خارج حدودها. هذا كان صحيحًا في فترة الفورة النفطيّة، فكيف لها اليوم أن تقوم بدفع عشرات المليارات؟ اليوم هي محاصرة ومطلوب منها التخلّي عن أذرعها والاهتمام بمشاكلها الداخليّة.
ثانيًا: المجتمعان الدوليّ والعربيّ وضعا شروطهما على الجميع. تفكيك الميليشيا وإقامة الإصلاح قبل حتّى التحدّث عن إعادة الإعمار. هذا دون التطرّق إلى الأزمات الاقتصاديّة والمنافسة على المساعدات الدوليّة والاستثمارات الأجنبيّة في ظلّ حرب تجاريّة عالميّة من جهة، وفي ظلّ مسارح الدمار المتعدّدة من أوكرانيا مرورًا بالسودان واليمن وصولًا إلى سوريّا ولبنان وغزّة.
لا يمكن مقارنة ما حصل من عمليّات إعمار في الحروب السابقة وما كان يرافقها من خلق فرص اقتصاديّة مباشرة مع ما يجري اليوم، إذ إنّ الوضع غير المستقر والمعقّد يراوح بين اللّاسلم واللّاحرب ويدفع الناس إلى النزوح والهجرة،
ثالثًا: الأزمة الاقتصاديّة والماليّة والمصرفيّة والنقديّة اللبنانيّة التي قضت على مدّخرات اللبنانيّين، ودمّرت الاقتصاد اللبنانيّ ومعه أيّ جاذبيّة للاستثمار الأجنبيّ، وهذا ليس بتفصيل. فتأتي الحرب الأخيرة لتدمّر ليس الحجر والناس فحسب، بل لتدمر النسيج الاقتصاديّ والبنى التحتيّة، ومعهما الوظائف في جزء كبير من الجنوب والبقاع.
لذا لا يمكن مقارنة ما حصل من عمليّات إعمار في الحروب السابقة وما كان يرافقها من خلق فرص اقتصاديّة مباشرة مع ما يجري اليوم، إذ إنّ الوضع غير المستقر والمعقّد يراوح بين اللّاسلم واللّاحرب ويدفع الناس إلى النزوح والهجرة، في محاولة منهم لتأسيس فرص حياة جديدة في أماكن أخرى. خصوصًا أنّ الشروط الموضوعة على البلد، تمنع حتّى تدفّق المساعدات الإنسانيّة البسيطة.
تفكّك الدولة والمجتمع
رابعًا: الصراع الداخليّ على السلطة وإعادة تكوينها والمنافسة على مصادر التمويل والحديث عن استعمال الذهب وغيره، في ظلّ التفكّك الذي وصل إليه البلد منذ هيمنة حزب الله وحلفائه عليه، وصولًا إلى الانهيار الاقتصاديّ، وهو ما أدّى إلى تصدّع في بنية الدولة والمجتمع. هذا قبل الدخول في حرب “الإسناد”، حيث كان الحزب يقول نحن نموّل الحرب ونقدّم الشهداء، وسنبني ما تهدّم، فلماذا تعارضون وقوفنا مع غزة؟
وإذا كانت الأمور بخواتيمها، فالنتيجة أتت مدمّرة للبلد وللحزب الذي لم يعد بمقدوره ليس إعادة الإعمار فحسب، بل معالجة تداعيات الحرب الضخمة، لذا فإنّ أيّ استدانة من قبل الدولة لعمليّة إعادة الإعمار في الجنوب، ستواجه بمعارضة كبيرة للأسف، وما ينطبق على الاستدانة ينطبق على الذهب، إذ إنّ التفكّك الحاصل جعل من كلّ منطقة وكلّ جماعة تشكّل أولويّاتها بمعزل عن الآخرين، فمع انهيار الخدمات العامّة، واستفحال الفقر والهجرة، والتراجع الاقتصاديّ، والأزمة الماليّة والمصرفيّة، لم يعد هناك إلّا أولويّات، لكن لكلّ منطقة ومكوّن أولويّاته.

خامسًا: هذه المشهديّة انعكست سلبًا على الاغتراب اللبنانيّ، الذي تغيّرت علاقته بالبلد، ونظرته التفاؤليّة بمستقبله، بدءًا من الأزمة المصرفيّة التي قضت على مدّخراته، وصولًا إلى الحرب الأخيرة وما أدّت إليه من دمار في المنازل التي بناها المغتربون في بلداتهم وقراهم، ومن استثمارات ضخمة وظّفوها في شراء عقارات ومشاريع وغيرها. وقد يكون الجنوب من المناطق الطرفيّة التي كانت أكثر ازدهارًا ونموًّا من بين المناطق اللبنانيّة، مردّ ذلك يعود إلى الاطمئنان لـ “معادلة الردع” التي عاش في ظلّها الجنوبيّون بشكل خاص بعد حرب العام 2006، وسقطت في الحرب الأخيرة.
تغيّرات جذريّة
كلّ ذلك تغيّر جذريًّا اليوم، سرديّة “لولا المقاومة” انهارت، والمجتمع “الشيعيّ القويّ” المتخيّل انهار كذلك، فمن سيستثمر مجدّدًا في إعادة بناء منزله على الشريط الحدوديّ، وهو لا يعرف ماذا يُخبّئ له المستقبل، والحرب لم تضع حتّى أوزارها بعد؟ ناهيك بحجم الدمار الكبير الذي طال دورة حياة برمّتها، ومن ركائزها الاقتصاد المحلّيّ وناسه المقيمة صيفًا وشتاءً وتحوّلوا إمّا إلى نازحين أو إلى مهاجرين.
وعليه، فإنّ التشاؤم وغياب اليقين سيدفعان المغتربين، إلى عدم الاستثمار في عمليّة إعادة بناء بلداتهم، أو إلى الحدّ الأدنى من ذلك، أو الذهاب إلى بدائل متوافرة في مناطق أخرى أو في المهاجر.
هذه هي باختصار التحدّيات التي تواجه تمويل إعادة إعمار ما هدّمته المغامرة الأخيرة على مسرح الصراعات الإقليميّة. مغامرة لم تكن ممكنة لولا تراجع دور لبنان، وهي المغامرة التي يمكن أن تفجّره إذا لم نستطع ابتكار دور جديد، وبناء دولة وازدهار اقتصاديّ تمكّن البلد من إعادة بناء ما دمّرته الحرب وما دمّره الفساد والمليشيّات. وكلّما خضعنا لشروط الدولة والإصلاح، كلّما خرجنا بسرعة من المآزق الحاليّة، الاقتصاديّة منها والسياسيّة والعمرانيّة.