“الميغاسنتر” فرصة إصلاحية تُغيّب عن الانتخابات البلديّة

في الوقت الذي تفتتح فيه محافظة جبل لبنان الأحد المقبل، أولى مراحل الاستحقاق الانتخابيّ البلديّ والاختياريّ، بعد مرور تسع سنوات على إجراء آخر انتخابات بلديّة، تبرز إلى الواجهة من جديد، المخاوف التي تترافق مع كلّ استحقاق انتخابيّ، من التزوير إلى شراء الأصوات، وصولًا إلى صعوبة انتقال المواطنين، وتكبّدهم كلفًا عالية وعدم القدرة على الاقتراع بحرّيّة في ظلّ سطوة القوى الحزبيّة على مراكز الاقتراع.
مع انطلاقة العهد والحكومة اللذين تعهّدا بإجراء إصلاحات على مختلف الصُعد، كان بالإمكان تفادي كلّ هذه المخاوف وتبديدها، وذلك من خلال تطبيق “الميغاسنتر” في هذه الانتخابات، وهو ما يُعتبر أحد أهمّ الإصلاحات المطلوبة.
يقضي الميغاسنتر بإنشاء مراكز في جميع المناطق تضمّ صناديق عن جميع الدوائر الانتخابيّة، ممّا يُتيح للناخبين الاقتراع من مكان سكناهم أو أيّ مكان آخر، بمعزل عن أماكن قيودهم. وهذا التدبير من شأنه أن يزيد من نسب الاقتراع، فضلًا عن أنّه سيؤدّي إلى استحداث مراكز اقتراع جديدة، بإمكان الدولة اختيارها وتجهيزها لتكون مؤهّلة لاستقبال المعوّقين حركيًّا، بخلاف مراكز الاقتراع التقليديّة. كذلك فإنّ الميغاسنتر يُساهم بالحدّ من الضغط الحزبيّ والعائليّ على المقترعين، وهذا ما سيُصعّب التأثير على خياراتهم ويحدّ من قدرة الأحزاب على تعقّب الأصوات.
معارضة في غير مكانها
غالبًا ما يُجابه هذا المطلب الإصلاحيّ بمعارضة، بحجّة أنّ ذلك لا يمكن أن يُطبّق في ظلّ غياب البطاقة الالكترونيّة الممغنطة التي يفترض أن تحتوي على بيانات الناخب الموصولة إلى قاعدة البيانات الأساسيّة التي تضمّ الناخبين من مختلف الدوائر. غير أنّ تلك الحجّة يمكن تفاديها من خلال تجارب، لا سيّما اقتراع غير المقيمين، حيث يمكن اتّباع الآليّة التي اقترع من خلالها المغتربون في انتخابات العام 2022، وتطبيقها على الناخبين الراغبين بالاقتراع في أماكن مختلفة عن أماكن قيودهم، وذلك من خلال التسجيل المسبق على منصّة الكترونيّة مخصّصة لهذا الغرض.
في ورقة بحثية من إعداد المنظّمة الدوليّة للتقرير عن الديمقراطيّة (DRI) تحت عنوان “خطوة نحو التغيير: مراكز الاقتراع الكبرى الميغاسنتر قد رسم ملامح مستقبل جديد للانتخابات في لبنان”، يتبيّن أنّ اعتماد الميغاسنتر يؤدّي إلى زيادة نسبة اقتراع الناخبين بشكل ملحوظ ويعزّز تنوّع التصويت، وبالتالي يساهم في تعزيز شفافيّة العمليّة الانتخابيّة وعدالتها.
أسباب تجاهل الميغاسنتر
يشرح الأستاذ الجامعيّ في القانون والناشط السياسيّ الدكتور علي مراد، في حديث لـ “مناطق نت”، أنّ “الميغاسنتر مطلب إصلاحيّ قديم في لبنان، ويُطرح لأنّ مكان الانتخاب مرتبط بمكان سجلّ النفوس وليس في مكان السكن، وهناك نزوح تاريخيّ كبير جعل معظم المواطنين يقطنون في المدن الكبرى لا سيما العاصمة بيروت”.
ويلفت إلى أنّ “فكرة انتقال الناخبين يوم الانتخابات يؤدّي إلى كلفة ماليّة كبيرة يتمّ استخدامها كشكل من أشكال الرشوة المقنّعة، فهناك شريحة كبيرة من المواطنين لا يملكون إمكانيّات ماليّة، تسمح لهم بالانتقال ممّا يجعلهم عرضة للضغط الانتخابيّ”، مضيفًا “ربّما تُمارس قوى الأمر الواقع السياسيّة ضغطًا معنويًّا على المواطنين، في حين أنّ الميغاسنتر يضع المواطنين بأماكن خارج منطق نفوذ هذه القوى ممّا يسمح لهم بالتصويت بشكل أكثر حرّيّة”.
يوضح الدكتور مراد أنّ “تطبيق الميغاسنتر في الانتخابات النيابيّة أسهل منه في البلديّة والاختياريّة، بسبب توزّع اعتماد الدوائر وليس القرى والبلدات، لكن حتّى في ذلك لا يتمّ تنفيذه لأنّ القوى السياسيّة تمنع هذا الأمر، من أجل ممارسة الضغط المعنويّ، والدعاية الانتخابيّة والإطباق على الناخبين، وكذلك هو نوع من الرشوة الانتخابيّة المقنّعة، فقانون الانتخابات في لبنان، يعتبر أنّ دفع كلفة نقل الناخبين هي مصروف انتخابيّ قانونيّ”.
المسؤوليّة في استبعاد الميغاسنتر
من جانبه، يؤكّد الباحث في “الدولية للمعلومات”، محمّد شمس الدين، في حديث لـ “مناطق نت”، أنّ “مجلس النوّاب يتحمّل مسؤوليّذة عدم تطبيق الميغاسنتر، ففي كلّ انتخابات يصدر قانون عن مجلس النوّاب، يُعلّق العمل بالبطاقة الممغنطة، التي تُمهّد الطريق إلى تطبيق الميغاسنتر”. ويُشير إلى أنّ “الحكومات المتعاقبة تتحمّل كذلك المسؤوليّة، لأنّها لم تُنجز هذه البطاقة بحجّة أنّ كلفتها عالية، ومن الأفضل أنّ يتمّ إنجاز بطاقة هويّة الكترونيّة، يمكن استخدامها للاقتراع كبديل عن البطاقة الممغنطة، ولكن منذ صدور القانون العام 2018 لم يتمّ اتّخاذ أيّ خطوات عمليّة في هذا المجال”.
احتياجات لوجستيّة كبيرة
ويلفت شمس الدين إلى أنّ “الميغاسنتر يُساعد المواطنين على التحرّر أكثر، والمشاركة في شكل أكبر بالعمليّة الانتخابيّة، إذ إنّ تطبيقه يوفّر كلف النقل على المواطنين”، مشيرًا إلى أنّه “يُمكن تطبيق الميغاسنتر في الانتخابات النيابيّة وكذلك الأمر في الانتخابات البلديّة، مع فارق أنّ تطبيقه في الانتخابات البلديّة سيحتاج إلى عمل لوجستيّ أكبر من الانتخابات النيابية المحصورة في 15 دائرة، وبالتالي تحتاج فقط إلى 15 صندوقًا، أمّا في الانتخابات البلديّة فإنّ الأمور أكثر تعقيدًا، فمثلًا في حال أردنا تطبيق الميغاسنتر في الانتخابات البلديّة في جبل لبنان فسنحتاج إلى وضع 333 صندوقًا لأنّه يوجد 333 بلديّة في هذه المحافظة”.
شمس الدين: الميغاسنتر يُساعد المواطنين على التحرّر أكثر، والمشاركة في شكل أكبر بالعمليّة الانتخابيّة، إذ إنّ تطبيقه يوفّر كلف النقل على المواطنين
من ناحيته، يتحدّث مراد عن أنّ “الميغاسنتر غير مطروح كثيرًا في الانتخابات البلديّة في الوقت الحاليّ، لأنّ تطبيقه صعب جدًّا من الناحية التقنيّة، إذ إنّ إدارة الانتخابات البلديّة والاختياريّة مرتبطة بكلّ بلدة، ممّا يجعل أمر جمع المواطنين بعضهم مع بعض في غاية الصعوبة”، مشيرًا إلى “أنّ إمكانيّة جمع المواطنين في الانتخابات النيابيّة أسهل، فعلى سبيل المثال، يمكن افتتاح عدّة أقلام اقتراع لناخبي دائرة بنت جبيل الصغرى في بيروت، بحيث يتمكّن جميع المواطنين ممّن سبق وأن سجلوا أسماءهم من أن يقترعوا في هذه الأقلام، أيّ أنّها عمليّة مُشابهة لعمليّة اقتراع المغتربين”.
ويلفت مراد إلى أنّ “لبنان يملك الإمكانات الماليّة والإداريّة لتطبيق الميغاسنتر، والمثال على ذلك هو اقتراع المغتربين وموظّفي الدولة (الذين يقترعون قبل أيّام من يوم الاقتراع العام)، فيمكن أن يتمّ تنفيذ ذلك من خلال وضع سجلّات مستقلّة لجميع المواطنين بعد أن يسجّلوا (أونلاين) المكان الذي يرغبون في التصويت من خلاله، وتحديد أقلام مخصّصة لهم وفق هذه السجلّات، وهناك كثير من القاعات والأماكن التي يمكن استخدامها”.
البطاقة الإلكترونيّة الممغنطة والميغاسنتر
ويؤكّد مراد أنّ “هناك مصلحة للناخبين في الميغاسنتر، إذ إنّه يضمن حرّيّة الناخب وعدم ممارسة الضغوط المعنويّة أو الماليّة عليه”.
وفي السياق عينه، يوضح شمس الدين أنّ “قانون الانتخاب لم ينصّ على إنشاء الميغاسنتر، إنّما نصّ على البطاقة الإلكترونيّة الممغنطة التي تُشكّل مدخلًا إلى الميغاسنتر. ففي حال إنشاء هذه البطاقة يسهل تطبيق الميغاسنتر، إذ إنّه عند اقتراع أيّ مواطن، في أيّ مكان يُشطب اسمه من مكان قيده الأساسيّ، ولكن في حال عدم وجود البطاقة الممغنطة كما هي الحال في الوقت الآنيّ، إذ يتمّ الاقتراع ببطاقة الهويّة أو جواز السفر، وأردنا تطبيق الميغاسنتر، فهناك احتمال أن يقوم الناخب بالاقتراع في مكانين”.
ويلفت إلى أنّه “في هذه الحال ينبغي اللجوء إلى التسجيل المسبق بحيث يقوم المواطن بالإعلان عن المكان الذي يرغب الاقتراع من خلاله ويتمّ شطبه في مكان قيده الأساسيّ”.
ويُشير شمس الدين إلى أنّه “لا يمكن الجزم بالجهة السياسيّة التي ستستفيد من نتائج الانتخابات في حال تطبيق الميغاسنتر، ولكنّ المواطنين الذين لا يريدون أن يبيعوا أصواتهم ويرغبون بانتخاب مرشّحين مستقلّين لا ينتمون إلى أصحاب المال والسلطة هم من سيستفيدون من تطبيقه”.
مراد وتجربته الانتخابيّة
أمّا مراد، الذي خاض تجربة الانتخابات النيابيّة الأخيرة العام 2022 في دائرة الجنوب الثالثة (النبطية، بنت جبيل، حاصبيا، مرجعيون)، فيؤكّد أنّه “لو طبّق الميغاسنتر في تلك الانتخابات، لا سيّما في الجنوب، كانت النتيجة ستكون أفضل، لأنّ هناك مواطنين لم ينتقلوا إلى بلداتهم للإدلاء بأصواتهم لأنّ إمكاناتهم الماليّة لم تسمح بذلك، واللائحة التي كانت تواجه لائحة السلطة في الجنوب لم تكن تملك الإمكانات الكافية لتغطية هذه الكلف”، مضيفًا “كذلك هناك مواطنون يؤثرون الابتعاد عن المشهد بغية عدم الوقوع بإحراج مُعيّن أو التأثّر بالضغط الذي يُمارس من خلال الدعاية الانتخابيّة”.
ويلفت مراد إلى أنّ “هناك كثيرًا من المواطنين المؤيّدين للائحتنا ممّن كانوا يرغبون في أن يكونوا مندوبين، لكنّ حجم الضغط المعنويّ الذي يتعرّض له المندوبون كبير ممّا دفعهم إلى عدم القيام بذلك، وكلّ هذه الثغرات يمكن للميغاسنتر أن يُعالجها”.
ويختم مراد بالإشارة إلى أنّ “الميغاسنتر هو أيضًا يصبّ في مصلحة أحزاب السلطة لأنّ هناك كتلة سكّانيّة في الضاحية الجنوبيّة يمكن أن توفّر على نفسها عناء الانتقال، وبالتالي عندما نفكّر بالإصلاحات لا نفكّر لطرف مقابل طرف آخر، وإنّما ننطلق من مقتضيات المصلحة العامّة، لذا فمن المستحسن إقرار الميغاسنتر واتّخاذ الترتيبات الإداريّة الكفيلة بتطبيقه”.
“أُنتج هذا التقرير بالتعاون مع المنظمة الدولية للتقرير عن الديمقراطية DRI، ضمن مشروع أصوات من الميدان: دعم الصحافة المستقلة في لبنان”.