بين “باء” نبحا و”ياء” نيحا سبعون صوتًا انتقلت من مكان لآخر

لم يكن يعرف أهالي بلدة نبحا في البقاع الشماليّ أنّ خطأً إملائيًّا بسيطًا في كتابة أوراق القيد، سيجعلهم ينتمون إلى بلدةٍ أخرى في البقاع الأوسط لجهة سجلّات النفوس، فيجعلهم جغرافيًّا في مكانٍ وانتخابيًّا في مكانٍ آخر. هذا الواقع بدا غريبًا لمدّةٍ من الزمن، ثم تعايشوا معه حتّى صار واقعًا برضاهم لا يرغبون في تصحيحه حتّى يومنا هذا.

بين نبحا ونيحا

فكلمتا نبحا ونيحا وهما اسمان لبلدتيْن متباعدتيْن في الزمان والمكان، من حيث النطق واللفظ، من المحسّنات اللفظيّة في اللغة العربيّة تدلّان على الجناس اللفظيّ المتشابه لفظًا والمختلف دلالةً. لقد كان لهذا التشابه حدّ التماهي بين اللفظتيْن بالغ الأثر في ما تسبّب به من تغيير ليس بين حرفيْ الباء والياء فحسب، بل في نقل أناسٍ “نفوسيًّا” من مكان إقامةٍ وعيشٍ إلى مكان انتخابٍ واستصدار أوراقٍ ثبوتيّة.

بدل “الباء” “ياء”!

بُعيْد جلاء الانتداب الفرنسيّ عن لبنان وانتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهوريّة اللبنانيّة، وقيام المؤسّسات الإداريّة والرسميّة، ونتيجة خطأ في الكتابة (بدل الباء ياء)، جرى تسجيل عدد من أبناء بلدة نبحا البقاعيّة الشماليّة القريبة من الهرمل على أنّهم من بلدة نيحا الواقعة في البقاع الأوسط والقريبة من مدينة زحلة.

بلدة نبحا في البقاع الشمالي قرب الهرمل

وبحسب ما يروي حنّا رميلي ابن بلدة نيحا أنّ “أبناء نبحا لم ينتبهوا إلى أمر الخطأ في اسم بلدتهم على هويّاتهم لزمن طويل، حتّى اكتشفوا ذلك عند أوّل عمليّة انتخابٍ بلديّ، فوجدوا أنفسهم أنّهم لا يستطيعون الانتخاب في بلدتهم لكون اسم بلدة نيحا هو المكتوب في هويّاتهم. ويتابع في حديث لِـ “مناطق نت”: “حينها لم يجدوا أنّ بين حرفيْ الياء والباء فرقًا، على اعتبار أنّهم يسكنون في نبحا، إلّا أنّ الفرق في القانون معتدّ به، لا سيّما أنّ هناك بلدة اسمها نيحا يدلّ الخطأ في حرف الياء عليها”.

يضيف رميلي أنّ أبناء بلدته نيحا تفاجأوا في بداية الأمر حين أتى عدد من أبناء نبحا لممارسة حقّهم الانتخابيّ في بلدتهم لأوّل مرّة “لأنّ الوجوه جديدة، والآتون ليسوا من البلدة، ولكن كان لكلمة نيحا في هويّات الآتين الجواب الحاسم القاضي بحقّهم القانونيّ في عمليّة الانتخاب.”

أبناء لبلدتيْن

أكسب الخطأ غير المقصود الذي تسبّبت فيه كتابة إملائيّة لاسمٍ أبناءَ بلدة نبحا، هويّةً جديدةً في بلدةٍ جديدةٍ، “فباتت لهم بلدتان وحقّان وأحبّة وأصدقاء جُدُد. وبتنا معهم عائلة واحدة، ومجتمعًا واحدًا، نتصادق ونتزاور ولا نفرّق بينهم وبين أبنائنا ممّن هم يسكنون بلدتنا.” وفق تعبير رميلي.

تتميّز بلدة نيحا البقاعية مثل بعض بلدات البقاع بتنوّعها الطائفيّ؛ المسيحيّ والمسلم، وإن كان يغلب عليها الوجود المسيحيّ الموزَّع بين موارنةٍ ورومٍ أورثوذكس مع عددٍ قليلٍ من المسلمين الشيعة.

وعلى الرغم من أنّه مضى على ما حصل مع أبناء نبحا عشرات السنين، فإنّهم لم يقوموا بتصحيح الخطأ الوارد في هويّاتهم “أو أنّهم قاموا ولم يوفّقوا لأسباب عديدة، أو لأنّهم لم يجدوا ضررًا من ذلك، فما زالوا يتعاملون معه، حتّى اليوم، بكلّ تقبّلٍ وطمأنينة ورحابة صدر، حتّى أنّهم لم يشتكوا أمامنا من ذلك، فنحن نجد أنّهم أهلنا وأخوتنا ولم نعدّهم يومًا غرباء”، يشير رميلي.

نبحا والانتخابات في نيحا

تتميّز بلدة نيحا البقاعية مثل بعض بلدات البقاع بتنوّعها الطائفيّ؛ المسيحيّ والمسلم، وإن كان يغلب عليها الوجود المسيحيّ الموزَّع بين موارنةٍ ورومٍ أورثوذكس مع عددٍ قليلٍ من المسلمين الشيعة. وما يميّز هذا التنوّع العلاقات الاجتماعيّة الفريدة القائمة بين أبناء البلدة جميعًا، حيث الروابط المجتمعيّة وثيقة والكلّ في خدمة الكلّ، فحقوق الجميع في الاستحقاقات مصانة ومحفوظة. على أنّه ليس كلّ أبناء نبحا ينتخبون فيها بسبب الخطأ في سجلّات القيد، إذ يأتي حواليْ ٧٠ فردًا منها إلى نيحا للانتخاب، عند كلّ استحقاق وتكون لهم الحرّيّة المطلقة في الاختيار والتمثيل.

تبادل جغرافيّ

ليس انتقال عدد من أبناء نبحا إلى نيحا وحده الذي غيّر ديموغرافيا البلدة، إذ إنّ حدثًا تاريخيًّا آخر غيّر من جغرافيّتها أيضًا، ووفقًا لـ رميلي فإنّ تبادلًا في المكان الجغرافيّ حدث قبل عشرات السنين بين أبناء بلدة تمنين الفوقا المحاذية لنيحا وأبناء الأخيرة، إذ حلّ كلّ من أبناء البلدتيْن مكان الآخر “مع بقاء عددٍ من بعض العائلات “التمنينيّة” في بلدتهم “السابقة” نيحا وانتقال القسم الأكبر منهم إلى تمنين الفوقا.” ويشير رميلي إلى وجود مقامٍ “للنبيّ نجم” في بلدته “الجديدة” نيحا “نؤمن به ونزوره ونهتمّ به مثل إخوتنا المسلمين.”

بلدة نيحا في البقاع الأوسط قرب زحلة

لم يغيّر الواقع الجغرافيّ الجديد شيئًا في نفوس أبناء البلدتيْن من حيث التلاقي الاجتماعيّ والعلاقات المتبادَلة بينهما. “وخير دليلٍ على ذلك بقاء عددٍ لا بأس به من إخوتنا الشيعة في نيحا، يقدّر عددهم الانتخابيّ بنحو 50 فردًا يعيشون بيننا ومعنا في السرّاء والضرّاء، وكلّ ما حصل هو أنّ بلدة تمنين أُلحقت بقضاء بعلبك وبلدة نيحا أُلحقت بقضاء زحلة. وهذا لم يغيّر في الودّ والمحبّة والوحدة بين البلدتيْن وأبنائهما شيئًا” بحسب رميلي.

دور الصوت الشيعي بنيحا

من المعلوم أنّ النسيج الطائفيّ في بلدة نيحا مكوّن من الموارنة والروم الكاثوليك والروم الأورثوذكس والشيعة. يتوزّعون بنِسَبٍ متفاوتةٍ إذ يبلغ عدد الناخبين المسيحيّين مجتمعين حواليْ 1600 ناخبٍ يشارك منهم في الانتخابات قرابة 850 ناخبًا بحسب آخر انتخابات نيابيّة أجريت في العام 2022، بينما يبلغ عدد ناخبي الشيعة المقيمين في البلدة حواليْ 50 ناخبًا يضاف إليهم 70 آخرون من سكّان نبحا ممّن ينتخبون في نيحا ليصبح عدد ناخبي الشيعة في نيحا حواليْ ١٢٠ ناخبًا.

وعلى قلّة عدد الأصوات الشيعيّة في نيحا قياسًا إلى عدد الأصوات المسيحيّة فإنّهم يلعبون دورًا يعتدّ به فيما لو اقترعوا لمصلحة لائحة من اللوائح المتنافسة. إذ يشكّلون بيضة القبّان، وربّما يرجّحون كفّة لائحة على أخرى. لذا يسعى بعض سكان البلدة إلى استقطابهم كلعبةٍ ديموقراطيّةٍ في كلّ موسمٍ انتخابيّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى