عن الحرب التي استوطنت أجسادنا

قبل الثقب الأسود ليس كما بعده

لم يكن صباح الـ 23 من أيلول (سبتمبر) 2024 كغيره من الأيّام. في ذلك النهار وبينما كنت أسقي نباتاتي الصغيرة المنتشرة على شرفة غرفتي، وكان يترافق ذلك مع أنغام أغنية فيروز “كنّا نتلاقى”، فجأة انقلب العالم رأسًا على عقب، اهتزّت الأرض تحتنا، ومعها الهواتف تنعق كأجراس إنذار، حجبت أسراب الطائرات الحربيّة أشعّة الشمس. رسائل التهديد الإسرائيليّة تتدفّق، لكن أين المفرّ؟ الطرق محاصرة، والسماء ممزّقة بحراب من حديد.

لا أدري وخلال دقائق كيف لجأنا إلى منزل عمّتي، ذلك “الملجأ الوهميّ”، وبينما كانت الغارات تُعلن بدء فصلٍ جديد من الرعب، كنّا ننتظر الموت وكأنّه ضيفٌ مفاجئ، كلّ ما أذكره أنّ الأرض كانت ترتجف تحت أقدامنا، والسماء تمطر نارًا.

في ذلك اليوم الذي بدا وكأنّه ثقب أسود يبتلع كلّ شيء، لم نكن نعرف إن كنّا سنَنجو أم لا. تكوّمنا في أرض الممرّ الذي يتوسّط المنزل ظنًّا منًّا أنّه ربّما يوفّر لنا شيئًا من الأمان، لكن على رغم ذلك جلسنا ننظر إلى بعضنا البعض كمن ينتظر الموت.

عندما تحولت السماء إلى جحيم

لن أنسى كيف كانت الصواريخ تسقط بعبثيّة في كلّ اتّجاه، ومعها تهوي النجوم المعلّقة في السماء. الناس تهرب وهواتفنا تكاد لا تتوقّف عن الإهتزاز. لم يعد دماغي قادرًا على استيعاب أيّ شيء، دويّ الانفجارات الذي لا يتوقّف، جعل الزمن يتوقّف للحظات. دويّ انفجار مهول هزّ الأرض، ولهيبٌ علق لساعات بين الأرض والسماء.

سماء الحرب الملوّنة بالدخان

لاحقًا، عندما هدأت السماء قليلًا، ألقيت بجسدي على الأرض لألتقط أنفاسي. أوّل ما فعلته ألقيتُ نظرةً على قائمة الأغاني. اخترت أغنيةً لفيروز كي أهرب من خلالها من ذلك الممرّ الذي ضاق بنا، ولفتت انتباهي أغنية “إيه.. في أمل”! أخذتني الأغنية إلى مكانٍ آخر، هو ما أوحت به كلماتها.

في مواجهة حربٍ مروّعة، وظلم وخوف وموت ووحشيّة قررتُ أن أتمسّك بقليل من الأمل على رغم ما كان ينتظرنا من عبثيّة.

66 يومًا… والجسد يكتب مذكّراته

لم تكن الحرب مجرّد دمارٍ خارجيّ. بل كانت عبارة عن 66 يومًا من الانتظار القاتل، غارة تتبعها غارة، واتّصالاتٌ يائسة بأحبابٍ تشتّتوا في كلّ حدب وصوب، ومشاهدُ موتٍ تبثّها الشاشات كفيلم رعب هوليووديّ. ثمّ جاءت لحظة العودة إلى “الضيعة” وذاك قسم آخر. منازلُ مهشّمة وذكرياتٌ معلّقة في الهواء، وحزنٌ غامض لا يملك وصفًا. لم يقتصر الدمار على البيوت، بل اخترق قلوبنا، حاملًا معه سؤالًا وجوديًّا: “كيف نُصلح ما انكسر فينا، ونحن لا نعرف حتّى ماذا نُسمّيه؟”.

شيء ما قد بُتر! أجسادنا واقفة، لكنّ إحساس البتر متجذّر فيها لا يمكن التقاطه. الحزن الذي سبّبته الحرب ألمٌ مُكبوت، لكن نحن تعلّمنا الحديث عن كلّ شيء إلّا عن صدماتنا النفسيّة،  في بلد لا يمنحنا سوى جنسيّته وكثير من الصدمات والأزمات، إذ غالبًا ما تكون ردّة الفعل من الغير تجاه هذا الألم “لقد مررنا جميعًا بهذا، أنتم لستم استثناءً… تحمّلوا الأمر”. أو “ما مررنا به نحن، لم يمرّ على أيّ جيل من قبل”.. والمؤسف أنّ الغالبيّة العظمى في مجتمعنا لا تعترف ولا تفقه بوجود شيء اسمه الصدمات النفسيّة.

الحرب لم تترك جسد المجتمع مريضًا وحسب، بل خلقت عالمًا موازيًا حيث تنتقل الأمراض النفسيّة كالنار في الهشيم

الجسد يجسّد الصدمة

مرّت أربعة أشهر على وقف إطلاق النار الهشّ، لكنّ الحرب لم تغادر أجسادنا. رجفة لا إراديّة عند سماع أيّ دويّ، ونوباتُ تعرّقٍ ليليّ، وغدّةٌ درقيّة هاجمها جهاز المناعة. بعد شهور من الفحوص، جاء التشخيص: جهازي المناعيّ يلتهمني كما التهمت الحرب سلامنا. تذكّرت كتاب “الجسد يذكر كلّ شيء” لفان دير كولك؛ نعم، جسدي يكتب مذكّراته بلغة الأمراض، فما عادت الكلمات تكفي.

الدولة تصنع أشباحًا.. ونحن؟

تبدّل المشهد، بتنا نُحصي جرعات الأدوية بدلًا من القذائف، أتساءل: “من يعوّض لنا صحّتنا النفسيّة؟”؛ الدولة تتعامل معنا كأرقام، غافلةً عن معاناتنا اليوميّة، تركونا لمصيرنا كالعادة.

تحوّل الحديث عن الحرب كأنّه “تابو”، بينما أعمال إزالة الدمار والترميم مستمرة. واقع ذكّرني باقتباس من رواية “ولم يقل كلمة” للألمانيّ هاينريش بّول والتي تتحدّث عن ضحايا الحرب في ألمانيا بعد الحرب العالميّة: “كانوا يبنون بيوتًا جديدة فوق أنقاض البيوت القديمة… لكنّ أحدًا لم يبنِ شيئًا فوق أنقاض الأرواح” تمامًا كما حصل معنا فلم نُمنح حتّى رفاهيّة الأنقاض- فالحرب لم تنتهِ، بل تحوّلت إلى كابوس يوميّ نعيشه بأعين مفتوحة، تمامًا مثلما يقول كولن ولسون: “المأساة أن نعيش في عالمٍ يُغمض عينيه عن جراحنا”.

الحرب والصدمة

الصدمة النفسيّة لا تُغيّر طريقة تفكيرنا وحسب، بل تُفكِّك آليّة التفكير ذاتها. في الحالة الطبيعيّة، تقوم “قشرة الفصّ الجبهيّ الظهريّة” في الدماغ بمهمّة حيويّة: ترتيب الزمن في دماغنا، وربط الحاضر بالماضي لنسيجٍ متماسكٍ وكيفيّة تأثيره على المستقبل. لكن في حال الصدمة، تتعطّل هذه الساعة الداخليّة؛ فالماضي يخترق الحاضر كشبحٍ لا يُطاق، والمستقبل يغدو طيفًا بلا معالم. هكذا نُحاصَر في زمنٍ مشوَّشٍ، مسرحٌ كواليسه الأرق والهلع، بينما نصف المجتمع يُنكر ألمه خوفًا من وصمة “الإنهزام”.

الحرب لم تترك جسد المجتمع مريضًا وحسب، بل خلقت عالمًا موازيًا حيث تنتقل الأمراض النفسيّة كالنار في الهشيم. وفي هذا المشهد، يحذّرنا فيكتور فرانكل من أنّ “اللامعنى”– ذلك الوباء الخفيّ– يلتهم ما تبقّى من إنسانيّتنا. فحين تنهار القدرة على ترتيب الزمن، تنهار معها إمكانيّة صنع المعنى نفسه.

الكتابة… محكمةٌ بديلة

تردّدت كثيرًا في الكتابة عن هذه التجربة، ففي مجتمعات تتعامل مع الصدمات النفسيّة كـ “ضعف”، يُصبح البوح فعل مقاومة. ولكن لم يبقَ لنا سوى خيار الكتابة، لأنّها تُحوّل المعاناة الفرديّة إلى شهادة جَمْعيّة تُواجه إنكار الدولة. عندما يُهمِل من تسبّب في الحرب جراحنا النفسيّة، تصبح الكتابة محكمةً بديلة، تُعطّل آلة النسيان التي تديرها هذه المنظومة التي تتحكّم بمصير حياتنا.

الحرب تدفعنا إلى العزلة، لكنّ التعافي الحقيقيّ يبدأ حين نُدرك أنّ جروحنا ليست منبوذة. إنّ إنشاء مجموعات الدعم في مناطقنا ليس مجرد رفاهيّة، بل هو إعلانٌ عن أنّنا نرفض أن نكون أرقامًا في ملفّات النسيان

لا شكّ في أنّ الحرب تُشعر الناس بالاغتراب عن أنفسهم وعمّن حولهم. بينما الكتابة تُعيد لهم الحوار الداخليّ، وتفتح قنوات تعاطف مع ناجين آخرين وتعيد ترتيب الزمن داخل الدماغ. عندما نكتب، نخلق لغةً مشتركةً تُسقط الوصمات، وتُجبر الآخرين على رؤية الجرح.

الحرب لم تنتهِ… إنّها تستوطننا

هذا المقال ليس مجرّد ندبةً، بل هو إفادةٌ ضدَّ من سرقوا منّا حتّى الحقّ في أن نكون أحياءً. لأنّ الحرب لم تكن فقط 66 يومًا… بل هي كلّ يومٍ يُذكّرنا فيه جسدنا أنّنا لم نعد ملكًا لأنفسنا. ولأنّ الشفاء لا يحدث في الفراغ، إذ إنّ الدماغ المصاب بالصدمة يحتاج إلى جماعة تُعيد له الإحساس بالأمان، وتُذكّره بأنّه لم يعد وحيدًا في وسط هذه العبثيّة.

ليست مجموعات الدعم مجرّد جلساتٍ للتحدّث، بل هي فضاءاتٌ نعيد فيها اختراع لغةٍ مشتركة، لغةٍ ترفض أن تكون الجراح “تابوًا”. هنا، بين أناسٍ التقطتهم العاصفة نفسها، نكتشف أنّ ذكرياتنا المُفكّكة يمكن أن تُحاك من جديد كنسيج واحد، حيث تؤكّد جوديث هيرمان، عالمة النفس المتخصّصة في علاج الناجين من العنف، في كتابها “الصدمة والشفاء”: “الاعتراف الجماعيّ بالألم هو أوّل خطوة لاستعادة الكرامة… ففي المجموعات العلاجيّة، تتحوّل مشاعر الذنب والعار إلى قوّة ذاتيّة”.

الحرب تدفعنا إلى العزلة، لكنّ التعافي الحقيقيّ يبدأ حين نُدرك أنّ جروحنا ليست منبوذة. إنّ إنشاء مجموعات الدعم في مناطقنا ليس مجرد رفاهيّة، بل هو إعلانٌ عن أنّنا نرفض أن نكون أرقامًا في ملفّات النسيان. وكما يوضح الدكتور فرانك أوشبيرغ، الخبير في علاج الصدمات الجماعيّة: “الضحايا يحتاجون إلى رواية قصّتهم في مكانٍ آمن… لأنّ الصمت يقتل، والكلام المشترك يُنقذ”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى