شوقي الدويهي يسبر غور مقاهي بيروت الشعبيّة 1950-1990

يتجاوز شوقي الدويهي في “مقاهي بيروت الشعبيّة” (منشورات دار النهار 2023) السرد الكتابيّ، ليكون القارىء في بعض متون الكتاب، إزاء مشاهد بصريّة من خلال هذا السرد، بحيث يتراءى لمتلقّي هذا الكتاب، أنّه يشاهد بأمّ العين هذه الساحة من ساحات مدينة بيروت أو تلك، هذا المقهى أو ذاك، فضلًا عن أولئك “القبضايات” وجوقة المقامرين وتلك البغايا التي تتلصّص على زبون من هنا، أو آخر من هناك، بالإضافة إلى الاشتباكات السياسيّة التي تداخل جلسات تلك المقاهي في بيروت 1950- 1990.

ينطلق أستاذ مادّة الأنتروبّولوجيا في معهد العلوم الاجتماعيّة بالجامعة اللبنانيّة، من الوقوف مليًّا عند ساحات وسط بيروت، التي يعتبرها بمثابة المداخل أو العتبات إلى سائر أرجاء المدينة. ساحة البرج، ساحة رياض الصلح وساحة الدبّاس، مستقصيًا عبر هذا الوقوف تلك العلاقة العضويّة، بين المقهى بعامّة وكلّ من تلك الساحات، مبيّنًا في هذا الصدد، الفروق بين هذه المقاهي، وذلك عطفًا على خلفيّات روذادها الاجتماعيّة والثقافيّة، وبشكل خاص السياسيّة، ذلك أنّ جملة من هذه المقاهي شكّلتْ واحات للتداول السياسيّ بين الروّاد من جهة، وهذا السياسيّ أو ذاك من جهة أخرى، ومن أبرز المقاهي إزاء هذه الناحية بالذات مقهى “الفاروق” ومقهى “الجمهوريّة”.

ناس المقاهي

يقسّم الدويهي ناس مقاهي هذه الساحات الثلاث إلى صنفين: الروّاد الدائمين من جهة والروّاد العابرين من جهة ثانية. وإذا كان المقهى بالنسبة إلى الفئة الأولى هو بمثابة امتداد للمنزل، ولتشكّل الهويّات الثابتة، فإنّه- أي المقهى- هو لدى أولئك العابرين مجرّد محطّة أو تجربة ساقتها الصدفة أو الترحال أو مجرّد المرور الموقّت.

كتاب “مقاهي بيروت الشعبية 1950-1990” للكاتب شوقي الدويهي

في تفصيله “للسيرة المقهويّة” كما جاء في الكتاب، يرسم الدويهي مشهد بيروت من خلال هذه المقاهي، وهي صورة لا تلبّي على الإطلاق تلك التصوّرات المحض ورديّة عن بيروت تلك الفترة، حيث ذلك التشابك المصلحيّ بين القبضايات ورجال الشرطة، وحيث الخوّات التي تُفرض على أصحاب تلك المقاهي من قبل “الشلمصطيّة”، وحيث تلك المصائد المهلكة “للكشتبنجيّة”، راسمًا في ذلك صورة مفصّلة عن “عالم القبضنة”، وما يداخله من ممارسات لا أخلاقيّة ثمّ ارتباط هذا العالم بالدوائر الزعاماتيّة المناطقيّة، أو الطائفيّة المحلّيّة منها، أو تلك الممتدّة إلى خراج مدينة بيروت.

المقاهي الشعبيّة

يقسّم الدويهي خريطة المقاهي الشعبيّة في ذلك الزمن إلى ثلاثة أقسام، إذ فضلًا عن مقاهي تلك الساحات الرئيسة ثمّة نمط آخر من المقاهي يحتلّ الحيّز الجغرافيّ المتاخم لكلّ من هذه الساحات، أيّ وبعبارات الدويهي تلك التي تقع “في جوف المدينة أو بطنها”…

“شكّلتِ الأمكنة التي كانت تقع خلف ساحة البرج ورياض الصلح والدبّاس ما أصطلح على تسميته من قبل الباحثين في مجال المدن، جوف المدينة أو بكلام آخر بطنها بكلّ ما تحوي هذه الكلمة من معانٍ. أيّ المكان الذي يطعم المدينة”. وهي المقاهي التي تتوزّع جملة الأسواق المحيطة بالوسط، كسوق النوريّة وسوق سرسق وسوق السمك وسوق اللحّامين (الجزّارين) وإلى آخره من أسواق تلبّي حاجات البطون والمعاملات التجاريّة أو الرسميّة، فضلًا عن حاجات أخرى كتلك التي يوفّرها سوق البغايا والمعروف بـ “السوق العموميّ”.

أمّا أكثر ما يميّز مقاهي بطن المدينة، ذلك الجزء الرئيس في تشكيلها والذي يدعى “العلّيّة” وهو الحيّز غير المرئيّ من المقهى، حيث تعاطي الحشيش والاتجار بها وحيث اللقاءات بالغانيات وصولًا إلى– كما جاء في الكتاب– عالم اللواط والتحرّش بالصبيان وما شاكل من مكتومات المدن بعامّة.

أمّا أشهر هذه المقاهي، فمقهى البلطجي ومقهى الهنداوي ومقهى الفيّومي ومقهى منذر وغيرها. وفي تناوله لهذا النمط من المقاهي يشير الدويهي إلى الدور البارز لميليشيات الأحزاب اللبنانيّة في تعزيزها إبّان الحرب المشتعلة، بل ترى أنّ بعض هذه المقاهي كانت بمثابة تجمّعات لعناصر هذا الحزب أو ذاك، وبعضها لعب دورًا بارزًا في تصفية الحسابات بين الجماعات المتقاتلة.

مقاهي الأحياء

مقاهي الأحياء، هو النوع الثالث من المقاهي التي يعمل الدويهي على تشريحها. إنّها مقاه محض محلّيّة من جهة ارتباطها بهذا الحيّ البيروتيّ أو ذاك، خارج دائرة وسط المدينة، وخارج دائرة الأسواق الحافّة بهذا الوسط.

وإذا كانت الطبيعة التي تميّز مقاهي الوسط وما يجاوره من أسواق ذات بعد “غُفلي” كما يورد الدويهي فإنّ مقاهي الأحياء تنزع صفة الغفليّة عن بكرة أبيها، ذلك أنّ كلّ رواّد هذه المقاهي هم من أبناء الحيّ، أو من أبناء الجوار الأقرب، بالتالي فإنّ هذا النمط من المقاهي كان يلعب دورًا بارزًا في تعزيز الهويّات المحلّيّة لهذه الأحياء، بل ترى هذه المقاهي، وبعبارات الدويهي، هي بمثابة صندوق بريد شفويّ لسائر أخبار الحيّ وعتمات ناسه، فضلًا عن كونها منازل عموميّة لذاكرة الحيّ وهو ما يسوق السلوكات داخل هذه المقاهي لأن تكون محلّ انضباط، إلّا من بعض الاستثناءات التي غالبًا ما تكون محلّ استهجان ورفض من قبل الروّاد.

ومن أبرز هذه المقاهي، مقهى السلام في المصيطبة ومقهى النصر ومقهى دوغان في البسطة ومقهى الشامي في الجمّيزة ومقهى قليلات في البربير وكثير غيرها.

أكثر ما يميّز مقاهي بطن المدينة، ذلك الجزء الرئيس في تشكيلها والذي يدعى “العلّيّة” وهو الحيّز غير المرئيّ من المقهى، حيث تعاطي الحشيش والاتجار بها وحيث اللقاءات بالغانيات

إنّها بيروت المقاهي الشعبيّة التي عمل الدويهي على تقصّي مسكوتاتها وما تحفل به من دواخل سرّيّة وعلنيّة وما يؤسّس ارتباطها في حيّز هويّاتي واحد وأيضًا ما يؤسّس جملة تبايناتها.

مقاهي بيروت 1950– 1990

في الكتاب الذي وضعه عن تاريخ المقاهي في باريس والقاهرة يقول المؤرّخ الفرنسيّ جيرار جورج لومير: “بقيتْ الألغاز تحيط بالأصول التاريخيّة للمقهى، وقد فعلتْ كثرة الألغاز فعلها فولّدتْ الأساطير وقد اغتنت هذه الأساطير مع جريان العصور وتكرارها حتّى تحوّلت إلى حقائق…”.

لا مكان للأساطير وللألغاز في تناول شوقي الدويهي لمقاهي بيروت، في الحقبة الممتدّة من العام 1950 إلى العام 1990 وتفكيك تاريخها. بيد أنّ ثمّة لغزًا ما انفكّ يتطاول برأسه، يتعلّق بكيفيّة تشكّل المجتمع اللبنانيّ وصيّر كذلك إلى مشهدة هذا المجتمع انطلاقًا من مقاهي العاصمة. فلبنان ناس تلك المقاهي كما بثّها الدويهي في كتابه الشيّق هو لبنان الـ “دبّر راسك” ولبنان “مشّي حالك من قريبو” ولبنان “خلّيها مستورة” فضلًا عن لبنان ثلاثيّة “القهوجي والقبضاي والشرطيّ” وهي ثلاثيّة جهد الدويهي في تفكيك مفاصلها وتبيان أصولها ومآلاتها.

أمّا عن لبنان الأدب والشعر والفنون كما صيّر إلى صياغته عبر تاريخ المقاهي و”تفنغاياتها” (العبارة منّي ولم ترد في الكتاب) فقد عرضه الدويهي بصفحات قلائل متوقّفًا بشكل خاص عند عدد من المقاهي التي عزّزت الدفع الثقافيّ باعتبارها تحوّلت إلى تجمّعات لأهل القلم والريشة وغيرها، مثل مقهى الروكسي ومقهى حاوي ومقهى لاروندا وعلى رأس كلّ هذه، مقهى الـ “هورس شو” حيث كان مُنَح الدبغي صاحب هذا المقهى “يطلب من شلّة مجلّة شعر… اصطحاب فتيات معهم كي لا يأخذ المقهى طابعًا رجّاليًّا ولتشجيعهم، كان يقول لهم بأن ما تستهلكه الفتيات هو على حساب المحل…”. وهو بصراحة ما دغدغ خيالي وحثّني من حيث لا أدري على قراءة بعض نتاج الـ “هورس شو” الشعريّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى