الحرب تُفقد مغتربي الجنوب حماس الإعمار والعودة

من النادر أن نجد بلدة أو قرية في جنوب لبنان خالية من أبناء مغتربين، لا بل هناك بلدات مجرّد أن نسمع باسمها حتّى يحضر الاغتراب بعنوانه الكبير، لما للأخير من رمزيّة وتجذّر فيها على نحو بلدات: جويّا وقانا والبازوريّة وبرج رحّال وحاريص وغيرها كثير من البلدات والقرى، إذ من الصعب أن تجد منزلًا واحدًا في هذه البلدات تحديدًا يخلو من مغترب.
تعرّض هذا الاغتراب إلى نكستين متتاليتين في السنوات الخمس الأخيرة؛ الأولى في ما سبّبته الأزمة الاقتصاديّة من حجز لأموال المغتربين في المصارف، والثانية الحرب التي أصابت الاغتراب بالصميم من خلال الدمار الكبير الذي لحق بهم سواء من خلال تعرّض منازلهم ودورهم وقصورهم للتدمير أو ما أصاب استثماراتهم الكثيرة المنتشرة في معظم مناطق الجنوب من خراب.
وفي حين ينظر المغتربون بعين الأمل إلى الحكومة الجديدة في أن تعيد إليهم ما سلبته منهم المصارف من أموال، جاءت الحرب الإسرائيليّة لتُحوّل “جنى أعمارهم” إلى ركام، وتهدم بلحظات ما أسّس له هؤلاء على مدى سنوات وعقود.
هكذا بالأرقام تضرّر مغتربو يارون
تقع يارون عند الحدود مع فلسطين المحتلّة تمامًا، وهي من البلدات التي تتمتّع برمزيّة اغترابيّة مميّزة، فالداخل إلى البلدة قبل الحرب، كان سيلاحظ بشكل واضح أثر الاغتراب فيها لناحية انتشار القصور والدور المشيّدة بأموال طائلة في أرجائها.

يتمركز اغتراب أبناء يارون بشكل أساسيّ في أستراليا، تليها الأميركيتان الشمالية والجنوبيّة. في هذا الإطار يوضح رئيس بلديّة يارون علي تحفة، في حديث لـ “مناطق نت”، أنّ “عدد أهالي البلدة وفق سجلات القيود يبلغ قرابة 10 آلاف نسمة، في حين يقتصر القاطنين فيها على حوالي 500 شخص، لكن يرتفع هذا العدد صيفًا إلى حوالي 4500 شخص، نتيجة حضور المغتربين للاصطياف في مسقط رؤوسهم”.
تعرّضت البلدة إلى دمار كبير جرّاء العدوان الإسرائيليّ؛ ويلفت تحفة إلى أنّ “يارون تضمّ نحو 700 وحدة سكنيّة، تعرّضت منها 506 وحدات إلى دمار كُلّيّ، أيّ بنسبة 75 في المئة من مجمل الوحدات السكنيّة”، مضيفًا أنّ “نصف هذه الوحدات مُدمرة كلّيًّا، أيّ نحو 250 وحدة، تعود إلى مغتربين من البلدة كانوا شيّدوا منازلهم بهندسة عصريّة وفخمة”. أمّا الوحدات التي تضرّرت بشكل متوسّط أو بسيط فـقد “بلغ عددها نحو 200 وحدة، ومن بينها منازل لمغتربين” وفق تحفة.
ويزيد تحفة “من خلال تواصلنا مع المغتربين نلمس لديهم حافزًا للعودة إلى بلدتهم واستصلاح منازلهم قدر الإمكان، وذلك على الرغم من أنّ هؤلاء لديهم خيار العيش في بلاد تتوافر فيها تقديمات أعلى ورفاهيّة أفضل ومستلزمات الحياة بشكل أكبر، إلّا أنّهم يصرون على العودة”.
حنّا: الأرض هي أرضنا وأرض أجدادنا، ولن نتركها، بل سنحرص على العودة إليها، ولكنّ عودة المغتربين كي يبنوا منازلهم بالفخامة نفسها تعتمد على القدرات المادّيّة في ظلّ الظروف الراهنة
الاغتراب رئة يارون
يلفت تحفة إلى أنّ الاغتراب “انعكس بشكل أساسيّ على النهضة العمرانيّة والتي يمكن ملاحظتها من خلال المنازل الفخمة والفيلّات المنتشرة في البلدة بشكل كثيف”. إضافة إلى ذلك، فقد “أثّر الاغتراب في العمل البلديّ بشكل إيجابيّ جدًّا، إذ شكّل رئة نتنفس منه، سواء من خلال حملات الدعم أو التبرّعات أو غيرها من المساهمات التي يُقدّمها المغتربون، إذ لم نلجأ إليهم مرّة إلّا ووقفوا إلى جانبنا، سواء بأزمة كورونا أو الانهيار المصرفيّ أو أزمة المحروقات، حتّى أنّهم ساهموا في تجهيز مستوصف”، بحسب تحفة”.
ويشير إلى أنّ “قرابة 30 عائلة عادت بشكل كامل إلى البلدة وهذا العدد يزداد تباعًا، ويتوافد نحو 100 إلى 150 شخصًا يوميًّا لزيارة البلدة، وكذلك فإنّ نحو 65 منزلًا بادر أصحابها إلى رفع الردم عنها بجهد شخصيّ منهم”.
من جانبه، يوضح فادي حنّا، ابن بلدة يارون والذي سبق أن هاجر نحو 12 عامًا إلى كندا قبل أن يقرّر العودة إلى البلدة وبناء منزله فيها، أنّ منزله تعرّض إلى ضرر كبير جدًّا، فـ “الزجاج والأبواب تكسّرت، وهناك تشقّقات في السقف، وغيرها من الأضرار التي تحتاج إلى أموال كثيرة لإصلاحها”.
وعلى رغم ذلك يجزم حنّا أنّ “الأرض هي أرضنا وأرض أجدادنا، ولن نتركها، بل سنحرص على العودة إليها، ولكنّ عودة المغتربين كي يبنوا منازلهم بالفخامة نفسها تعتمد على القدرات المادّيّة في ظلّ الظروف الراهنة والصعوبات في تحويل الأموال، كذلك فإنّ معظم مغتربي البلدة فقدوا أموالهم في المصارف اللبنانيّة ممّا سينعكس سلبًا على إعادة بناء منازلهم”.
أزمة مُضاعفة
لا يختلف وضع مغتربي الخيام عن نظرائهم في يارون، تتشابه قصصهم، منها قصّة ابن البلدة المغترب إبراهيم عبدالله الذي يمّم وجهه في العام 2006، شطر الخليج، وهناك أمضى نحو 14 عامًا، ليقرّر في العام 2019 العودة إلى لبنان، بعدما تمكّن من تشييد منزله في البلدة وجمع مبلغًا يؤمّن له حياة كريمة.
في ذاك العام، خسر عبدالله، على غرار معظم اللبنانيّين، جنى عمره في المصارف إثر الانهيار الماليّ والأزمة الاقتصاديّة، لكنّ قصّة عبدالله لم تنتهِ عند ذاك الحدّ، فبعد أقلّ من خمس سنوات تعرّض منزله في الخيام إلى التدمير جرّاء الحرب الإسرائيليّة على لبنان. هذا الوضع دفع بعبدالله إلى اتّخاذ قرار الهجرة مجدّدًا.
يُشير عبدالله، في حديث لـ “مناطق نت”، إلى “أنّني حرصت على بناء منزل في مسقط رأسي كنوع من الحفاظ على الارتباط ببلدتي الأمّ وبأرضي، وتعزيز هذا الرابط لدى أبنائي”. ويلفت إلى أنّ “هذا الرابط سيدفعني مجدّدًا إلى تشييد منزلي في المستقبل، إلّا أنّ هذا الأمر غير متاح حاليًّا، فجنى عمري محجوز في المصارف والدولة لم تقم بحمايتي، لذا فإنّ أقصى ما يمكن أن أقوم به هو بناء منزلي من جديد، أمّا فكرة الاستثمار في لبنان فأستبعدها بشكل مطلق”.
الاغتراب ونموّ الجنوب
ملفتًا كان النموّ الذي تحقّق في الجنوب بدءًا من فترة ما بعد التحرير في العام 2000 وصولًا إلى حرب الإسناد العام 2023، ويمكن القول إنّ الجنوب كان المنطقة الطرفيّة الوحيدة التي تمكّنت من تحقيق ذلك النموّ، إذ تشير الأرقام إلى أنّ محافظة النبطية وحدها استحوذت على نسبة 40 في المئة من رخص البناء في لبنان، بالإضافة إلى ما بيّنته شركات الإسمنت من أنّ معظم إنتاجها كان يتمّ تصريفه في الجنوب.
حمود: الجوّ العام في الجنوب، وخصوصًا في قرى الحافّة الأماميّة، ولا سيّما لدى المقتدرين والمغتربين، أنّه ليس لديهم الحماس نفسه والحافز لإعادة تشييد المنازل التي سبق أن كلّفتهم مبالغ طائلة
والنموّ هذا تحقّق بفعل عوامل ثلاثة، أوّلها التوظيفات في مؤسّسات وإدارات الدولة وأجهزتها الأمنيّة والعسكريّة والتي قامت بها حركة أمل وفق مبدأ التحاصص، ثانيها حزب الله وقدراته الماليّة الهائلة التي نتج عنها دورة اقتصاديّة كاملة، سواء على صعيد رواتب عناصره أو على مستوى التوظيفات في عديد مؤسّساته المتنوّعة، إضافة إلى استثماراته في بنيته التحتيّة من قواعد ومنشآت.
أمّا العامل الثالث فهو الاغتراب الذي شكّل من خلال تحويلاته واستثماراته، مُحرّكًا أساسيًّا لعجلة الاقتصاد، لا سيّما في فصل الصيف، إذ يحرص المغتربون على زيارة بلداتهم، مع كلّ ما يرافق ذلك من ضخّ للأموال.
لكنّ رياح الأحداث من أزمة اقتصاديّة وحرب أخيرة جرت عكس ما كان يشتهي المغتربون، وهذا جعل جزءًا كبيرًا منهم يشعر بفقدان ما جمعه على مدى عشرات السنوات في الغربة. إلّا أنّ ذلك لم يُبدّل من ارتباط المغترب الجنوبيّ بمنطقته، ولذلك أسباب عدّة منها طبيعة الاغتراب الجنوبيّ الذي يتموضع قسم كبير منه في القارّة الأفريقيّة وهذا ما ساهم في الإبقاء على هذا الارتباط.
فقدان الحافز لدى المغتربين
يشرح نائب رئيس اتّحاد بلديّات قضاء صور، رئيس بلديّة برج رحّال، حسن حمود، في حديث لـ “مناطق نت”، أنّ “الاغتراب لا يستثني أيّ بلدة أو قرية في قضاء صور والبالغ عددها 72 بلدة، وهو نوعان، الأوّل قديم جدًا وكان نتيجة الظروف المادّيّة الصعبة وإهمال الدولة، ما دفع كثيرين للهجرة إلى أفريقيا والأرجنتين والبرازيل، والثاني هو هجرة حديثة تعود إلى نحو 25 عامًا وتركّزت في أفريقيا بحيث بات كلّ مغترب يقوم بتأمين ظروف عمل لأقاربه وأصدقائه.
ويُشير حمود إلى أنّ “الجوّ العام في الجنوب، وخصوصًا في قرى الحافّة الأماميّة، ولا سيّما لدى المقتدرين والمغتربين من أهلها، أنّه ليس لديهم الحماس نفسه والحافز لإعادة تشييد المنازل التي سبق أن كلّفتهم مبالغ طائلة في ظلّ الظروف الحاليّة”.
ويلفت حمود إلى أنّ “ثمة اعتقادًا لدى المغتربين في أفريقيا بأنّ هذا الاغتراب غير دائم، لذا نلاحظ أنّهم عمدوا إلى تشييد المنازل في بلداتهم الجنوبيّة، وهذه الحركة العمرانيّة كان لها انعكاس تنموي كبير في الجنوب، فعند زيارة قرى قضاء صور يمكن ملاحظة هذا التطوّر العمرانيّ على رغم التحدّيات الأمنيّة الإسرائيليّة التي شهدها الجنوب منذ عشرات السنين مع أنّ زيارات المغتربين إلى هذه المنازل، ربّما لا تزيد عن شهر واحد خلال العام، وفي بعض الأحيان خلال عامين”.
فقدت تجارتي
يتنقّل المغترب محمد سويدان في أكثر من دولة أفريقيّة، ويعمل في مجال الملبوسات الأوروبّيّة المستعملة (البالة) منذ أكثر من 15 عامًا. قرّر منذ العام 2021 استيراد هذا النوع من البضائع إلى لبنان، من أجل وضع موطئ قدم له في بلده الأمّ. في الحرب الأخيرة تعرّض مستودعه لدمار شبه كُلّيّ بنتيجة إحدى الغارات الإسرائيلية في صور.
يُشير سويدان، في حديث لـ “مناطق نت”، إلى أنّ “عائلتي تعمل في هذا المجال منذ سنوات طويلة في أفريقيا، ولكن بعد الازمة الاقتصاديّة شعرت أنّ هناك سوقًا قويّة لهذا النوع من الأعمال، فأقدمت على هذه الخطوة”. لا يُخفي سويدان أنّ جانبًا من قراره هذا مُتعلّق بأنّ ذلك “سيسمح لي بالتواجد أكثر في لبنان، وعلى هذا الأساس استقرّت زوجتي وأولادي في الجنوب، ولكنّ الحرب الإسرائيلية دفعتني إلى إعادة التفكير بكلّ هذه القرارات، فبعد أن خسرت وديعتي في المصرف، فقدت مجدّدًا جزءًا كبيرًا من تجارتي وما زالت أدرس إمكانية إعادة الاستيراد من عدمها”.
لا يُحبّذ سويدان إبقاء عائلته في لبنان في ظلّ الظروف الحاليّة “إلّا أنّني أنتظر انتهاء العام الدراسيّ وتبيان مسار الأحداث لأتّخذ قراري، ولكن بجميع الأحوال، فإنّ خسارتي كبيرة جدًّا، سواء على صعيد ما فقدته في المصارف أو على صعيد ما فقدته خلال الحرب”.
تحويلات المغتربين إلى تراجع
وعلى أثر الأزمة الاقتصاديّة العام 2019 وما نتج عنها من خسائر المودعين لأموالهم ومدخراتهم، ومنهم المغتربون، تراجعت تحويلات المغتربين اللبنانيّين في العام 2024 إلى 5.8 مليار دولار، وهو أدنى مستوى منذ العام 2007، وفقًا لتقديرات البنك الدولي. فيما بلغ حجم هذه التحويلات إلى لبنان بـ 6 مليارات دولار في العام 2023 مقارنة بـ 6.4 مليارات دولار في العام 2022. وشكّلت هذه التحويلات في خلال السنوات الأخيرة نسبة كبيرة من الناتج المحلّيّ، ففي العام 2023 بلغت نسبتها نحو 33 في المئة وفي العام 2022 نحو 31 في المئة، فيما عادت وانخفضت هذه النسبة في العام 2024 إلى 25.5 في المئة.