“من له بلعوم عليه أن يقوم”.. التراث الشعبي إن حكى

من الصواب الأكّاديميّ التعامل مع التراث الشعبيّ المحلّيّ بجدّيّة، فهو حامل لتصوّرات الأفراد العاديّين (العامّة) عن العالم والحياة. وقد اعتبر المفكّر الدكتور مفيد أبو مراد أنّ الثقافة الشعبيّة هي “حذق العامّة وفطنتها”، وليست ثمرة التفكير النظريّ المجرّد، بل تملك وجهًا عمليّانيًّا وفاعليّة في مواجهة الحاجات الاجتماعيّة والنفسيّة والمعرفيّة المباشرة، سواء لجهة التكيّف مع الشروط الخارجيّة أو لجهة تكيّفها (الثقافة الشعبيّة والتربية، 1993، ص 167).

حكمة الشعب

وكان سبق للأديب الكبير مارون عبّود أن عدّ الأمثال الشعبيّة مكوّنًا أساسيًّا لـ “أدب الشعب” وعنوان ثقافته (الشعر العامّيّ، 1978، ص 15) ، وحاملًا أساسيًّا لحكمة الأمم، ينتج خصوصًا عن التعامل الشفهيّ داخل النظم الاجتماعيّة غير المعقّدة التي تعتمد أكثر ما يكون على الصلات الحسّيّة المباشرة والعلائق الشخصيّة.

ولا يأتي المثل اعتباطًا بل هو حصيلة تجربة وخبرة، أتى في سياق الممارسة العمليّة وربّما يشير على طريقته الخاصّة إلى بعض الحوادث التاريخيّة والظاهرات الاجتماعيّة، وتبقى “شائعة تدور على ألسنة الناس ما دامت تؤدّي وظيفة في المجتمع، أيّ ما دامت تردّ على حاجات الفرد واهتماماته الحياتيّة” (زاهي ناضر، أمثالنا العامّيّة، 1996، ص 11)، وقد بلغ الأمر حدّ القول إنّ “المثل كان نبيًّا”(يُنبأ)، و” لم يقل شيئًا كذبًا”.

الملاحظ أنّ ثمّة مجتمعات، ولا سيّما المجتمعات الزراعيّة، آخذة في الأفول، ونستطيع من خلال الأمثال الشعبيّة أو الدارجة إعادة رسم ملامحها

ولسبب كونها إرثًا مشتركًا موروثًا، يمكن بمساعدة مثَلٍ من الأمثال إنهاء أو إثارة نقاش أو فضّ نزاع، وإصلاح ذات البين بين متخاصمين من خلال استخدام تلك الجمل القصيرة المقتصدة في عباراتها والتي تجري على الألسنة كأحكام قاطعة لا مردّ لها. والمثل في شكل عام ليس حكمة محدّدة، إنّه يترجم أحيانًا، مع قليل من السخرية صورة الحياة من دون أن يقصد “التربية”، فهو يتميّز بعبارة شبه موجزة، ذات جوهر شعبيّ، مجرّدة من أيّ زخرف أسلوبيّ الذي هو خاصّ بالحكمة.

رسم ملامح الذاكرة

ونحن نلاحظ أنّ ثمّة مجتمعات، ولا سيّما المجتمعات الزراعيّة، آخذة في الأفول، ونستطيع من خلال الأمثال الشعبيّة أو الدارجة إعادة رسم ملامحها، وقد اخترت لهذه الغاية كتاب السيد محسن الأمين “خطط جبل عامل” (طبعة 1983 بعناية ولده حسن)، وفي شكل محدّد أكثر “أمثلة الطعام” المستلة من الفصل الخاصّ بالأمثال المعنون “جملة من الأمثال الدائرة على ألسنة أهل جبل عامل (الصفحات 196 – 229)، حيث نستشفّ منها ما يدلّ على بعض خصائص وسمات مجتمع جبل عامل الفلّاحيّ في ثلاثينيّات وأربعينيّات القرن العشرين.

وقد كتب عالم الاجتماع، البروفّسور، الدكتور خليل أحمد خليل، في نصّ بديع أنّ الناس ينتجون أنفسهم ثقافيًّا وهم ينتجون مواعينهم (آلاتهم وأدواتهم) وأرزاقهم، ويجدّدون نوعهم العقلانيّ الحيّ بالتناسل، ويستهلكون كلّ ما ينتجون، يأكلون بعضهم ثقافيًّا/ حضاريًّا، حضوريًّا بمثاقفات: الأكل بالفم، كالأكل بالعين، بالأذن، بالجلد، بالدماغ، بالجنس، الأكل واحد. نحن نعيش في حاوية. جسد يأكل، بالأكل الشامل وحده يحيا الإنسان. كأنّنا خلاء أو فراغ يحاول امتلاء، ولا يمتلئ – مصدر كلّ طاقة (مقالة: “ثقافة الحيّ”، 1996، ص 64) . ذلك الإنسان/ الحاوية المهجوس بلقمة العيش (انظر المساواة بين الأكل والحياة) يسعى في جهات الأرض الأربع وراءها سعي الدواب: “من له بلعوم عليه أن يقوم”.

هكذا كانت ساحات القرى قبل العولمة واجتياح التكنولوجيا.. جلسة قروية في ساحة حولا (الصورة كامل جابر التقطت عام 2002 )
المجتمع الفلّاحيّ العامليّ

إنّ أوّل ما يطالعنا في الأمثال الشعبيّة التي تتعلّق بالطعام في الخطط، إفصاحها عن الأنشطة التي يقوم بها الفلّاح “ذلك السلطان المخفيّ” للقيام بأوده وأود أسرته. وفي المقام الأوّل تربية المواشي (العنز والبقر والدجاج) واستغلالها على نحو كامل، ونجد ذلك في: أنظر العنز وأعرف حليبها، كم جدي طبخ بلبن أمّه، البقر لحمه داء ولبنه دواء وسمنه شفاء، شحّ الحليب وقلّت قيمة الراعي، الدجاجة عنز الفقير.

وما ينتج من المواشي نجده في الأمثلة الآتية: بيض ولبن عافية على البدن، عدّ البيض في المقلى ولا تعد شهور الحبلى. كذلك فإنّنا نجد أنّ الأمثال تردّد أنواع الزراعات الشائعة آنذاك من نوع زراعة العدس والفول: أزهر فولك يا طول جوعك، أزهر عدسك عالي قدرك، الفول كلب الماء. زراعة القمح: آخر الطحن كركعة (قرقعة) آخر الطبّ الكيّ.

زراعة الشعير والبصل: خبز شعير وميّة بير وبصل من الحواكير والعافية من أين تصير. زراعة الزيتون: زيتنا على بيصارنا (البيصار نوع من الطعام)، الزيت إذا احتاجه صاحبه يحرم على الجامع. زراعة الخرنوب: ذهب الفلّاح إلى المدينة فاشتهى الدبس والطحينة. مثل أكل الخرّوب ياكل قنطار خشب لأجل درهم حلو. زراعة التين: كلّه عند العرب تين.

وهناك الأنشطة المنتجة المصاحبة للنشاط الزراعيّ من مثل استخراج الزبدة: البدويّة كثرت زبدتها صارت تدهن عانتها. إنتاج اللبن: الذبان يعرف بيت اللبّان. إنتاج الخلّ: دود الخلّ منّه وفيه. إنتاج الطحين: الطحّان لا يغبر على كلاس. صنع الخبز: رغيف برغيف ولا يبيت جارك جوعان، الخوف على إبن الحطابة ولا على ابن الخبازة، مثل خبز الذرة مأكول مذموم. انتاج الزبيب والدبس: ضرب الحبيب زبيب، ذهب الفلاح إلى المدينة فاشتهى الدبس والطحينة. إنتاج صابون الغار: شحار وصابون غار.

درس القمح بواسطة “المورج” على البيادر في مرج حاروف بداية السبعينيات (أرشيف المرحوم مصطفى موسى نعمة)

الشائع من الطعام: كذلك تشير الأمثلة الشعبيّة إلى الشائع من الأطباق والأكلات عند الفلّاحين أيّام ذاك، وهي تعتمد في شكل أساسيّ على ما ينتجونه بأنفسهم، مثل الرز والسميد: العزّ لطبيخ الرز والبهدلة على السميد. القلي وخصوصًا البيض: مثل الحبّة في المقلى (يُضرب للمضطرب). المجدّرة: مجدّرة ولبن عافية على البدن. الطبيخ: طبيخ السايط ولحم النايط.

الذهنيّة: تنمّ بعض الأمثال الشعبيّة عن الروح التضامنيّة بين الفلّاحين، تلك التي تأبى أن يبيت الجار جوعانًا إذا لم يكن لديه ما يسدّ رمقه: رغيف برغيف ولا يبيت جارك جوعان، طعام الواحد يكفّي الاثنين وطعام الاثنين يكفّي الثلاثة.

والحال، فإنّ الفلاح صاحب تدبير، ويسعى كيّ يطابق: حساب الحقل حساب البيدر ويرى أنّه: على قدر المؤونة تأتي المعونة، كما تزرع تحصد. ويعتمد في معيشه اليوميّ على المرونة والدهاء والمداهنة بدل القوّة والعنف إذ: الكلب يهرب من العصا ولا يهرب من الرغيف، من دهنه قلّي له.

والفلّاح صاحب ذهنيّة عمليّة ترى إلى الواقع وتدبّره بعقلانيّة: الفرن أنشئ قبل المسجد، لا يُخرج الزيت إلّا المعصار، الذي نضعه في القدر يخرج من المغرفة، من فاته اللحم فعليه بالمرق، نصف البطن يغني عن ملئها، العدس بترابه وكل ّشيء بحسابه. ثمّ أنّ ذاكرة الفلاح قويّة، وهو سريع الاتّعاظ من التجربة: لاموه على تبريد اللبن فقال أبوه الحليب أحرقني، مثل أكل السفرجل كلّ عضّة بغصّة.

وما ديمومة الأمثال الشعبيّة واختراقها الأزمان على رغم أفول بيئتها الأصليّة المنتجة لها، إلّا تعبير عن تلك الحاجة الماسّة إليها قولًا حكيمًا، وملاذًا تطمئنّ النفس إليه في عالم مضطرب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى